كي ترى من الثقب لا بدّ أن تغمض عينا

حجم الخط
1

قد صار للنصّ حركة. الحركة تحتاج بالطبع محرّكا. كان المحرّك بسبعة أحصنة وثامنهم صهيل أعمى.
أحد الأحصنة اكتشف أنه براق فحلّق في مجرّته، مجرّته التي في رأسه، رأسه المملوءة بالحطب.
هو يتدفّأ وحده الآن لا ليطرد البرد بل ليحميه من الوضوح.
المهمّ أنّ المحرّك صار بستّة أحصنة. حصان آخر اكتشف أنه ليس حصانا أصلا. من المؤكّد أنّه عشق غزالة.
خمسة أحصنة تجرّ الحركة. ثمّت حصان لا يجيد سوى الصهيل. هناك إشاعة رائجة تقول إن حنجرته ستتشقّق بعد أعوام قليلة ويتيبّس صهيله.
(لا تنسوا أننا في زمن تتحوّل فيه كل إشاعة إلى حقيقة علمية)
تبقّى للحركة أربعة أحصنة أصيلة. وجاء في لسان العرب: الأَصْلُ: أَسفل كل شيء. والأَصِيلُ الوقت بعد العصر إِلى المغرب. وهو الوقت الذي تلتقي فيه الحركة عادة لتحريك السكر في القهوة.
تدور الملعقة، تدور، تدور، تدور… من اليسار إلى اليمين تدور (هذا المعمول به في تونس ولا شأن لنا بما يحدث في اليابان)، تدور عكس دوران الأرض مثل عقارب الساعة. يظنّ القشوريّون أنّ الملعقة ترسم دائرة واحدة في الفنجان ويرى الباطنيّون أن دورة واحدة للملعقة تخلق ما لا نهائيّ من الدوائر، ولكلّ دائرة هويّتها الخاصّة جدّا رغم الشبه الساطع.
يذوب السّكر والوقت. تقول الملعقة: ما عاد في القهوة سكّر. تُلقى جانبا ويتحرّك الفنجان عموديا نحو الفم. من جاء بصاحب الفم إلى المقهى؟ تصمت الحركة ويجيب النص: ‘النسيان’.
تتعطّل حركة مرور الأفكار لذلك نوضّح: شارب القهوة لا يتذكّر من القهوة سوى ما تذكره اللغة. يسمّيها ولا يترشّفها، يسمّي رائحتها ولا يشمّها، يسمّي طعمها ولا يتذوّقه، يسمّي لونها ولا يراه… ليس تعويضا نفسيّا محضا لكنّه صراع أبديّ بين الذاكرة والنسيان. للعالم وجود بالقوة، هو الوجود اللغوي حيّزه الذاكرة. وله وجود فعلي حيّزه النسيان. وكلاهما يترك فينا أثرا. هذا الأثر هو الوجود الجدليّ حيث نتذكّر الأشياء باللغة ثمّ ننساها فنتذكّرها في اللغة. الآن تبدأ الكتابة… نحن نكتب نسياننا وذاكرة اللغة. أوّل التذكّر نسيان وأوّل الخلق عماء. والعماء قد يصيب الوجود عينه لكنه لا يطال عين الوجود، فقط العين التي يمكن أن ترى في الغياب، فلا شيء يدلّ على حضور المعشوق الغائب سوى عين العاشق تراه عينا (لا تصوّرا وتخييلا) فتعيّنه وتعاينه وتعنيه فتتعيّن به وتعمى عن سواه.
النسيان عماء (وهل ينسى المحبّ حبيبه؟) و’في العماء ظهرت كلّ الممكنات’ على حدّ عبارة ابن عربي. النصّ إذن ممكن من ممكنات النسيان. لا يمكن أن نكتب ذاكرة (ذاكرة اللغة) أقدم من ذاكرتنا. ما قبل اللغة عماء ونسيان ما قبل الذاكرة. إذن لا يمكن أن نكتب النسيان أيضا. الكتابة لا تبدأ أبدا… أمّا أثر النسيان وذاكرة اللغة فينا فذلك هو الممكن. والأثر -وهو ما يمكننا كتابته- ليس الكلّ إنما هو جزء يحمل من سمات الكلّ. كل نصّ إذن هو كتابة تفاصيل مهما أغرق في التجريد ومهما اقترن لسان الفرد بلسان المجموعة تبقى التجربة ذاتيّة.
يحملنا النسيان على شرب القهوة فتصمت اللغة مع أوّل رشفة. يعتبر ثرثرة كلّ حديث عن القهوة أثناء الرشفة. يترشّف شارب القهوة قهوته… السّكّر الذي لم تعد تراه الملعقة يراه اللسان.
نكتة تافهة: ‘لماذا يحرّك التونسي الملعقة من اليسار إلى اليمين في حين يحرّكها الياباني من اليمين إلى اليسار؟ الجواب: ليذوب السّكر.’
تُخلع عن هذه النكتة صفة التفاهة حين نسأل: ‘هل تؤدّي الحركة نفسها الوظيفة نفسها حتى وإن تبدّل اتجاهها؟’
