ترتبط كلمة التمرد بالحركة والعصيان، لكن كورونا جعلتها ترتبط بالسكون والتزام البيوت. الخروج من البيوت لا يتم إلا وقد كمم الشخص وجهه بما يسمى «الكمامة» تخفي فمه وأنفه ويتنفس من تحتها، حتى إذا وجد نفسه في الشارع والاتساع، خلع الكمامة التي يعود إليها مع كل زحام.
الحكومات في العالم فرضت قيودا على الجميع، فالتطعيم صار ضرورة، ثم صار فرضاً فمن غيره لا تستطيع في دول كثيرة دخول المقاهي أو المطاعم أو السينمات والمسارح وغير ذلك من الاحتفالات العامة. كثيرون جدا من الشعوب استجابوا، وكثيرون جدا لم يستجيبوا ولم يصدقوا ما يقال. أنا واحد من الذين لم يستجيبوا، ليس لأني لا أصدق، لكن لأني رأيت كبار السن يعانون معاناة بشعة بعد التطعيم، قد تنقلهم إلى المستشفيات. ساعدني على هذا الرفض أنه لا عمل منتظم لي، ولا خروج اضطراري من البيت، فالتزمت بيتي ورحت أقرأ وأكتب. خشيت التطعيم لأنه في مصر كل من يقوم به يوقّع على ورقة تعفي مركز التطعيم من أي مسؤولية في ما يمكن أن يقع عليه من أضرار.
حين سافرت منذ أكثر من شهرين إلى مستشفى للعظام في زيوريخ لإجراء عمليات صعبة ودقيقة في العمود الفقري، كان سهلا عمل «بي سي آر» من البيت بواسطة أحد المعامل وعبرت به مطار القاهرة ومطار زيوريخ. في المستشفى أجروا لي بعد أربعة أيام فحصا آخر لـ»بي سي آر» من باب الاطمئنان وظهر سلبيا، لكن كان عليّ دائما ارتداء الكمامة حين أغادر الغرفة لأي سبب، أو حين يأتي الأطباء أو الممرضات الذين يتابعون حالتي. صارت كلمة أين الكمامة من كل منهم شعارا، لأنني لم أتعود عليها، حيث مضى عامان وأنا جالس في بيتي. كنت أرتديها وأخلعها فور خروجهم. تابعت من قبل كيف تمردت شعوب كثيرة على التطعيم والكمامة، أو « الماسك» وخرجوا في مظاهرات في بلاد في أوروبا يريدون دخول المطاعم وغيرها، دون أي احترازات. هذا الوباء العجيب كثيرون لا يصدقون أنه وباء طبيعي، بل هو من إنتاج معامل إحدى الدول، الصين أو أمريكا، في إطار الحرب البيولوجية، وكيف هرب الفيروس من المعمل ليملأ الدنيا رعباً.
هكذا صار التمرد على كورونا، فرصة للبقاء في البيت لمن لا عمل له في الخارج، أو الإيمان بالقدر وعدم الالتزام بأي إجراءات احترازية، والوقت يطول بالوباء الفتاك ويتحور، لكن المصريين لا يتخاذلون ولا يتحورون.. تمتلئ بهم المقاهي والمطاعم ووسائل المواصلات والمصالح وغيرها من وسائل الحياة.
لا أحد سيعرف الحقيقة، لكن مثلي يظل يسأل كيف دخل الوباء الآن في السنة الثالثة، بينما قراءة تاريخ الأوبئة تظهر أن أوبئة مثل الطاعون والانفلونزا الإسبانية لم تكن تتجاوز العام إلا نادرا. يتحور فيروس كورونا كل فترة، ومع كل تحور يزداد الرعب وتزداد الضحايا، ويتم الإعلان عن التحور، لكن لا يتم التنبؤ به مسبقا. لقد سبق الفيروس كل البحوث الطبية وصارت تابعة له. كل التنبؤات تقول إنه لن ينتهي قريبا، وسيظل يتحور ويظل البشر رهن الإجراءات التي تقوم بها الحكومات، وإن ظل الكثيرون رافضين لها.
