كنت قد أنهيت مقالي السابق بسؤال حول مصير الأخلاق الإنسانية في حال اختفاء فكرة العقوبة الدينية أو على الأقل في حال تغيير طبيعتها؛ أن ماذا سيكون مصير المنظومة الأخلاقية البشرية إذا ما تم تغيير تفسير مفهوم عقوبة الحرق بالنار تواؤماً مع المنطلقات الإنسانية لمفهومي الثواب والعقاب وتصالحاً مع المنطلقات المنطقية لحقيقية الأخلاق الكامنة في حرية اختيارها لا القسر عليها تخويفاً وترهيباً؟ ماذا لو تم تبني التفسيرات الأكثر فلسفية والأقل حرفية لفكرة النار وعذاباتها لتحرير إرادة البشرية من الخوف، وبالتالي تشكيل منظومة أخلاقية قوية مبنية على حرية الإرادة والاختيار لا على الخوف والمحاولة المستمرة المرتعبة لتفادي الحرق؟ ترى هل سيجن جنون الناس وتنتشر الجريمة ويستفشي الشر وتتهدد المنظومة الأخلاقية في حال اختفاء القسر العقابي وتمكين حرية الاختيار؟ هل هناك حالياً مجموعات بشرية تحكمها منظومات أخلاقية متحررة من التهديد بعقوبة والتمكين بالخوف؟
تعد اليابان إحدى أكثر الدول مدنية وعلمانية في مجالها العام، وعلى الرغم من قوة منظومة العادات والتقاليد ذات البذور عميقة الغرس في الأيديولوجيات الدينية اليابانية المختلفة والقديمة قدم البشرية تقريباً، إلا أن اليابانيين نجحوا في تحييد الدين وتطويقه في المجال الخاص باعتباره ممارسة روحانية مرتفعة الخصوصية بين الإنسان والقوى العليا. وعلى الرغم من هذا الفصل التام بين المدني والديني، وبين السياسي والروحاني، وعلى الرغم من غياب الخطاب العقابي في المجال العام، حيث لا تهديد ولا وعيد بأي نوع من أنواع التعذيب المرعبة المختلفة، إلا أن الحياة اليابانية هي حياة عميقة الغرس الأخلاقي، يلتزم فيها الفرد إلتزاماً خلاباً مثيرأً للإعجاب بالمنظومة الأخلاقية العامة المتفق عليها والمقننة مدنياً. يأتي غياب التهديد العقابي في الأيديولوجيات اليابانية من الفكر الفلسفي للأديان القديمة المختلفة، بدءاً من الشنتو وربما ما قبلها من أديان مرتبطة تمام الارتباط بالطبيعة، ووصولاً إلى البوذية التي تعتمد جميعها على فكرة تحقيق هدف سام من الوجود الإنساني، تركيزاً على الكيفية التي يحيا بها الإنسان بشكل فاضل أخلاقي في هذه الحياة بعيداً عن فلسفة الحياة الأخروية.
لقد أصبحت المنظومة الأخلاقية جزءاً لا يتجزأ اليوم من السمعة اليابانية ومن تكوين مفهوم الشرف المجتمعي عندهم، فالشرف ليس مظهراً، والشرف ليس امرأة مكنونة عذراء، الشرف الياباني هو تصرف ومعاملة واحترام للوجود والاختلاف الإنسانيين.
وبمقارنة سريعة بين دولتين مختلفتي التوجه الديني، وهما اليابان والولايات المتحدة، نجد في وقت الكوارث أن أعلى نسبة من التخريب والتكسير والسرقات تحدث في الولايات المتحدة المرتفعة نسبة التدين، في حين أن أقلها يحدث، إن حدث أصلاً، في اليابان صارمة العلمانية، حيث نقل الإعلام العالمي أنه وبعد كارثة التسونامي الضخمة في اليابان والتي وقعت في 2011 وتركت الناس مشردين بعد تحطم منازلهم وضياع أملاكهم، شوهد هؤلاء اليابانيون يقفون في طوابير طويلة عند مراكز الإيواء والمساعدات الحكومية للتحصل على كيس خبز، في حين تنتشر في الشوارع وحول طوابيرهم الطويلة الأجهزة الإلكترونية وبعض الأشياء الثمينة التي تبعثرت وتناثرت من المحلات والبيوت إثر الهجوم التسونامي الكاسح. لم يفكر أحد في مد يده على شيء ليس له ملقى في الشارع، التزاماً من الجميع «بالكود» الأخلاقي العام بصرامة وإصرار، حيث لم يتم الإبلاغ عن حالة سرقة أو عنف واحدة إبان هذه الكارثة، ليثبت اليابانيون للعالم أن اليابان كوكب آخر منفصل بالفعل.
