ليس بالأمر الجديد أن تتشكل حالة من الغضب، تعبر عن نفسها بانتقادات علنية، وأخرى في الغرف المغلقة، حول آلية العمل في الاتحاد الأوروبي، خاصة بين الدول المتوسطية مث اليونان وإيطاليا وإسبانيا، ودول غرب أوروبا ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، إلا أن الجديد في الأمر هو الصورة المهترئة التي قدمتها أوروبا عن فكرة الاتحاد وفلسفته ومستقبله، فالأوروبيون يتركون إيطاليا الدولة المؤسسة والمحورية تعيش وحدها مواجهة شاملة على حافة انهيار نظامها الصحي، في مواجهة فيروس كورونا، وتتذرع كل دولة بعدم قدرتها على التضحية بجزء من الإمكانيات المتوفرة، في ظل أزمة كبيرة وغير واضحة المعالم، وليس معروفاً متى يمكن أن تنتهي.
كل هذه التفاعلات يمكن متابعتها على مدار الساعة، والحديث ربما يجب أن يبدأ مبكراً عن شكل أوروبا بعد انتهاء هذه العاصفة، عن الصعود الكبير للنزعة المحلية، عن تغيرات جوهرية في بنية اليمين واليسار على المستوى السياسي، ومراجعة قاسية لآليات الإنتاج والاستهلاك.
تبدو أوروبا اليوم مثل قارب نجاة يغص بالركاب الخائفين، وحمولته الفائضة تدفع بالأقوى إلى أن يتخير من سيبقى ومن سيدفعون للغرق، ولذلك فالمسألة لا تتخطى سوقاً كبيرا ومفتوحاً لتبادل السلع والعمالة الشابة، وتجديد الدورة الدموية للشعوب، في ظل الاختلال السكاني والميل للشيخوخة في بعض الدول الأوروبية، وعند هذه النقطة تبدأ الأسئلة حول الدولة وحدودها ودورها ومسؤولياتها، وتظهر عبثية الحالمين الذين أرادوا لأوروبا أن تتجاوز تاريخاً طويلاً من الصراع بطريقة قصص الأميرات الخيالية.
الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، الذي كانت بلاده تطمح للدخول في المنظومة الأوروبية، كان الأكثر حدة في توجيه الانتقادات للاتحاد الأوروبي، الذي رفض أن يزود بلاده ببعض احتياجاتها من المستلزمات الطبية، لمواجهة مخاطر تفشي فيروس كورونا، ووصف الاتحاد الأوروبي بالقصة الخرافية على الورق، مناشداً الرئيس الصيني بتقديم الدعم لبلاده، بعد أن فضح بعض الممارسات الأوروبية تجاه الدول التي تسعى للانضمام للاتحاد، وإجبارها على الشراء من أوروبا، وتعديل أنظمة المناقصات، لتجنب المنافسة الصينية، وأردف فوتشيتش: “اليوم وسط الألم والخطر لم يعد المال الصربي ضروريا ورفضوا بيعنا المعدات، أقول شكرا للاشيء.. سأجد طريقة لشكرهم، ليس كما أقوله اليوم ككلمات رئيس دبلوماسية ومهذبة”. المشاعر الصربية كانت الأعلى في حدتها وصراحتها، وتبقى كثير من الدول في محيط القارة العجوز تمضغ على مضض لقمة الخذلان الأوروبي، وتستحلب مرارة اللاشيء الذي تقدمه جنة الاتحاد الموعودة.
ما تحركه كورونا هو درس في إدارة الأنانية، التي أظهرت تأصلها في الذات الإنسانية الفردية والجمعية
الصينيون وجدوا أيضاً أرضاً لاختراق المنظومة الأوروبية، مع مبادرتهم تجاه إيطاليا، التي أتت في صورة معدات طبية، مع اقتباس ذكي من الفيلسوف الروماني سينيكا: “نحن أمواج من البحر نفسه”، والصين إذ تتخير فيلسوفاً رومانياً، ولا تستبعد النوايا الطيبة، تخبر الإيطاليين بأنهم يمكن أن يجدوا حليفاً أكثر إنسانية من جيرانهم في الاتحاد. العولمة التي حملت فيروس كورونا إلى أقطاب الأرض الأربعة على أجنحة الطيران رخيص التكلفة، والتبادل التجاري الكثيف، تقبع هي الأخرى في قفص الاتهام، والارتداد عن العولمة تجاه التعويل على وجود طاقات إنتاجية محلية، سيصبح مطلباً محلياً في العديد من الدول، ففي المنطقة العربية يجب أن تعود زراعة القطن في مصر وسوريا، بعد أن تراجعت نتيجة تفاعلات التجارة العالمية، وكذلك زراعة القمح في الأردن وسوريا، فالانصياع لخريطة تجارية وإنتاجية تناسب الدول المتقدمة، لم يعد مجدياً ولا عقلانياً، وردة الفعل الأوروبية، والسلوك الأمريكي المتوقع في حالة استمرار الأزمة، وبعدها لتعويض الخسائر المترتبة عليها، كلها دلالات على ضرورة التحرك بمعزل عن التبعية الاقتصادية.
كورونا ليس إلا مقدمة وناقوس يدق بالخطر، ويجب الاعتراف بأن التهالك في قدرات المضادات الحيوية في مواجهة الميكروبات، من شأنه أن يجعل العالم يعيش تجارب أخرى وشيكة، كما أن مخاطر التغيرات المناخية التي تنكرها كثير من الدول المتقدمة، لمصلحة السيطرة الصناعية، من شأنه أن يلقي بكثير من التحديات الأخرى، ولا يشمل الحديث الواقع الذي يفرض نفسه بوجود شعوب تعيش على فوائض تحققت من ثروات وأزمات شعوب أخرى، فصناعة الشوكولاته البلجيكية مثلاً تقوم على أكتاف الأطفال في غانا، والهواتف الذكية الكورية والصينية، تستنزف من اللحم الغض لأطفال في عمر البراءة في الكونغو، وهذه الصورة لا يمكن تفكيكها بالحديث عن التعاون الحالم والمثالي، ولكن بتبادل القدرة على ممارسة الأنانية الواعية، لأنها ستبني الصراحة الكاملة التي يقوم على أساسها نظام عالمي يعبر عن الندية، ويستبعد التكاذب، الذي يبدو أنه لا ينسج سوى القصص الخرافية على النمط الأوروبي.
ظهرت الأنانية اليوم في السياسة العالمية، وستتوسع لتسيطر على التفكير والسلطة في العديد من الدول، وما تحركه كورونا هو درس في إدارة الأنانية، التي أظهرت تأصلها في الذات الإنسانية الفردية والجمعية، على مستوى الدول بأكثر مما تفعل دعاوى ومسرحيات الإيثار، فالتاريخ كان يتقدم دائماً على عربات الأنانية، التي أثبتت فاعليتها، ومشاعر الإيثار، على ما يظهر من القراءة ما بين السطور، لم تكن إلا أدوات لممارسة الأنانية بصورتها الناعمة، والأفضل هو ممارسة الأنانية الواعية.
كاتب أردني
شكرا لك استاذنا علي هاد المقال