وجدت لنفسي طريقا منذ عامين وهو عدم الخروج من البيت، حتى ظهرت فيّ أمراض قديمة أخرجتني وستخرجني إلى المستشفيات لإصابات أخرى. في العزلة أنجزت رواية من ثلاثة أجزاء نشرتها كلها في كتاب واحد عن دار المتوسط هي «الهروب من الذاكرة» وأنجزت كتابا أو كتيبا صغيرا عنوانه «من نفحات العزلة» هو تأملات في الكون والبشر استفدت منها أحيانا في راويتي التي ذكرتها، وكنت أنشرها على فيسبوك وتويتر لأعلن أني معكم، وإن كنا في الفضاء ولسنا على الأرض. ظهرت دعوات للكتابة عن كورونا وقرأت أخبارا عمن كتبوا روايات عن كورونا، لكني ظللت على حالي أكتب ما كنت أحلم أن أكتبه، موقنا بأن العمر يقترب من النهاية، والحياة لا تزال أقصر مما أريد الكتابة عنه. الرواية الجديدة أصابتها كورونا، ففي معرض القاهرة السابق أرسل الناشر مئة نسخة فقط بالطائرة لصدور الرواية قبل أيام قليلة من المعرض، تم بيعها في ساعات، وبعد ذلك تأخر وصول الرواية لأكثر من ثلاثة أشهر، لأمور خاصة بالشحن أو استلام الموزع للرواية من الجمارك. أمور لا أفهمها ولا أعلق عليها لأني كنت دخلت في مرحلة العلاج مما أنا فيه. ستندهشون حين أقول إن كورونا كانت سببا في كتابة ما أريد.. أجل، كتبت رواية أخرى ليست في حجم السابقة، لكن طبعا لتأخر السابقة في الوصول إلى المكتبات المصرية لم أجد ضرورة لنشر الرواية الجديدة، وأوصيت ابني الكبير زياد أن يحتفظ بها ولا ينشرها لو فارقت الحياة في رحلة العلاج الصعبة، إلا بعد عام من وصول الرواية السابقة إلى مصر، وتمنيت من الله أن لا يُكتب على غلافها الرواية التي تركها المؤلف قبل رحيله. عدت إلى بيتي أخيرا لكن أمامي رحلة أخرى من العلاج في مستشفى مصرية. في رحلة العلاج الأولى أو الثانية التي ستحدث سأتوقف عن الكتابة.. أنتظر الفرج أو الإفراج بعد انتهاء العلاج واثقا من تمردي على كورونا في السجن في البيت، وإن أراد الله أن يضيف إليه سجنا آخر هو المستشفيات. أرى الناس يذهبون إلى أعمالهم بعد أن أصاب الرعب البلاد في عام كورونا الأول، وأرى الأحاديث عنهم في المطاعم أو المقاهي أو المترو والمواصلات، وكيف لا يرتدون الكمامة، أول وأهم عامل للوقاية من كورونا. أشعر، بل أدرك، بأن هذا نوع آخر من التمرد يزيده إيمان المصريين بالقدر المكتوب لأي شخص. المصريون لم يفعلوا مثلما فعل الأوروبيون وخرجوا في مظاهرات ضد ما تفرضه الدولة. قرروا أن يعيشوا حياتهم كما يشاؤون ويتركون الأمر لله.
منذ شهور في أحد مراكز العلاج الطبيعي في مصر لم أر زائرا ولا طبيبا ولا مدربا وقد وضع الكمامة على وجهه، ولما سألت كنت أرى ابتسامة لا أكثر، كأن السؤال من بلد آخر وفي زمن آخر. مصادر وزارة الصحة تعلن عن الإصابات والوفيات التي لا تزال قليلة قياسا على دول أوروبية، وحديث يتكرر وينتشر عن أن الموتي أكثر بكثير جدا مما يتم الإعلان عنه، لكنني لا أتوقف عند ذلك لأني أعرف أن الكثيرين جدا ممن أصابتهم كورونا لم يلجأوا للدولة، بل أخذوا العلاج في بيوتهم بعد أن عزلوا أنفسهم، وأكثرهم ليس له صفحات على فيسبوك أو غيرها، ومن ثم قد يفارق بعضهم الحياة في صمت ولا يتم الإعلان عن أن كورونا هي السبب. هذا شكل آخر من أشكال الرضا بالمكتوب يجيده المصريون عبر التاريخ، وهو يريح الحكومات فلا تجد نفسها في ورطة من أي نوع.
هكذا صار التمرد على كورونا، فرصة للبقاء في البيت لمن لا عمل له في الخارج، أو الإيمان بالقدر وعدم الالتزام بأي إجراءات احترازية، والوقت يطول بالوباء الفتاك ويتحور، لكن المصريين لا يتخاذلون ولا يتحورون.. تمتلئ بهم المقاهي والمطاعم ووسائل المواصلات والمصالح وغيرها من وسائل الحياة. لم يعد الخوف الذي حدث مع ظهور الوباء، بل صار الرفض الداخلي لفكرة وجود الوباء والرضا بالمكتوب، فهذا وباء يطول عهده على غير ما عرفنا في التاريخ كأنه لعنة قدرية. وأمام اللعنة ليس لدى الناس والمصريين إلا الصبر والرضا. تماما كما صبروا عبر التاريخ على الظلم وكانوا يعرفون أنهم مهما وقع عليهم من عسف سيظلون وينجبون ويملأون الفضاء، وسيزول الظالم الذي يضحكون عليه في سرِّهم. الوباء الآن هو الموت الأكبر، ومن ثم ليس أجمل من أن يتحول ضعفهم أمامه إلى الرضا بالقدر حتى ينصرف الوباء، غاضبا من شعب لم يرتعب منه كثيرا، ولم يعد حتى يهتم بكل النصائح مع كل تحور للوباء الأحمق.
روائي مصري
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد والحمد لله على سلامتك والعودة إلى مصر. من ناحيتي أستطيع القول أن جائحة الكورنا نفعتني ولم تضرني, وكما يقال رب ضارة نافعة.
من ناحية هذا الفارق في انتشار الكورونا ومتحوراتها بين أوربا وبلدان أخرى وخاصة في الشرق الأوسط القريب من أوربا, يبدو لي أن المسألة ليست فقط الجائحة من وجهة نظر طبية بل أن هناك جوانب سياسية تلعب دورًا مهمًا. ففي أوربا لو سببت الكورونا بعدد من الضحاياوتبين أن الحكومة لم تقوم بعملها كما يتطلب الأمر ستسقط الحكومة. بينما في بلداننا اللامحررة! يذهب البلد بأكمله إلى الجحيم وتبقى الحكومة والسلطة على الكرسي في الحكم دون منازع ومن يتجرأ على المطالبة بإزاحة الحكومة مصيره الموت حتى لو نجا من الكورونا! لنا الله ومالنا غيرك ياالله.