وتتحوّل هذه النكتة فكرة بمجرّد أن نستبدل حركة الملعقة بالرقصة المولوية. وهي دوران المريد حول نفسه مثلما يطوف الطّائف بالكعبة. هي رقصة ضدّ الزمن للخروج منه والحلول في الكلّي. ومن يرى المطلق يفهم الجزئيّ وهكذا نفهم التفاصيل. ثمّت فرق بين من يدور حول الأشياء وبين من يدور حول نفسه ليحلّ في الأشياء. الدوران الأول حركة قشورية تقف عند السطح فتحتفي بالتفاصيل واههمة أن قيمتها في ذاتها في حين ينفد الدوران الثاني بصاحبه إلى العمق عسى أن يرى فيعرف فيلزم. والصمت لزوم والتزام. لزوم بما هو وسيلة لبلوغ الغاية القصوى والتزام باعتباره نتيجة حتميّة لمن بلغ غايته. نصمت كي نكتب ونكتب فنصمت حتى تشغلنا اللغة عن اللغة كما ينشغل المريد عن الذكر بالمذكور. ننشغل عن اللغة، بما هي أداة لإجراء الصمت كلاما، باللغة التي تجرينا إذ نجريها فنصمت (لحظة الانتهاء من رقن النص أو خطّه) ولا تصمت. فاللغة تقولنا لحظة نكتبها وتقوله (المتلقي) لحظة يقرؤها ولا تصمت إلاّ عن ذاتها.
نكتة أكثر تفاهة: يقال عن قصيدة فيها معجم صوفي إنها قصيدة صوفية أو لها نفسا صوفيا.
الشاعر صوفيّ أو لا يكون والشعر تصوّف بالضرورة والكتابة طريقة والنص حال.
انشغلت الأحصنة بإيقاع الحافر على الحافر -مع أن قانون الحركة الداخلي يمنع هذا- ونسيتْ أنّ المحرّك الأوّل هو النصّ. ليس محرّك أرسطو الذي لا يتحرّك بل هو المحرّك الذي يتحرّك من داخله، الغنيّ بنفسه عن المحرّكين أحصنة كانوا أو جنرالات أو قيادات شعرية. حركته حركة الذات لا الجماعة. حركة الذات في الأشياء لا حولها. إنّي أرى شعراء يحملون على أكتافهم كاميرات ويلتقطون التفاصيل. أن يقف الشاعر في موضع المصوّر أي أنه على مسافة من العالم مهما غيّر زاوية التصوير. الشاعر لا يطلّ من الزوايا على العالم مثل لصّ يتحيّن الفرصة لأخذ أشياء ليست له بل يطلّ في ذاته حيث كلّ شيء ملكه. ربما أتفهّم من كانت ذاته خواء فيستنجد بالكاميرا لملء الفراغ لكن على الأقل فلتكن الكاميرا عينه. عذرا، أسحب طلبي هذا إذ كيف لذات خاوية أن تكون لها عين رائية. الأعمى يحتاج عكّازة يستدلّ بها. الموضوعية بما هي تحييد الذات والإقامة على مسافة من العالم والأشياء هي عكّازة كل شاعر خاو.
هل تذكر نصّا شعريا قرأته أعجبتك لغته وصوره وربما طرافته لكنّ شيئا ما بقي معلّقا، شيء ما مرجأ. تماما كما تتناول أكلة ما لا ينقصها أيّ شيء من لوازم ‘التفويح’ لكنك تأكل ما تحتاج إليه فحسب في حين يجعلك طبق آخر تأكل ‘فوق شبعك’. اسألوا ربّات البيت الخبيرات عن الفرق.
الشعر ما يترك فيك جرحا واضحا لا شِبْه جرح أو خدشا لكنّ السكين التي جرحك بها تبقى غامضة ومكان الجرح غامض. أمّا النّص المبهم المعتم فيطال الجرحَ أيضا بالغموض فلا تتفطّن أبدا أنّك جُرحت. وما دمت لا تشعر بالجرح فهو لم يجرحك أصلا.
لا تحمّلوا القارئ خللا هو فيكم أيها الشعراء، قد لا يفهم ما تقولون ولا كيف تقولون لكنه قد يبكي مع من يبكي عليه دون أن يعرف لماذا وكيف وقد يضحك أيضا فقط لأنه ثمّت من يضحك حتى وإن كان الضحك عليه بل خاصة إذا كان كذلك.
والشعراء ثلاثة: شاعر يكتب آلام الآخرين، شاعر يكتب آلامه وشاعر يتألّم.
والكلاب ثلاثة: كلب ينبح على طائرة، كلب يستنبح كلبا وكلب ينبح معكم حتى تصدّقوا أنكم كلاب ثم يبكي وحيدا.
والغرقى ثلاثة: آخر من رأى النوارس قبل العاصفة، آخر من فكّر في الصعود إلى السفينة، كلّ من عوّل على القشّة.

