كيكة

يدور في هذه الأيام خبر في الكويت عن قرب تعيين قاضيات نساء في المؤسسة القضائية، وهو خبر ليس بحديث فعلياً، لكنه يبدو داخلاً في حيز التنفيذ القريب الآن. كما هو متوقع، يرافق هذا الخبر حوار حول فكرة الولاية والتي هي، في المفهوم الديني، سلطة شرعية، وما إذا كان القضاء يُعتبر ولاية عامة، وبالتالي ليس للمرأة -بحكم جنسها- نصيب فيه. وللولاية تعريفات عدة وتقسيمات كثيرة، ليست هي موضوع المقال، إنما ينصب الموضوع على «لياقة» المفهوم في الدولة المدنية التي يفترض ألا تفرق بين مواطنيها ومدى استحقاقهم لوظيفة أو مسؤولية أو حق ما بناء على جنسهم.
إن هذا الخلط الغريب الذي تعاني منه معظم الدول العربية الإسلامية يشكل بيئة سيريالية، ويضع الناس في موضع متناقض محرج كل الوقت، بل ويفرض عدة وجوه على الفرد الواحد بما يشكل حالة من النفاق المجتمعي المستمر، فمرة أنت مدني تعيش تحت مؤسسات مدنية، تلتزم بقوانين حديثة وتقع تحت طائلة عقوبات معاصرة مثل السجن أو الغرامة أو العمل المجتمعي. ومرة أنت ديني، تعيش تحت طائلة مفاهيم دينية لا تقبل النقاش أو التجديد، تلتزم بقوانين أحوال شخصية دينية، تعامل المرأة على أنها قاصر يولى عليها، وتؤمن بقطع اليد والرجم، وتعتقد تماماً «ببدعية» المؤسسات الحديثة كالبرلمان والانتخابات النيابية والبنوك والوزارات، بل وحتى النظام الحاكم في كل هذه الدول التي تقف بين البينين.
الدول المدنية الناجحة لا تحتمل البين بينين هذا، وشعوبها المرتاحة التي لا تلبس أقنعة، أو تقول شيئاً وتأتي نقيضه، أو تعتقد بشيء وتعيش مع عكسه، لا يمكنها أن تتكيف مع هذه المتناقضات. إما نحن دول مدنية، المواطنون فيها سواسية لا فرق بينهم بسبب أصل أو عرق أو جنس أو دين، وإن كانت صياغة القوانين المدنية، وفي حدود دنيا، يمكنها أن تستشف العادات والتقاليد والمعتقدات الدينية وتتشكل بمواءمة ما معها دون الإخلال بالحقوق الإنسانية ومبادئ العدالة والمساواة.. وإما نحن دول دينية، المسلمون فيها درجة أعلى وغيرهم يدفعون الجزية، القوانين فيها شرعية تقر بقطع اليد والرجم، والمؤسسات فيها لا ترتكز على بنوك ووزارات وبرلمانات مدنية.
هذا بكل تأكيد لا يعني أن هناك تناقضاً بين «الدين» و«المدنية»، إنما التناقض هو بين الدولة الدينية والدولة المدنية. فكرة المدنية يفترض أن تكون رحبة الإستقبال للدين، لكل الأديان، وأن تحمي هذه الأديان وحرية التعبير عنها بل الترويج لها، وأن تضمن حق وجود مؤسسات تعليمية للدين وترويجية له إن أراد أصحابه. ومن جمال المدنية كذلك أنها ستمكن النقاد من مساحة واسعة للنقد والقراءات التجديدية والتي من خلالها ستواكب المفاهيم الدينية الحياة المعاصرة، وذلك بخلاف التحرك المتوقع في المنظومة السياسية الدينية التي ستصعب القراءات التجديدية، ولربما تمنع تماماً الحريات العلمية والنقدية والبحثية التي تمكن من تطوير المفاهيم وتجديد القراءات بما يتماشى والعصر الحديث والمفاهيم الآنية لحقوق الإنسان.
الأغلبية العظمى ممن يعيشون في الدول فصامية الهوية الأيديولوجية يعيشون بوجهين، وجه يعتقد بالقرارات الدينية التقليدية، ووجه يتعامل مع الحياة العصرية الحديثة.. وجه يحرم الاختلاط والغناء والتمثيل، ووجه لا ينقطع عن مشاهدة السينما والتلفزيون والاستماع للأغاني.. وجه يدعو مع أئمة المساجد على اليهود و«النصارى»، ووجه يسافر لبلدانهم من أجل التحرر والاستمتاع بالحياة.. وجه يرفض كل قراءة تجديدية للدين، ووجه يحمد الله سراً أن العقوبات لا تمتد لقطع اليد والرجم.. وجه يلعن الربا، ووجه يضع أمواله في البنوك.. وجه يعتقد المرأة ناقصة لا ولاية لها، ووجه يريدها عاملة ويعتمد على راتبها الشهري ويضع حمل البيت ومسؤولية التربية الكاملة عليها… إلى آخرها من وجوه لا تحصى ولا تعد.
نحن نعيش في حالة من الفصام والتناقض المستمرين، ذلك أننا (في معظمنا) غير قادرين، ولا يمكن أن نقبل، أن نعيش تحت منظومات دينية خالصة تفرض علينا الزكوات والخُمس، وتقطع أيادينا، وتزوج صغيراتنا بعمر التسع سنوات، وتستعبد الناس جراء حروب أو غزوات، كما أننا غير قادرين على الانتقال للمدنية الكاملة الخالصة التي ستحرر كل أفراد المجتمع وتحقق العدالة الكاملة بسبب انغماسنا العميق في مفاهيم عيب وحرام قديمة عصية على النقد والتجديد والتأويل. في مجتمعاتنا الأبوية، الذكور (قد يكونون رجالاً أو نساء) يريدون برلمانات وبنوكاً ومدارس وسجوناً حديثة، لكنهم لا يريدون امرأة تشاركهم كل ذلك، حيث -فجأة- يصبح ذلك مخالفاً للدين، متضارباً ومفهوم الولاية العامة. هؤلاء يغضون البصر عن مخالفة الدين حين يناسبهم ذلك ويكون مريحاً لهم ومتوافقاً ومصالحهم، لكنهم يفتحون أعينهم على وسعها حين تقع «مخالفة» تقييمية للمرأة أو ماسة بحقوقهم الاستمتاعية أوالقيادية، عند ممارسة تعدد الزوجات أو عند مفهوم الولاية العامة يصبحون كلهم شيوخاً معممين.. يريدون الكيكة ويريدون أكلها كذلك.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي أحمد- فرنسا:

