هناك مصائر للكلمات قد تكون أكثر بؤساً وتراجيدية من مصائر البشر. فالكلمات تموت كما يموت الناس، وهناك مئات الكلمات العربية التي كان يستخدمها أجدادنا ماتت أو هي في حكم الميتة، نتيجة عدم استخدامها أو فقدانها لدلالاتها.
الموت ليس مأساة الكلمات الكبرى، إلا إذا اعتبرنا أن دورة الحياة والموت التي يمرّ بها كل كائن حي مأساوية. وهذه مسألة فيها نظر، وتخضع لإشكاليات الذاكرة المعرّضة هي أيضاً للموت.
البؤس الإضافي الذي تعيشه الكلمات هو انقلاب معانيها، كأن يتحول الاسم أو الصفة إلى شتيمة. وهنا يكمن الخلل، فالعنصرية قد تحول لون الإنسان إلى شتيمة كعلاقة لون البشرة السوداء بالعبودية، أو كعلاقة الأنوثة بالخوف، فنقول عن رجل إنه امرأة، كتعبير عن ذكوريتنا وذكورية لغتنا الحمقاء وإلى آخره…
هذا خلل لغوي يجسّد خللاً في فهم الناس للعلاقات الاجتماعية، وبالتالي فمن الممكن إصلاحه.
أما أن يتسمّى شارع السوق العمومي حيث كانت بيوت الدعارة باسم شاعر العرب الأكبر المتنبي، ويجري الربط بين الشاعر-النبي الذي احتل مخيّلة العرب طوال ألفية كاملة، وبين الدعارة، فهذه مسألة لا يمكن تفسيرها، ولا سبيل إلى إصلاحها إلا عبر تهديم المكان ومحوه. وهذا ما فعلته شركة «سوليدير»، عندما نفذت مشروعها لإعادة إعمار بيروت، فمحت معالم المدينة القديمة، وألغت شارع البغاء برمته، لأنها أرادت بناء مكان حديث يليق بملوك النفط وأمرائه، فحولت المدينة بأسرها إلى مبغى، وهذه مسألة تحتاج إلى قراءة خاصة بها.
هذه التداعيات سببها كلمة «كرخانة»، وهي- حسب «محيط المحيط» للمعلّم بطرس البستاني- تعبير فارسي مؤلف من كلمتين: «كَر» أي عمل أو صناعة و«خانة» أي موضع. فهذه الكلمة التي جاءت من الفارسية إلى اللغة العثمانية- التركية، تسللت إلى العربية المحكية في لبنان، لتدل على ظاهرة تحديثية دخلها جبل لبنان في القرن التاسع عشر عبر انتشار إنتاج الحرير الطبيعي الذي كان يصدّر إلى مدينة ليون في فرنسا.
تحول جبل لبنان إلى الزراعة الآحادية عبر انتشار زراعة التوت، الذي تأكل دودة القز من أوراقه، كان وبالاً على جبل لبنان، لأنه كان أحد أسباب المجاعة الكبرى التي ضربت لبنان خلال حصار الحرب العالمية الأولى وأدت إلى موت ثلث اللبنانيين جوعاً.
لم يجد الناس كلمة جديدة لتسمية مصانع الحرير، فأطلقوا عليها الاسم الذي يعرفونه «كرخانة»، وانتشرت «كرخانات» الحرير في جبل لبنان بأقواسها الجميلة وحيطانها المبنية بالحجر. واليوم يعتبر ما تبقى منها جزءاً من التراث المعماري اللبناني الذي يجب المحافظة عليه.
صحيح أن ظروف العمل في معامل الحرير كانت قاسية على النساء والأولاد، أغلبية العاملين كانوا من النساء، وأن التحرش الجنسي كان يمارس فيها إلى جانب الاغتصاب، وهي إحدى ممارسات الإقطاع اللبناني التي كانت تسمى المفاخذة، لكن الظلم الذي وقع على كلمة «كرخانة» يتفوق، في رأيي، على كل المظالم التي وقعت في داخلها. فمع نهاية مرحلة الحرير بانهيار صناعة الحرير الطبيعي في مدينة ليون واستبداله بالحرير الاصطناعي، انهار حرير لبنان، ونسي الناس المعنى الأصلي لكلمة «كرخانة» التي صارت تعني بيت الدعارة.
مع نهاية مرحلة الحرير بانهيار صناعة الحرير الطبيعي في مدينة ليون واستبداله بالحرير الاصطناعي، انهار حرير لبنان، ونسي الناس المعنى الأصلي لكلمة «كرخانة» التي صارت تعني بيت الدعارة.
تأملوا معي هذا المصير البائس للكلمة، من مصنع ينتج الحرير، وهو عنوان الجمال والبذخ والرفعة الاجتماعية ومرادف للحب، إلى بيت للدعارة.
هكذا صارت الكلمة شتيمة، ودخلت في قاموس متنوع من الشتائم، وأصبحت كلمة سرّية لا يفهمها غير اللبنانيين.
صارت الكلمة صفة، ومن الصفة جاء فعل التَكَرْخن والكَرْخَنة وإلى آخره… وانتشرت الكلمة في لبنان مع الطفرة الاقتصادية النفطية في الستينيات، مع نمو القطاع السياحي المرتبط بالكَرْخَنة لأثرياء العرب.