آخر قشّة أيّها الغرقى

نصيحة في شكل شتيمة: لا تبحثوا عن ردود لما أقول في أرشيف الجرائد ورشفات القهوة. حاولوا أن تقولوا ما لم يُقل فأنا لا أردّ سوى على الأفكار. وأخيرا: من أنتم ‘لأقول لكم ما أقول لكم.’
الصمت هو عين الصوت ومستقرّه، وكذلك كلّ حركة، تولد من سكون وتدفن في سكون بل إننا لا نميّز بين حركة وأخرى مهما كانت بسيطة إلاّ بالسكون. والسكون كما الصمت معناهما في ذاتهما أمّا الحركة والصوت فمعناهما في انتفاء نقيضيهما. وانعدام الحركة لا يعني مطلقا السكون بل الحركة تنتفي بقيام حركة أخرى كما تنعدم الدنيا بالقيامة وتنتهي الحياة بالموت لكن الوجود يبقى قائما بذاته في الحالتين وهكذا هو السكون. ومن هنا نفهم أن كل حركة لا توجد إلا بنفي حركة أخرى وإقصائها. وما كان ميل الأنبياء والأولياء والفلاسفة والحكماء إلى الصمت والسكينة تكلّفا أو اعتباطا وإنما حنين فطري إلى الأصل وإمساك عقلي بالجوهر. فلو لم يكن الصمت هو الأصل لكان نذر مريم أن تتكلم دون انقطاع لا أن تصمت: ‘فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا.’ (سورة مريم الآية 26).
ولو كانت الحركة هي الجوهر لما انقطع سليمان عنها حتى أنهم لم يميّزوا حياته من موته (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين). بل إن حركة سقوطه بعد أن أصابت دابّة الأرض عصاه كانت كشفا عن موته لا دليلا على حياته. وفي هذا تفنيد للرأي الفاسد القائل بارتباط الحياة بالحركة والموت بالسكون. فالحركة حياة والحياة حركة والحركة موت والموت حركة. والحركة في كل الحالات ابنة السكون، تخلفه لكن لا ترثه كما يخلف الإنسان الله لكن الله هو من يرث الأرض وما عليها.
أنا دائما أسبح ضدّ نفسي (أنا السابح والتيار) لكني أترك للغرقى آخر قشة :

