كولن بأول: يتيم على موائد لئام أمريكا

حجم الخط
4

للمرء خيارات شتى في إرسال كولن باول (1937-2021) إلى سلّة مهملات التاريخ، بمنأى عن التعريفات والعناوين الكبرى التي تختصر مسيرته؛ غير العادية، كما يتوجب الإقرار، في إطار حكاية أوّل أسود في مناصب: مستشار الأمن القومي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، وزير الخارجية. هنالك في المقابل، وعلى سبيل الاستئناس، واقعتان يمكن أن تختصرا جهد التنقيب عن الوجهة الأكثر تمثيلاً لمسارات الرجل، في ذهابه إلى سلّة خصصها التاريخ لعشرات سواه من ساسة أمريكا خلال العقود القليلة المنصرمة.
الواقعة الأولى تعود إلى شباط (فبراير) 2003، حين رضخ باول لضغوطات ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي يومذاك، وسمح للمخابرات المركزية الأمريكية أن تكتب نصّ خطابه أمام مجلس الأمن الدولي؛ الذي سيدخل التاريخ بوصفه واحداً من أشدّ أكاذيب أمريكا تلفيقاً ومخادعة وغشاً. يومها أمسك باول، ولوّح أمام العالم، بـ«دليل» انخراط نظام صدّام حسين في إنتاج أسلحة دمار شامل، نووية وبيولوجية وكيميائية؛ ولسوف يقضي عقوداً من عمره وهو يسعى لدفع الخزي الذي اقترن بتلك البرهة، وكيف أن مدير المخابرات المركزية آنذاك، جورج تينيت، لم يكتفِ باستغفال عقل الجنرال/ وزير الخارجية فقط، بل حوّله إلى دمية ناطقة، واستخدمه بهذه الصفة تحديداً.
واقعة أخرى، أسبق بسنوات لكنها ليست منقطعة عن سياقات انخراط باول في ثقافة الخداع الرسمية، شهدها العام 1969، حين حرص الرائد باول، من موقعه كمساعد رئيس أركان الفرقة 23 مشاة، على وأد التحقيقات في مجزرة «ماي لي» الشهيرة، 16 آذار (مارس) 1968؛ التي ذهب ضحيتها بين 347 و500 مدني فييتنام، أجهزت عليهم وحدات عسكرية أمريكية. ولسوف يسوق في تقريره جملة من الملابسات الملفقة التي استهدفت تبييض صفحة القتلة من جنود الفرقة، وترجيح اعتبارات عسكرية مضللة كانت وراء استخدام الذخيرة الحية على نطاق واسع ضدّ مدنيين عزّل. وسيحتاج باول إلى 35 سنة لاحقة كي يقول، خلال حوار مع لاري كنغ على الـCNN، إنّ من المحتم أن تشهد الحروب مثل هذه «الأشياء الفظيعة»!
وخلال تلك الفصول من مسارات حياته كان باول أشبه بيتيم على موائد لئام من أمثال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، والخماسي الشهير تشيني، وزير الدفاع دونالد رمسفيلد، مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، رئيس هيئة سياسة الدفاع ريشارد بيرل، ونائب وزير الدفاع بول ولفوفيتز. لكنه لم يكن ذلك اليتيم المجبر على الكذب وإطاعة الأوامر والانخراط في الركب من منطلق أنه أوّل السود في مواقع حساسة داخل آلة السلطة في الإدارة الأمريكية، بل كان بدرجة كبيرة المتطوّع إلى الانصياع والراغب فيه والطامع/ الطامح إلى سدّة أعلى فأعلى؛ حتى إذا اقتضى الأمر أن يكون شاهد زور من نوع خاصّ، بدلالة بشرته السوداء وانتمائه إلى أسرة مهاجرة وتمثيله لهذا الجانب تحديداً من خرافة «الحلم الأمريكي».
وفي الوسع، هنا تحديداً، العودة إلى مواطنه هاري بيلافونتي، المغنّي والممثل والناشط الأفرو ـ أمريكي؛ الذي عبّر ذات يوم عن قناعة الغالبية الساحقة من الأفرو ـ أمريكيين بصدد باول: أنه يذكّر بالفارق بين العبد الذي يعمل في المزرعة، والعبد الذي يعمل داخل بيت السيّد الأبيض ويُمنح امتياز «العيش في البيت إذا واصل خدمة السيّد… تماماً كما يرغب السيّد في أن يُخدم». باول، حسب بيلافونتي، «التزم بالعيش داخل بيت السيّد. وحين يجرؤ على الإيحاء بشيء مختلف عمّا يريد السيّد سماعه، فإنه عندها سوف يُردّ إلى المراعي».