كدت أنسى هذه الكلمة، ولم يذكّرني بها سوى موجات الإصلاح التي يدعو إليها الفاسدون في لبنان، التي أعادتني إلى عبارة صكّها الأديب سعيد تقي الدين بعد فضيحة الدعارة الشهيرة في عهد كميل شمعون، التي كان اسم بطلتها عفاف، فكتب تقي الدين عن «عفاف التي تحاضر في العفاف».
لا أريد أن أوحي بأنني أتكلم عن الممثل المسرحي زياد عيتاني الذي اتُهم بالعمالة لإسرائيل وقضى مئة يوم في أقبية أمن الدولة، حيث انتزعت منه اعترافات تحت التعذيب ثبت فيما بعد بطلانها.
قضية زياد عيتاني والمقدم سوزان الحاج والمدعو ايلي غبش، بتّ فيها القضاء العسكري، حيث أثبت براءة الجميع! فنحن أيها الناس في وطن الأبرياء ولسنا في «وطن النجوم»، مثلما ادّعى الشاعر إيليا أبو ماضي.
هناك جريمة ولكن لا توجد جثة، هكذا قيل والله أعلم. هذه اللعبة تفوقت على خيال جميع كتّاب الروايات البوليسية في العالم. العدالة اكتشفت أن هناك جريمة ارتكبت في حق مواطن بريء، لكن أين الجثة؟ لا وجود لجثة، وإذا كان هناك من مخطئ فهو زياد عيتاني، لأنه أراد إيقاف التعذيب فلجأ إلى كوليت. لكن كوليت لم تظهر، وهذا يعني أن مفبركي التهمة لم يخطئوا إلا بشكل مسلكي، وإلى آخره، وأن الحق على كوليت.
إنها «كرخانة» الأبرياء.
في الماضي، حين كانت «الكرخانة» حقيقية، وكان منزل السيدة ماريكا اسبيريدون يقع في مدخل شارع المتنبي، كان هناك عصمة للدعارة وهيبة للتَكَرْخن، ولم يكن أحد يجرؤ على التلاعب مع كوليت أو مع غيرها من السيدات اللواتي عشن في كنف ماريكا.
أما اليوم فالأمور اختلط بعضها ببعض، وصار كل شيء مباحاً، إلى درجة لم يعد فيها التمييز ممكناً بين عفاف والعفاف.
المحزن ليس مصير كوليت التي اختفت، أو مصير زياد عيتاني المصرّ على الدفاع عن فكرة العدالة في «وطن الأبرياء»، بل المحزن هو مصير كلمة «كرخانة» التي رضيت مكرهة بأن تعني بيت الدعارة، لتكتشف أن البهدلة بلا حدود، وأن الدعارة نفسها يمكن أن تشعر بالمهانة في «وطن الأبرياء».
[هكذا صارت الكلمة شتيمة، ودخلت في قاموس متنوع من الشتائم، وأصبحت كلمة سرّية لا يفهمها غير اللبنانيين]…
أخ إلياس خوري… إذا كان قلبك على كلمة فارسية هجينة دخلت عن طريق اللغة التركية على العامية العربية مثل كلمة «كرخانة» التي تتأسف عليها من خلال تحولها الدلالي إلى معنى ذميم «بيت الدعارة» إلخ (أصلا كلمة «كرخانة» تعني في الأصل «مصنع» أو «مكان الصنع» وليس «مصنع حرير»، كما أُضفي عليها في اللهجة اللبنانية سابقا)… فهناك الكثير من الكلمات العربية في الأصل والفرع تحولت إلى أقذع الشتائم في قواميس أنظمة الطغيان والاستبداد العربية… وعلى رأسها كلمة «الربيع» التي استحالت إلى أقذر وأحقر شتيمة في قاموس النظام الأسدي المافيوي الفاشي الطائفي الإجرامي العاهر… !!!
في العراق تُسمى بيوت الدعارة بالكرخانة! ولم تكن مصانع حرير هناك!! ولا حول ولا قوة الا بالله
اخ يا زمن الشقلبة نتنياهو يتهم الفلسطينيين بالارهاب ولم تتوقف الة قتله لهم لحظة منذ 70 عام وغيره يدفع 12 مليار دولار رشوة للفيفا لتكون لعبة الكورة جنب خيمتنا بالربع الخالي ويقود العالم بمحاربة الفساد واي عفاف واي عفة ونحن نسوق الاسرائيليات من نتاج الكوسمتكا والتسليح الحربي واكبر مشاكلنا حقوق المرأة وسياقتها وننسى صبرا وشاتيلا ومذابح الخرطوم اليوم ليلة العيد
شكراً أخي الياس. الكلمة “كرخانة” معروفة لدينا أيصاَ فقط كشتيمة أي بيت الدعارة. لكن أخر ماتوقعته أو يتوقعة الإنسان أن هذه هي قصة وأصل كلمة كرخانة المسكينة المظلومة.
بما انه مكان الصنع او المصنع استبدل معناها ب “كرخانة”اي بيوت دعارة, فبماذا نستبدل اسماء مصانع المؤامرات التي تحاك في قصور السلاطين وهياكل القباحة …بماذا ؟؟!! والسلام.