يكاد الباحثون الغربيون يجمعون على أنّ الرواية الخياليّة ـ العلميّة اتّخذت شكلها الخاصّ، عند منعطف القرن العشرين؛ وهم يسوّغون ذلك بجملة أسباب، يمكن حصرها أو اختزالها في سببين اثنين: أحدهما استقرار أسس النظريّة النسبيّة، والآخر التقدّم العلمي الهائل الذي عرفه الغرب عامّة. وإن كنت أفضّل مصطلح «التخيّل العلمي»،فالأقرب إلى «فيكسيون» الفرنسيّة Fiction كلمات من نوع «تخيّل» أو «وهْم» أو «اختلاق» وما إليها. فضلا عن أنّ من معانيها ـ وهو في الصميم ممّا أنا به ـ «قصّة خياليّة» أو «قصّة متخيّلة» أساسها سرد أحداث من خلال الإيهام بواقعيّتها، وأنّ مصدرها عقليّة علميّة منطقيّة أو قياسيّة؛ يمكن بلوغها في المستقبل البعيد.
هذا النوع من الأدب يضرب بجذوره في التاريخ الأقدم، والبعض يرجعه إلى ملحمة جلجامش، وإلى «ألف ليلة وليلة»، وأساطير الآخرة مثل «رسالة الغفران» للمعرّي و«الكوميديا الإلهيّة» لدانتي، وما إليها ممّا يشكّل مبحثا قائما بذاته. وهي على ما أرجّح صور أساسها التنبّؤ بالمستقبل، أو هي من الكهانة التي فصّل القول فيها ابن خلدون، وذهب إلى أنّها «انقطعت بين يدي النبوة فقط» وابن خلدون وإن كان لا ينقض القول مباشرة بأنّ الكهانة ذات مصدر غيبيّ، فإنّه يؤكّد في الآن ذاته على أنّها من صنع البشر أنفسهم، وأنّها في الواقع ليست قدسيّة ولا غيبيّة، وأنّ النبوّة لا تبطل وجودها واستمرارها. ولعلّ ابن خلدون أميل إلى القول بأنّ الكهانة ظاهرة نفسيّة. يقول: «وأما الكهانة فهي أيضا من خواصّ النفس الإنسانيّة. وذلك أنه قد تقدّم لنا في جميع ما مرّ أن للنفس الإنسانية استعدادا للانسلاخ من البشريّة إلى الروحانيّة التي فوقها» والحقّ أنّ الأمر راجع على ما نرجّح إلى المخيال الإنساني نفسه حيث ينشد البشر أبدا سعادتهم أو خلاصهم أو معنى يضفونه على حياتهم، صادرين عن رغائبهم وأمانيهم، أو عن ميولهم وآمالهم؛ أو عن حاجة ماسّة إلى شيء خارج عنهم، كلّما قضّهم مرض أو اكتنفه وباء لا رادّ له.
على أنّ ما يعنيني في السياق الذي أنا فيه أدب «التخيّل العلمي» الذي شهد انتشارا واسعا منذ الثلث الأوّل من القرن العشرين، خاصّة في بريطانيا وأمريكا ثمّ فرنسا، في سلسلة من المجلّات والأفلام المشوّقة، لكن على أساس من «الواقعـــيّة العلميّة».
ومن أشهرها مجلّة هوجو غــــرنسباك واضع مصطلح «التخيّل العلمي» Amazing Stories 1926 ، وقد تخصّصت في نشر قصص الخيال العلمي، وكان هدفها من ذلك تعليميّا؛ وهو نشر مبادئ العلم وتبسيطها على أساس الجمع بين الحسن والنافع كما نقول أو بين الإمتاع والمؤانسة.