    دعونا نكون واضحين جداً نكتب بجلاء وعلى نور وبيّنة .. نحن أيتها السيدة الكاتبة ومن – ينتهج مفهومها العلماني أو شبه العلماني أو الحداثي أو شبه الحداثي أوأو.. نحن المسلمين المؤمنين بالله وشرعه نرفض هذا الكلام الذي يريد أن يْفهمنا بظلم أو يُقنعنا بجهلٍ رجعية الإسلام وعدم مواءمته العصرنةَ نظامَ حياة وتحرراً كما يَظن .. لماذا ..؟
    الكونُ الذي تعيشين فيه ونعيش ..كلّه منظّم بقوانين إلهية الإبداع يكتشف العلم شيئاً منها كلّ يوم ويشهد أنّ لا حياة للكون بدونها .. والقوانين الإلهية في نظام حياة الإنسان على الأرض التي أبدعها ووضعها خالقُ الإنسان ديناً ودستورَ حياة للإنسان .. هي مثل الهواء والشمس والماء وقوانين الكيمياء الحيوية في الجسم التي خلقها خالقُ الإنسان سبحانه..هي مَن يجعلكِ ويجعلنا نفكّر ونتكلّم ونبدع إنسانياً ونسعدُ من خلالها لا بتجاوزها ولا بالتمرّد البشريّ عليها .. فذاك محكوم بالفشل لأنه محدودٌ وضعيف المصدرمن جهة ولأنه – يلعبُ – خارج النظام الإلهي للكون والحياة .. والتجارب أمامك عبر التاريخ .. وصدق الله العظيم : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) سورة النحل الآية (17)

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى سامي
      اذا كان الامر كما ذكرت هل يعني ان هناك خطوط حمراء ممنوع ان يتجاوزها العقل اي بكلمة اخرى ممنوع التفكير الحر وممنوع التفكير بدون حدود

  2. يقول إبن كسيلة:

    أقدر فيكي شجاعتك و مثابرتك و إصرارك على فتح عيون قومك المغلقة . للأسف و من خلال التعليقات و خاصة النظامية منها واضح أنه لا أمل في إصلاح أـي شيء ….تقديس الجهل متمكن من الجميع منذ زمن بعيد و صعب إن لم يكون من المستحيل تغيير هذا الواقع المرير

    1. يقول زياد:

      اتهام الآخرين بالجهل فقط لانهم يخالفون رأيك هو قمة الجهل. هنيئا للعلم والتنوير بأمثالكم.

