كوليت خوري: أنا الشام

حجم الخط
4

حلمت بالكثير من المدن مع بداية تفتح الوعي في مراهقتي، عرفت بيروت وبغداد والقاهرة والقدس، وتمنيت في إحدى المرات ان أصبح هنديا لتأثري بموسيقاهم ورقصهم، وقصص الحب اللامتناهية في أفلامهم السينمائية، ودمشق كانت محطة خاصة في احلامي، فهي مدينتي السرية التي لجأت إليها طائراً بجناحين من حروف، وكتبت حكاية عشقي الأولى مع الحرف بكلمات أدباء هذه المدينة.. وكأني ذلك العاشق المجهول الذي حفر عبارة اذكريني دائما على الصخرة الشهيرة في جبل قاسيون..
تأثرت بكتابات نزار قباني ومحمد الماغوط وغادة السمان وكوليت خوري وسواهم، عشت في المدينة العتيقة عبر كلماتهم التي زرعت في قلبي كل أزقة وضواحي دمشق، ووعيت ذات يوم أنهم خلقوا بداخلي حنيناً لمدينة لم أعرفها، وسكنتها ولم أسكنها، تسكعت في حاراتها بدون أن أراها، إلا من خلال الكتب، وكنت أقسم في كل ليلة أنها مدينتي، كمن يعتقد أنه دمشقي في الزمن الأول، حسب المعتقد عند الذين يؤمنون بتناسخ الأرواح، ولم ينتزع ذلك مني انتمائي لوطني يوما، ولكنه خلق لديّ انتماء أكبر للإنسانية، وهكذا أصبحت ابنا لكل الحضارات .

لا تغيب عن الذاكرة الكلمة المؤثرة لكوليت خوري، وحضورها الأسر في مئوية الشاعر سعيد عقل مفتتحة كلمتها بالقول: «مرّ بي الزمن طاويا في أيامه صفحات من عمري، صفحات تبدلت فيها المفاهيم، تدهورت فيها المبادئ، تلونت فيها الأجواء، صفحات خسرت فيها أحلاما، دفنت فيها آمالا، ودعت فيها أحباء، في كل يوم في كل صفحة كنت أحيا مرة وألف ألف مرة أموت». وتضيف مستوحاة من أشعار عقل الدمشقية: (أنا الخلفية الأنثوية العريقة لكل حب عاشه سعيد عقل في حياته «أنا الشام».

أنا تلك التي غازلها بحروفه جنة على أجنحة الطير «أنا الشام» تدفق بردى سندس الغوطة شذى الورد). عانقت الشام بيروت مرة جديدة حين التقى صوت صاحبة ديوان «عشرون عاماً» (1957) مع قصائد سعيد عقل، وهي تلقيها بأداء يضيف لمسة جمالية ساحرة عبر أثير إحدى الاذاعات السورية، وهنا أعترف بأني عاشق لحنجرة كوليت سهيل الخوري، أو خولة بنت سهيل، كما كان يطيب أن يسميها جدها رئيس الوزراء السوري فارس الخوري، فمخارج حروفها معتقة بلكنتها الشامية، وبقدر حبي لحرفها وتجربتها الأدبية أحببت صوتها على الرغم من أنها القائلة: «لا أحب الصّراخ بحنجرتي، فصرخت بأصابعي وأصبحتُ كاتبة». وخلال الأشهر القليلة الماضية غابت كوليت خوري عن الإطلالات المرئية والمسموعة، وكمتابع للحركة الأدبية شغل بالي ذلك الغياب، متمنياً أن تكون صاحبة رواية «ومرّ الصيف» بكامل صحتها وعطائها.

لا أعرف كيف داهمني ذلك الفضول بإصرار للاطمئنان على صاحبة أولى نسمات الحرية في دمشق، رغم عدم وجود أي وسيلة تواصل بيننا .. فما كان مني إلا الاستعانة بصديقة تعمل في الصحافة السورية حتى تزودني برقم هاتفها.. وجاء صوتها الدمشقي منبعثا من سماعة الهاتف، منبتا حولي أشجار الياسمين والنارنج والكباد، ولوهلة شعرت بأني في دمشق القديمة أتوسط أحد البيوت العربية العريقة، وأمامي النافورة أو البحرة، كما يسميها أهل الشام.. كانت السيدة كوليت كما توقعتها دافئة ووديعة ومحبة.. في دقائق كنت كمن يعرفها منذ ألف عام.. وجدتها بدون مقدمات تطلب عنوان البريد الخاص بي، حتى تهديني مجموعة من كتبها، خجلت أمام ذلك الكرم المشهور عن جيلها من الكتّاب والمبدعين، والأخلاقيات التي نفتقدها اليوم.. ذكرتها ببعض ما كتبت عن دمشق ومنها أحد النصوص الذي تقول فيه: «تعبت من خيالي يعمّر دمشق، وتعبت من دمشق تدمّر خيالي»، لأجدها تردد الجملة معي، وتكملها وتفاجات وأنا أحدثها عن مقال منشور لغادة السمان في صحيفة «القدس العربي»، وهي تدعوها للعودة للكتابة قائلة: كوليت خوري المحاربة القديمة: أين أنتِ؟ منذ اليوم الذي رحلت فيه كريمة «خوري» الشابة نارة قلت لنفسي: «هل ستستطيع كوليت الوقوف على قدمي أبجديتها بعد تلك الضربة. وفعلت. وذلك يدعو للاحترام ولكنها توقفت عن الكتابة قبل عشرة أعوام وكان أخر كتبها كما عرفت من ويكيبيديا ـ الموسوعة الحرة، قد صدر عام 2008 وهو «عبق المواعيد».. عودي يا كوليت فرفيقاتك المحاربات القديمات مثلي يفتقدنك، كما القارئ الذي أحب أبجديتك في «أيام معه».
كما تجيب الاديبة غادة السمان في أحدى الحوارات المنشورة في كتابها «حكايات حب عابرة» قائلة: (كوليت فارسة شجاعة في زمن عدواني، وقفت في قلب العاصمة بلا وجل. وأنا فخورة باستمراريتها). هنا خرج صوت كوليت بلهفة ابنة الجيل الواحد تسأل عن غادة، ثم تضيف أنا محاربة مستمرة (سألوني ذات يوم أنت تكتبين طمعا بالشهرة، قلت إطلاقا أنا أكتب تحديا للموت أشعر بهذه الأسطر أني أطيل حياتي قَليلا) .

لدى كوليت العديد من الكتب التي تنتظر دورها في الطباعة والتوزيع، وعلى رأسها الكتاب المنتظر منذ سنوات رسائل الشاعر السوري نزار قباني ورسائلها إليه، التي حصلت عليها عن طريق ابنته الراحلة «هدباء»، وكانت قد خلدت قصة حبهما في روايتها «أيام معه»، التي أثارت موجة من الجدل في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ومثّلها في الاذاعة كل من سعاد حسني وأحمد مظهر، وتقول في أحد لقاءاتها التلفزيونية عن علاقتها بنزار: «كنا على حافة الزواج ولكن لم يحدث ذلك لعدة أسباب منها أنه كان يكبرني كثيراً، وكنت أنا شاعرة صغيرة صاعدة للحياة، وهمي أن أصبح شاعرة كبيرة، وكنت أعتقد أنني أنا المرأة في الحياة ونزار كان يتباهى أنه «شاعر النساء» ولم يعجبني ذلك فقررت السفر حتى يشعر بأنني أنا المرأة عندما تركته، وسافرت أحبني في تلك الفترة أكثر، لكن كان يجب أن أعود، واكتشفت في سفري أن الحياة جميلة وواسعة وفيها غير نزار.. انتهت قصة حبنا لكننا بقينا أصدقاء وهو شخص عزيز عليّ.أنهت السيدة كوليت المكالمة، وإذ بي أعود من رحلة التحليق في عوالم الحرف متشبعا بكل تلك الكلمات التي غذّتني روحيا وفكريا مستدعيا كل الصور والحكايا المخبأة في الصندوق السري المسمى الذاكرة، بينما عبق الياسمين يملأ المكان ويحتل الكيان.

٭ كاتب من سلطنة عُمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أفانين كبة - كندا:

    الأديبة كوليت الخوري أسم كبير في عالم الأدب النسائي ، نشأت في بيت عريق في السياسة ومفعم بالادب .
    أنجبتها دمشق الأصيلة العريقة بتأريخها ، احتضنها جبل قاسيون الشامخ ، وسقاها ماء بردى الخالد من ماءه العذب .
    اختيار رائع من الاستاذ عمرو مجدح لكاتبة وأديبة رائدة ناصرت قضايا المرأة وتحررها فكريا وانسانيا ، وأغنت المكتبة العربية من فكرها المتميز ، ونأمل في أن نرى ابداعها وانتاجها الجديد في اقرب وقت .

  2. يقول Naila:

    كوليت خوري ..قيمة أدبية رفيعة ، أشكرك وأغبطك أستاذ عمرو على هذه الفرصة القيمة والثمينة .
    دمت نهما ومبدعا .

  3. يقول نجم الدراجي - العراق:

    كم جميل هو الحوار الثقافي المتشح بالانسانية بين كلمات ايقونة الادب العربي غادة السمان ، وهي تكتب في منبر صحيفة القدس العربي : ((هل ستستطيع كوليت الوقوف على قدمي أبجديتها بعد تلك الضربة ))، وتقابلها صاحبة ( أيام معه ) الأديبة الكبيرة كوليت خوري بجواب دافئ حمله لنا الاخ العزيز الاستاذ عمرو مجدح عبر الاثير في مكالمة هاتفية استثنائية مع السيدة الدمشقية : أنا محاربة مستمرة (سألوني ذات يوم أنت تكتبين طمعا بالشهرة، قلت إطلاقا أنا أكتب تحديا للموت أشعر بهذه الأسطر أني أطيل حياتي قَليلا ) ..
    أحيي صديقي العزيز كاتب المقال .. الموضوع رائع ومهم وحلقة وصل جميلة ، وفيه رسالة ادبية تؤكد استمرارية الابجدية ، وكذلك تفوح منه رائحة الياسمين الدمشقي .
    تحياتي
    نجم الدراجي – بغداد

  4. يقول حسان زين الدين:

    نثر يسيل غنائية حتى لتحسبه حنين الى “ياسمينه” لم تقطف بعد… في واحة هي مساحة الحلم والضوء… قريبه بقدر ماهي أبعد من كل الحلم وكل والضوؤ

إشترك في قائمتنا البريدية