وخلال ثلاثينيات القرن العشرين، ظهرت مجلاّت أخرى من هذا النوع ، بما في ذلك مجلاّت أمريكيّة كانت تنشر قصصا خيالية مذهلة عجيبة. وكان لها رواج كبير عند عامّة الناس، بمن فيهم أولئك الذين لا علاقة لهم بالكتاب والقراءة. وأمّا أفلام الخيال العلمي، فقد ازدهرت في الخمسينيات وبدايات الستينيات من القرن الماضي، وتعود منذ عقدين بقوّة في السينما والفيديوهات؛ وإن كان أوّل فيلم من هذا الصنف هو «رحلة إلى القمر» لجورج مالياس، قد ظهر مبكّرا جدّا أي 1902. ويمكن أن نذكر أيضا»ميتروبوليس» لفريتز لانج1927، وهو أوّل فيلم يستخدم الروبوت، و«الكوكب الممنوع» لفريد ويلكوكس1956 ومداره على رحلة في الفضاء، وعلى العلاقة بين التكنولوجيا والإنسان. وهي علاقة لا يمكن أن يخلو منها هذا النوع من الفنّ أو الأدب، إذ أدرك كتّابه مدى الحاجة إلى معالجة هذا التطوّر العلمي المذهل، حيث المستقبل يكاد أن يكون جزءا من الحاضر، كما تقول فالينتينا أيفاشيفا في مصنّفها «الثورة التكنولوجيّة والأدب».
هذا النوع من التخيّل الروائي العلمي يفيض على الرواية بالمعنى الأدبي الذي استتبّ لها. وهو من «الأجناس التخييليّة»، أو هو قصّة وتخييل، أو هو ملتقى العلم والحياة. وفيه يتّخذ السرد هيئتين متلازمتين: فهو سرد تالِ أو لاحق، حيث ترتسم علاقة أولى بين مُرسِل قاصٍّ أو ساردٍ ومرسَل إليه مرويّ له فمتلقّ لا يحدّ ولا يصنّف، أو هو متحرّر من رقّ الزّمان والمكان، لأنّه الإنسان في كلّ زمان وفي كلّ مكان، أو هو «المخاطـَب المتخيّل» أو»المفترَض» الذي يسعى المتلفظ إلى التحكم في أنساقه الفكريّة، واستباق ردود أفعاله أو استنهاضه إلى فعل ما. ومن هنا يتّخذ السرد هيئته الثانية، فهو سرد سابق يناسب القصّ الذي أساسه التنبّؤ أو الإخبار بالمستقبل. والمستقبل في هذا الضرب من القصص، إنّما يروى وكأنّه حدث وقع؛ أو أنّ أساسه كان ما سوف يكون. أمّا اللجوء إلى الماضي في أكثر هذا النوع من الأدب، فهو ممّا يسلبه قيمته الزمنيّة، ويجعل منه مجرّد علامة على «التخيّليّة»، بل إنّ دلالة الفعل الماضي في هذا النوع، إنّما هي على الحال أي الحاضر والاستقبال معا، مثلما هي على حدوث شيء قبل زمن التكلّم. وهي طريقة في بعث المستقبل وتصويره في صورة الذي يحدث في الحال. فلا غرابة أن يكون مدار هذه الروايات الخياليّة على السفر عبر المجرّات والكواكب المجهولة أو المأهولة بكائنات غريبة؛ أي قهر الزمن؛ وكأنّ الإنسان يريد من الزمن أن يبلّغه ما ليس يبلغه الزمن من نفسه.
في هذا السياق يمكن أن نفهم كيف تثير الكورونا كلّ هذا الهلع من احتمال فناء الجنس البشري في حرب بكتيريّة، وكيف تزدهر أسطورتا التفوّق والمؤامرة عند كثير من العرب والمسلمين والأفارقة، وربّما عند غيرهم أيضا.