كان باول المتطوّع إلى الانصياع والراغب فيه والطامع/ الطامح إلى سدّة أعلى فأعلى؛ حتى إذا اقتضى الأمر أن يكون شاهد زور من نوع خاصّ، بدلالة بشرته السوداء وتمثيله لهذا الجانب تحديداً من خرافة «الحلم الأمريكي»

ولم يكن بيلافونتي من هواة خوض المعارك الإعلامية المجانية، أو افتعال الحروب الشخصية، أو اصطناع المواقف الراديكالية، إذْ «كان راديكالياً قبل زمن طويل من انتشار الموضة، وظلّ راديكالياً بعد زمن طويل من انقراض الموضة» حسب تعبير هنري لويس غيتس الابن، أبرز النقّاد السود المتخصصين في الثقافة الأفرو – أمريكية. ولهذا فإنّ سخريته من باول لم تكن تمسّ الشخص ذاته، ولا تدور حول الموقع، بل تتوغّل عميقاً في سيكولوجية خيانة الرأي لصالح الامتياز، وإحناء الرأس بغرض الارتقاء في الموقع.
وفي أواسط العام 1999، نشرت أسبوعية «تايم» الأمريكية سلسلة أعداد خاصّة كرّستها لتعيين الشخصيات الـ100 الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، وعلى امتداد خمسة أعداد بمعدّل 20 شخصية في كلّ مرّة، حصر التحرير رجالات القرن في التصنيفات التالية: «قادة وثوّار» «فنّانون ومغنّون» «بُناة وجبابرة» «علماء ومفكرون» «أبطال وأيقونات». ولم يكن مدهشاً أن تضمّ لائحة أبطال القرن العشرين وأيقوناته شخصية الجندي الأمريكي The American G.I، والتي اختار لها التحرير توصيفاً مهنياً عجيباً: «جندي من أجل الحرية».
الجنرال كولن باول كتب المادّة، وجاء التالي في تقريظه لجنود الحرية أولئك: «إنهم أمريكا. لقد عكسوا أصولنا المتنوّعة. وكانوا تجسيد الروح الأمريكية في الشجاعة والتفاني. إنهم بالفعل جيش الشعب الذاهب في حملات صليبية للحفاظ على الديمقراطية والحرية، ومن أجل هزيمة الطغاة، وإنقاذ الشعوب المقهورة. إنهم مصدر فخار عائلاتهم. إنهم الجندي رايان، ولقد وقفوا بثبات في خطّ الدمّ الرفيع». غنائية الجنرال لم تنتهِ هنا، إذْ بعد تعداد مآثر هؤلاء في الحربَين العالميتَين، وفي كوريا وفييتنام، وفي الحرب الباردة (!) وصولاً إلى العراق والبلقان، كتب الجنرال: «كان أفراد الـ G.I. على استعداد للسفر البعيد والتضحية بأرواحهم، إذا اقتضت الضرورة، من أجل ضمان حقوق وحرّيات الآخرين. ووحدها الأمّة التي على مثالنا، المرتكزة على قاعدة أخلاقية صلبة، هي القادرة على مطالبة مواطنيها بهذه التضحية. وأفراد الـ G.I. لا يطلبون شيئاً آخر سوى القيام بالمهمة والعودة سالمين إلى الوطن. والأجر الوحيد الذي يطلبونه من الشعوب التي حرّروها هو أن تصبح جزءاً من عالم الديمقراطية ــ وقطعة أرض كافية من أجل دفن رفاقهم الذين سقطوا على الدرب، أسفل صلبان بيضاء بسيطة ونجوم داود».
الأرجح أنّ المخابرات المركزية الأمريكية لم تكن كاتبة ذلك النصّ، الذي احتاج في المقابل إلى كاتب خطابات «متبحر» في حروب الحضارات والترميز الديني (حملات صليبية، صلبان بيضاء، نجوم داود)؛ وفي السينما الهوليودية (الجندي رايان) وفي بلاغة الأضاليل الرخيصة (إنقاذ الشعوب المقهورة، القاعدة الأخلاقية، الأمّة المثال). ولعله كاتب زميل، أو حتى تلميذ، لكاتب خطب بوش الابن، خاصة تلك التي سعى فيها إلى غسل أدمغة الأمريكيين قبيل غزو أفغانستان والعراق. إلا أنّ فارقاً جوهرياً ظلّ ماثلاً في لغة باول وفي أسلوبه: أنه التشخيص الحيّ للنموذج الذي اقترحه له بيلافونتي، عن عبد يواصل التشبث بجدران بيت السيد، وتحكم سلوكه الخشية من ردّه إلى المراعي!
ولعلّ واحدة من أقسى مفارقات التاريخ أنّ المخابرات المركزية الأمريكية اعترفت، في سنة 2004 بعد تقاعد تينيت، أنّ ما أسمته مخابر تصنيع أسلحة الدمار الشامل، وفي عدادها الجهاز الصغير الذي رفعه باول في مجلس الأمن الدولي، كانت في الواقع وحدات هيدروجين متنقلة لصنع بالونات اختبار الطقس؛ الأمر الذي كان صدّام حسين قد أعلنه أواخر 2002. وحين يسجّل التاريخ أنّ دكتاتور العراق كان أصدق من جنرال النجوم الأربع، مستشار الأمن القومي ورئيس أركان القوات المشتركة ووزير خارجية القوة الكونية الأعظم، الأفرو ـ أمريكي… فهذه واحدة من أبرز حيثيات إحالة بأول إلى سلّة مهملات التاريخ، دون سواها!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تاوناتي:

    ..هو لءيم مثلهم .. بل أكثر منهم. استغل تاريخ معاناة السود ليبرؤ مجازر البيض..

  2. يقول سلمى سعيد:

    شكرًا أستاذ صبحي حديدي، ما تذكره عما قاله بيلافونتي بخصوص الفارق بين العبد الذي يعيش في بيت سيده وبين العبد الذي يعمل بمرعى سيده، تكلم عنه مالكولم إكس بالتفصيل، وقد ذكرت ذلك أيضا الأخت آصال أبسال في تعقيبها على فضائية ندى حطيط عن الموضوع قبل حوالي سنتين، كما يلي:
    بالنسبة لمسألة “العبيد السود” الأفرو-أمريكيين على وجه التحديد، كان مالكولم إكس يشير دائما إلى نوعين من هؤلاء “العبيد”:
    أولا، “عبيد المنازل” الذين كانوا يعيشون بمثابة خدم في منازل أسيادهم إما في السقيفة أو في السرداب /حسب المزاج السيادي/، وهؤلاء العبيد هم المداهنون للبيض وإلى حد لعق أحذيتهم بالمعنى الحرفي..
    ثانيا، “عبيد الحقول” الذين كانوا يعيشون خارج منازل أسيادهم في أكواخ خاصة حول الحقول التي يعملون فيها كعمال حقول، وهؤلاء هم الذين كانوا بين حين وآخر يتمردون ويقومون بالانتفاضات والثورات إلخ..
    مالكوم إكس كان يبجِّل “عبيد الحقول” أيما تبجيل لتمردهم وعصيانهم، بينما كان يحتقر “عبيد المنازل” أشدَّ الاحتقار لمداهنتهم وانتهازيتهم ووصوليتهم طمعا بالوصول إلى شيء من “المكانة” الاجتماعية أو حتى السياسية، ..

  3. يقول مجتهد:

    في الواقع، لا يمكن غضافة شيء يقال عما قاله بيلافونتي ابن جلدة مجرم حرب العراق الذي افترى على الملأ وتحت سقف الأمم المتحدة وهو يعرف أنه يكذب. ليس بعد وصف ما قاله بيلافونتي وصف!

  4. يقول عبدالمنعم سلمان:

    كان من الاجدر كتابة هذه المقالة الرائعة ونشرها عندما كان متسول السلطة والجاه الكذاب باول على قيد الحياة.

إشترك في قائمتنا البريدية