لم يكن دافع اليابانيين دينياً، لم يكن ما منعهم هو خوف من عقوبة أو رغبة في مثوبة، كان الدافع أخلاقياً بحتاً، وكان المانع هو ضمير ووعي تدربا بصرامة على احترام الآخر وحقوقه وتقديس المنظومة الأخلاقية التي، كما يؤمن اليابانيون، تضمن بقاء الجميع واستمرارهم. لقد أصبحت المنظومة الأخلاقية جزءاً لا يتجزأ اليوم من السمعة اليابانية ومن تكوين مفهوم الشرف المجتمعي عندهم، فالشرف ليس مظهراً، والشرف ليس امرأة مكنونة عذراء، الشرف الياباني هو تصرف ومعاملة واحترام للوجود والاختلاف الإنسانيين. لا أدعي بكل تأكيد أن كل ياباني يسير على هذا الطريق، ولكنها المنظومة الأخلاقية اليابانية الصارمة التي تشكل ظاهرة غاية في التفرد لتشمل أكبر عدد من المواطنين اليابانيين، هي التي تبرر الحديث بهذا القدر من التعميم. لم يحتجِ اليابانيون إلى تهديد أو وعيد حتى يلتزموا بقواعدهم الأخلاقية، احتاجوا تدريباً وإقناعاً وغرساً ضمائرياً عميقاً وبرمجة صارمة عسيرة التفكيك، ليتحولوا إلى هكذا شعب صارم الأخلاق عصي على التصرف المبتذل، ملتزم مهما كلفهم الالتزام ومهما تبدت لهم من فوائد لكسر شفراتهم الأخلاقية.
ما هو الفرق بيننا وبينهم؟ الفرق هو أن التهديد والوعيد والتخويف مؤقت الأثر، بمرور الزمن تقل حدة تأثيره، ليجد الناس طرقاً مختلفة للالتفاف عليه للتمكن من الاستمرار في حياتهم فكاكاً من قبضة الرعب من أنواع العذاب المختلفة الموعودين هم بها. من أوضح وأهم طرق الالتفاف هذه هي الفتاوى الغرائبية المختلفة التي يمكن من خلالها لرجال الدين «الرجال» المؤمنين أن يحققوا رغباتهم تحرراً من الخوف من العقوبة الأخروية، حيث ترتفع نسبة المخارج الشرعية الغريبة، خصوصاً للرجال، والتي تمكنهم من تحقيق أغراضهم، مهما بدا من عدم أخلاقياتها أحياناً، دون قلق. هذا الأسلوب يعزز فكرة أن «الغاية تبرر الوسيلة» ويغرس عميقاً التوجه الالتفافي الذي يبدو هو الوحيد القادر على مقاومة رعب المنظومة العقابية الأخروية، ليتحول العديد منا إلى مراوغين متحينين الفرص لتحقيق الأهداف مهما كانت غير أخلاقية، إلا أن البحث الفلسفي لمنظومة الفكر الديني يشير إلى إشكالية أخرى لربما تكون ذات عمق أكبر، ولربما تكون هي موضوع المقال المقبل.
المشكلة الاصلية عند اتباع الديانات السماوية ليست بالثواب والعقاب في الدنيا والاخر وانما في مسح الذنوب والمعاصي اي الغفران للخطايا فلذلك ترى الناس في مجتمعاتنا ترتكب كل المعاصي لانها مؤمنة ان هناك مسح للذنوب مفابل اطعام جياع او ذبيحة او زيادة في الصلاة والصوم لذلك لا يلتزمون بقوانين الدولة بل باراء رجال الدين عند وجود مصالح شخصية لديهم