تقول فالينتينا أيفاشيفا عن رواية التخيّل العلميّ أو لنقل»الرواية العلميّة»، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إنّها تسعى إلى صياغة صورة مفردة للعالم، واختراق فضاء العالم الكبير، وعالم الجزئيّات الصغير، الأمر الذي أفضى إلى ظهور ما تسمّيه «الرواية الخياليّة العلميّة البيولوجيّة» استئناسا بدليل النظام التناسلي الوراثي، وعلوم الجينات أو الموروثات. وكثير من كتّابها يبنون النصّ في ضوء رموز الدليل الوراثي أو الذاكرة الوراثيّة المنقولة من جيل إلى جيل؛ وكأنّ الحياة لم تعد سرّا أو لغزا، بل ربّما صار الإنسان قادرا على خلقها أو صنعها. في الرواية العلميّة «نهاية الأبديّة» لايزاك أسيموف الأمريكي من أصل روسي (1920/ 1992) لا نقرأ بشارة كما قد يوهمنا العنوان، وإنّما نذير بنهاية العالم، حيث يقوم البطل برحلة في ثنايا الزمن إلى القرن 50.000 فالقرن 70.000 ويترحّل عبر الماضي السحيق، في سفينة فضائيّة. وفي ذلك كلّه لا ترتسم صورة للأبديّة وحسب، حيث تقدر قلّة من الخالدين على تغيير التاريخ البشري، وإنّما صورة المجتمع المشطور، حيث تتجمّع الثروة والسلطة في أيدي أقلّيّة تكنوقراطيّة تستبعد الفرد، لا بواسطة العنف، وإنّما بالأساليب العلميّة المؤثّرة. ونقرأ اليوم كيف أنّ العلم والتكنولوجيا هما جلد ثانٍ للانسان، وأنّهما يمتلكان القدرة على تحريرنا من ربقة الزمان والمكان، بل هناك من يقول إنّ أربع قوى تدفع الإنسان قُدُما إلى التفرّد الذي لا شبيه له. أوّلها عالم إنسانيّ مترابط، وثانيها إعداد البشر لاستكشاف عالمهم الجديد أي الفضاء، وثالثها الذكاء الاصطناعي، ورابعها ما يسمّيه العلماء «التقدّم في واجهات الدماغ ــ الكومبيوتر». وهذه القوى المتضافرة ستفضي بالإنسان، كما يقرّر العلماء، إلى اكتساب «الدماغ الرابع» مصدر «الذكاء الأعظم». وقد ينشأ «ضمير إنساني» أفضل بكثير من ضميرنا اليوم.
في هذا السياق يمكن أن نفهم كيف تثير الكورونا كلّ هذا الهلع من احتمال فناء الجنس البشري في حرب بكتيريّة، وكيف تزدهر أسطورتا التفوّق والمؤامرة عند كثير من العرب والمسلمين والأفارقة، وربّما عند غيرهم أيضا. أسطورتان يقدّمهما لنا الإعلام، باعتبارهما قدرا لا يمكن ردّه. وهي صورة نافقة راجت تجارتها، وكان من أهمّ أهدافها، ترسيخ الانطباع بأنّ ما يواجهه العالم «وحش هائل» أو «فيروس مصنّع» لا يمكن الوقوف في طريقه» فما بالك بصدّه. والحقّ أنّ بريق هذه الأسطورة لا يكاد يخفت في فترة، حتى يعود أشدّ مضاء وقوّة كما يحدث اليوم، مع تفشّي هذا الوباء. وهناك أجهزة «سرّية» في أمريكا والصين وروسيا وغيرها، تمتلك قدرة فائقة على تحويل الأنظار من قضيّة إلى أخرى، وعلى تشويق متتبعي أخبارها، كلما تداركها فتور ما، فإذا هي تفكّ أنشوطتها وتجدّد فاعليّتها في إيهام الناس بأساطيرها. ولعلّ أبلغ مثال على ذلك «كورونا» التي تتعامل معها طوائف من الناس في شتّى أنحاء المعمورة التي لم تعد «معمورة»، وقد أخذ الناس يلزمون بيوتهم؛ على أنّها بداية حرب بيولوجيّة أو جرثوميّة، وكأنّنا في فيلم من أفلام التخيّل العلمي. وهذا وغيره يؤكّد كيف تنجح أساليب الخداع المتوخّاة في أفلام التخيّل العلمي، في فرض هذا العالم الافتراضي علينا، حيث تتكفّل فيه الصورة بصنع الحدث وإذاعته. على أنّ هذا الوباء وقد جعل العالم يعيش وكأنّه في «بطن الحوت» يمكن فنّيّا وأدبيّا أن يعبّر عن روح أخرى وثّابة تقتحم المجهول حتى تسخو بمدّخر قوّتها في آداب المستقبل وفنونه.
٭ كاتب من تونس
سي المنصف تحية لك وللجميع:
ألم تكن صقلية تحت حكم القيروان أيام فتك الطاعون بأسد بن الفرات؟