أنا ميت فالعبي أمام بيتك أيّتها الحيّة. سأصفه لك ما دمت لا تعرفينه: بيتك له سقف من بصقاتي. ما دمتُ صامتا هو بلا جدران وبلا باب حين أتكلّم.أتزرعين عثراتي ليقال ما أجمل حديقتك؟ أتريدين شرفة؟ أعرف أنّك تحبين الشرفات، لذلك سأفقأ عينيّ. لا تفزعي… ستدلّك عكّازتي على الطريق إلى البيت لتلعبي أمام بيتك أمّا الموت فلا بيت له.
‘ثمّت من يناديكِ من النافذة ملوّحا بمنديل يابس.’ لا عليكِ، سأشرح لكِ: جملة اسمية تقدّم خبرها ‘ثمّت’ وهي للتبعيد بمنزلة ‘هنا’ للتقريب وتعني النوايا الحسنة. والنوايا الحسنة مبنية على التقديم رغم بعد إمكان وقوعها. أما المبتدأ فقد تأخّر في مركّب وصوليّ ‘من يناديك من النافذة ملوّحا بمنديل يابس’. ‘من’ اسم وصولي يعود على زوجك، صلته مركب إسنادي فعلي: الفعل نداء (المنادى قد يكون حاضرا أو غائبا سيّان) والنداء صوت والتلويح حركة والنافذة سكون. وأنت الآن في البيت أمّا أنا فسأصمت، سأصمت إلى الأبد. صمت العاشق لا صمت السّاكت. سأصمت حتى أرى وحين أرى سأصمت كي لا أرتدّ أعمى. الصمت الأوّل غموض الجسد الآخر (المعشوق) يقتضيه الغياب والصمت الثاني ‘بيان الجسد يقتضيه السّرّ’ ولذلك قال النبي لصاحبه: ‘عرفت فالزم’. وفي هذا يقول بسّام حجّار: ‘والسرّ هو الأصل والجوهر والصفوة من كل شيء.’
وأصل الموسيقى في القصب وما الأنفاس الجارية في الناي سوى صدى، فطوبى لمن جعل الصدى صوتا، طوبى لمن صار قصبا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شوقي العنيزي:

    نصّ عميق لا تطالعنا أمثاله من النصوص إلاّ نادرا لأنّه يقيم في قلب المسافة وينصب شباكه لكلّ العابرين.. قُدّ من لغة مجازيّة لا تصنّع فيها ولا تكلّف فلم تكن مقصودة لذاتها.. وإنّما اقتضتتها “الشبكة” التي تحاول اصطياد العالم والموجة التي تسعى إلى اختزال البحر لذلك جاء طافحا بقضايا حارقة: قضيّة اللغة في علاقتها بالكائن مفضية إلى سؤال من منّا يقول الآخر نحن أم الكلمات؟ وقضايا الحركة والسكون التي تعيدنا إلى التصوّر التاوي نسبة إلى كتاب التاو للاو تسو حيث يقيم مفهوم الأقطاب بديلا من مفهوم الأضداد… نصّ يقيم على حافّة الهاوية ولكنّه يتفنّن في اللعب بكلّ شيء: الحركة والسكون/ الكلام والصمت/ الوجود بالقوّة والوجود بالفعل/ الذاكرة والنسيان… ولكأنّ لسان حال الشاعر يقول: “إنّني أسجن الضوء في كلماتي وأطلقه حين أصمتُ”

إشترك في قائمتنا البريدية