    2. يقول الكروي داود النرويج:

      لا أزيد على كلام العزيز زياد

  3. يقول boudjerda abdelhafid:

    تريد الكاتبة منا ان نؤمن بمجموعة تناقضات حسب فكرها مما جعلها تقع على تناقضات غير مؤسسة فكريا.

  4. يقول منير الصقري:

    كلام مكرر وأفكار قديمة
    بصراحة من كثرة قراءتي للكتابات العلمانية مللت من هذه المقاربات والمقارنات الخاطئة
    ثم يطالبون بالتجديد الديني
    طيب أنتم جددوا الفكر العلماني أولا
    جددوا أفكاركم ومعلوماتكم
    مللنا من الدولة الدينية والمدنية والناس الفصاميين والتعميم على كل المجتمع
    والضرب يمينا ويسارا ونبش قضايا هامشية وتضخيمها وأغلبها قُتلت بحثاً وحديثاً
    بعدين انتي سعادة الكاتبة درستي في أمريكا والآن هناك الشوارع مشتعلة بالمظاهرات بسبب العنصرية في دولة مدنية أين أنتي من كل هذه الأحداث والتي من العادة لا تفوتيها !!

  5. يقول زياد:

    نحن لسنا كمن يصنع الها من حلوى (كيكة) وعندما يجوع يأكله ، ولا مثل من يغير القانون فقط ليوافق هواه او من له مصلحة من اصحاب المال والسلطة.
    نحن لسنا كمن يستغل ثروات الدول الفقيرة وينهب خيراتها ، ولا كمن يساند القتلة في الفتك بشعوبها عندما تثور على الظلم وتحاول التحرر من التبعية.

  6. يقول سامي أحمد- فرنسا:

    إلى سنتيك .. شكراً..
    أكدّتُ بتعليقي كما لاحظتَ على إنطلاقنا من أساس النظام والقوانين التي وضعها بإحكام مُطلق مُبدع الكون والإنسان سبحانه.. فالأصل بإيماننا نحن – المؤمنين بالله – أن يكونَ هذا الإيمان نتيجةَ التبصّرِ والتفكّرِ والتأمل والدراسة والبحث ..
    سأحاول الإيجاز ..في الإختصاصات العلمية مثلاً – وإختصاصي علميٌ وليس فلسفي أو في علوم الدين – تنبهرُ بما ترى وتلمس في الواقع من معجزات حقيقية تحيا وتتكرر فيكَ وفي كلّ إنسان وفي كلّ كائن حيّ أو جامد .. شيء لا يُنكرُهُ ببساطة إلّا من لم يؤتَ حظاً من العلم أو الإدراك والتفكّر..كل شيء ينطق بإسم الله القدير سبحانه .. ماذا أُعدِّد لك وماذا نعرف منها نحن البشر أساساً ..؟! عُدْ لعلوم الطب والأحياء والهندسة والفلك وو ثم احكمْ بتجرّد..
    هذا المنطق هو منطق الدين الذي نؤمن به وهو في صُلبه – وكما ذكر معلّقون هنا – يحضُّ على التفكّر والتدّبر والتأمل وبالتالي طبعاً الإيمان والإبداع في الحياة ..لكنْ بعد هذا هل تتنوَّر في حركة حياتكَ وتفكيركَ وسعْيكَ للأفضل بقوانين وضعية ونظريات مخلوقين تُخطئ أكثر مما تُصيب لأنها بشرية – والتجاربُ أمامك – ..أم بنور نهج مُبدعِ الإنسان وصانِعه والعالِم بدقائق حياته والذي يريد له الخير دائماً ..

  7. يقول بن تاشفين:

    عذرا سيدتي، أين توجد هذه الدول الاسلامية التي ذكرتيها في مقالك في وطننا العربي التي الإسلام منها برئ براءة الذئب من دم يوسف وأنا أعتبر ذلك طعن للإسلام. الغرب عانى من كهنوت الدين عندهم لدرجة انه حذر على البشر الخروج بالتفكير عن الحيز الذي خطته لهم الكنيسة وعقاب كل مخالفيها واضطهادههم وهذا ما دعى لاشمئزار البشر من هذا العالم المظلم مما حدى بهم ان يطالبوا بفصل الدين عن الدولة فهذه علتهم وجاءت العلمانية لتكون هذا الدواء، أما نحن فلم نعاني من نفس المرض وعلمانيونا يريدونا ان نأخذ دواؤهم لمرض لم يصيبنا نحن ويكفي ان تأثر الغرب من الحضارة الإسلامية هو من أحد أقوى الاسباب التي قاد الثورة الصناعية في الغرب. إسلامنا لا كهنوت فيه ورسولنا هو أول من أسس الدولة المدنية ولذلك سميت بالمدينة فلا داعي لخلط الأمور وللأسف علمانيونا عجزوا حتى عن فهم العلمانية فعندهم العلمانية هي إقصاء الإسلام فقط لاغير. إذا ارادت شعوبنا التحرر وتحقيق العدالة فلن تجده إلا في ظل دولة إسلامية حقيقية.

  8. يقول بن تاشفين:

    الإسلام يحض على التفكر في قوله تعالى ـ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ـ والإسلام لا استبداد فيه أي ان المشرع لا يملك أداة الإكراه كما في قوله سبحانه وتعالى ـ لا إكراه في الدين ـــ وفي الاسلام الدولة أو السلطة تقف على مسافة واحدة من الجميع كما في قوله تعالى ـ لكم دينكم ولي دين. فكر كماتشاء ولكن لا تلجأ لاقصاء الآخر كما يفعل علمانيو بلادنا الذين اختزلوا العلمانية في إقصاء اللإسلام والإإسلام فقط ولا نسمع منهم شيء عندما يقتل الآلاف من ابناء الروهينغا سوى التسحيج اوالصمت التام .

  9. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للدكتورة ابتهال وللجميع
    مهما قيل عن دولنا العربية باستثناء تونس فان جميعها دول اسلامية تتخذ من الاسلام غطاءا لتمرير بعض القوانين التي تناسبها من الحين والاخر وتلغي اخرى عندما لا تحتاجها والمشكلة اننا كشعوب نريد ان نحتكم للشريعة وبنفس الوقت لا نريد نظاما اسلاميا كحكم وايران والسعودية مثالا صارخا فعالبية الايرانيين يجاهدون للتخلص من سيطرة النظام وقوانينه وبنفس الوقت متمسك باسلامه والشعب السعودي باغلبه راى بما قام به بن سلمان بارقة امل للتخلص من هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واعطاء المراة حقوق وبنفس الوقت هو متمسك باسلامه والعلة اساسا بالنصوص الدينية التي لها وجوه كثيرة للتفسير وبنفس الوقت نحن نعرف من خلال من هجر بلاده والاسباب كثيرة وتمتع بانظمة الغرب بما لديها من امتيازات لا توجد في بلداننا ومع ذلك يشتمونه ويصفونه بالكافر والمنافق اننا نعيش التناقضات في كل حياتنا

  10. يقول فؤاد مهاني المغرب:

    يا دكتورة،الإسلام هو الحل لكل معضلات البشرية بكل اختصار.فالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم أول من وضع دستور حديث بتاريخ البشرية احتوى فيه كل الملل والعرقيات وضمن لهم كل الحقوق من مدنية ودينية وفردية واقتصادية.
    وإذا أردنا تقييم تجربة ما يزيد عن 60 سنة بين التجربة الأردوغانية ذو المرجعية الإسلامية بتركيا والتجربة المدنية في حكم أنظمتنا العربية سنحكم على التجربة الأولى من خلال أ16 سنة أنها نجحت نجاحا باهرا على كل المستويات لأنها انطلقت من روح الإسلام بتعايشها مع العلمانية المتجدرة بتركيا،واستطاعت إرجاع الصحوة الإسلامية لتركيا.بينما التجربة الثانية بمؤسساتها المدنية فقد فشلت فشلا ذريعا ما طبقت العلمانية بما تعني من معنى ولا تعايشت مع اليسارية ولا الإسلامية القمع ثم القمع خاصة ضد الأحزاب الإسلامية المعترفة بها قانونيا والنتيجة خراب البلدان والعمران بسبب أنظمة شمولية مستبدة كسوريا و أصبح البعض منها يستعمل كمعول بيد الصهيونية (نموذج الإمارات) لهدم وتدمير لكل تحول أو تغيير يرنو لخير أي شعب عربي كما في تونس وليبيا والمحصلة من كل ذلك حصادنا أصفار على اليمين وعلى الشمال والأصفار الأخرى نستوردها لنضعها على رؤوسنا (العقال).

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية