مخيم اليرموك: مملكة اللاجئين العائدين من هجرتهم إلى هجرة أخرى.. رائحة فقر وكرامة… همسات طيش وحب وحلم… دالية صغيرة تقاوم وجع المخيم لتكبر… عجوز كسره الانتظار على الباب… أمٌ تتكئ على عتبة البيت كي لا يخنقها البعد… حين خاف أهل المخيم أن يبتلع مخيمهم فلسطين رسموا صوت بحر يافا وحيفا وشماً يسيل على جدران المخيم.. وطرزوا الجاعونة والطيرة وصفد وترشيحا وكل المدن والبلدات على زوايا المخيم وشوارعه… وباتت الأسماء تمتزج مع يوميات لجوئهم و تخرج من عبراتهم ونبراتهم وآهاتهم… تخرج من أصغر زواريبهم وحاراتهم كي ترسم شكل الوطن… الباعة ينادون الحياة من بسطاتهم… والنسوة يمسحن العتبات ليبدأ النهار من مكانسهن.. الصبايا ينسجن حكايات العشق فوق الأسطح ، وزفرات الشباب تنفخ الريح في المخيم… أطفال يعيدون الصرخة الأولى ويركضون إلى اللانهاية التي تبدأ بالحارة ولا تنتهي عند أبواب المخيم… مخيم اليرموك… حكاية عشاق الذكرى والتفاصيل الدقيقة…حكاية جفرا تجمع الأحبة في الحارات الضيقة كي يغنوا للوطن بعيداً عن عيون المخبرين ولصوص الوطن…
المخيم ليس تجمعا للبشر على رقعة أرض صغيرة بل هو تاريخ من المقاومة والحلم والوجع.. هو ارتعاشة القلب لحظة الولادة… هو انتفاضة قلب يرفض الموت.. مخيم اليرموك .. حارات يتسلل من نوافذها همس يضج بالحياة.. وجدران تلونت بأنفاس الشهداء.. وعلى أطراف الشوارع يحيلك الحزن لعنفوان الحياة عندما تنفجر في وجه البؤس…
لكل زاوية حكاية ولكل شارع نشيد… هذا هو المخيم…مخيم لاجئين برسم العودة وليس مخيم لاجئين بحكم الخروج من الوطن…
عندما صرخ السوريون لا، صمت المخيم… بكى … حاول مسح الدمعة عن عيون أطفال حيي التضامن والحجر الأسود … فتساوى الهم وامتزج الدم…وخيم الليل على صباحات المخيم وغطى الدخان عيون المستقبل..
كان أهل المخيم يركضون نحو محطة انتظار تعيد للذكرى شكل البداية .. يقيسون الزمن بعدد خطواتهم نحو الآتي .. لم تكن المسافة بعيدة فالمخيم هناك .. وطريق العودة يـُعدّ بلهاث الحنين إلى الوطن… لم يكسرهم البعد مادام الوطن أملاً مرسوماً على بؤبؤ العين وحلماً يعيد للذكرى ألقها.. نبت المخيم من أصابعهم إشارة نصر وأملا يعيد بناء الوطن على حدود الذكرى ويمزج التاريخ بالجغرافيا كي يرسم فلسطين..
اليوم قتل الرصاصُ المخيم .. قتل صوته وبكاءه … قتل ساعة انتظار العودة ليحل محلها دهر من الدمار… لم يعد المخيم ظلا للمشردين بل غدا عريشة حزن ودمار… أصوات من بقوا تشق الروح … جاعوا فلم يشفع لهم جوعهم المقيم منذ النكبة … لم تشفع لهم نجاتهم من المجزرة حين مرت من أمام الباب… لم يشفع لهم خوفهم من المجزرة الواقفة عند طيف السحاب…. لم تشفع لهم دماء أبنائهم المرسومة على جدران المخيم …
صوتهم من هناك يأتي كصرخة تحت صخرة : عائدون … عائدون إلى ذكرياتنا ونضالنا وموتنا الاختياري… عائدون لشقائنا… عائدون لحلمنا بالعودة… عائدون لوجعنا الأزلي.. عائدون لعشقنا للحياة حين يخطئها الموت.. اتركونا نموت حلماً حلماً ولا تقتلونا فما زال حلمنا بحاجة لشهداء ودماء…
لم يبق في المخيم سوى الحزن والدخان.. فجأة تبخرت الأحلام…
أكوام الحجارة والغبار تقيم كالردم كالأحلام المكسرة.. كالنكسة والنكبة مبعثرة… على مداخل المخيم…
صاح أبناء المخيم: اتركوا بعضاً منا ليبقوا وينفضوا الغبار عن صور الشهداء.. اتركوا أطفالنا ليكملوا الدرس ويشربوا الحليب.. اتركوهم لوجعهم المنتظر…
هم لا يدّعون حب الشهادة ولكن صار حلمهم البقاء في أول الأمكنة التي احتضنت أحلامهم… في آخر الأمكنة التي ستضمهم ولو أشلاء…
لم يكن يعلم المخيم أنه حلم قيد الانكسار على يد من يدّعون امتلاك حلم العودة ورمز المقاومة وأساطير الممانعة..
أعرف يا مخيم اليرموك يا عاصمة التشرد والمقاومة أنك تقاوم الموت بالبقاء والذاكرة، وأعرف أنك تعبت من التعب، ولكن ارأف بعاشق نـفد نبض قلبه ولم يبق إلا الحنين للعتبة… ارأف أيها المخيم بأحلامنا التي نهضت وما انكسرت… بأقدامنا التي حفظت خارطة الوطن محفورة بالزواريب الصغيرة … ارأف بصورنا التي تركناها معلقة كوجع في الجدار….بزهرة أيامنا.. بأطفالنا.. ارأف بذكرياتنا… بشبابيكنا وأبوابنا وقلوبنا..
يا أيها المخيم اصرخ برغم كل هذا الوجع اصرخ.. ارفع إصبعاً ممزوجاً بالدم والدخان وقل لا لمن يزينون خطاباتهم ‘بنهايات سعيدة’، ويرمون إلى اللا مكان اللاجئين وأحلامهم بالعودة … اصرخ لا… لمن يريدون أن يقذفوا باللاجئين إلى شتات البحر لأن شتات البر لم يعد كافياً ليـُعَنْوِن شقاءهم…أيها المخيم أنت عنواني حين تضيع العناوين … اصرخ كي لا تضيع الدماء في زحمة الأوراق فوق طاولات المفاوضات… ذكرهم برغم وجعك وبرغم الدموع المحبوسة و الآهات المخنوقة أن أهل اليرموك وخان الشيح والنيرب والعائدين والرمل وحندرات لديهم كل الأوجاع الثبوتية بأنهم لاجئون… يبحثون في الريح عن وطن… يبحثون عن قارب يقودهم إلى حلم صغير يشبه قاع البحر أو شاطئ الموت.. لم ينبشوا في الأساطير المعلقة بكهوف التاريخ حتى يكتبوا العودة من خيام الشتات والريح …فهم يملكون صكوك اللجوء والغربة.. فابتلعوا أسطورة خوفكم من ذكرياتهم..وابتعدوا عن فورة أحلامهم وأنفاس شهدائهم… أفسحوا الطريق للجنازات القديمة والجديدة كي تعبر إلى الحلم… لا تكسروا بأقلامكم حول الطاولات المستديرة مفاتيح الأمل .. فعيونهم مازالت معلقة على خابية الزيت في جبال الجليل… ودقات قلوبهم مازالت إيقاعاً لصوت الله أكبر في مآذن القدس… وهمسات الحب في عيونهم صدىً لتراتيل الكنائس في بيت لحم..
كل الحدود التي عبروها وتعرفت على دمهم وهدهدت آلامهم لم تكن لحظة بديلة عن الوطن.. هي لحظة لتضميد الجراح… واستراحة محارب عيونه مسمرة على منارات عكا وغزة …
من المخيم كانت فلسطين على مرمى قلب وحجر.. لا تبعدوهم إلى الدنمارك أو السويد أو أينما شئتم لتصبح فلسطين على مرمى الكرة الأرضية … فقد أضناهم الشوق والحنين… قصتهم قبل المخيم ابتدأت ولن تنته إلا بفلسطين…
تحاكي ما في القلب رائعة
تشعّ بالصدق وجمال الوجع!
اقرب من حبل الوريد…..
انت دائما تحاكي الالم الفلسطيني والروح الشاردة في متاهات العالم تبحث عن ذلك المخرج
المخيم مكان و تجربة ….تجربة مكانية… نهج من علاقات معلنة أحيانا و مضمرة أحيانا أخرى و فضاء ممتد يحتل حيزا من وجودنا ، نستخدمه و نزعم أننا نسيطر عليه ..وندعي امتلاكنا للجغرافيا و للتاريخ فيه و به و معه . ونغض النظرعن أنه يسيطر علينا ..نحبه و نكرهه .. نخشى أن يتحول إلى هوية .. ونشعر بغرور في انتمائنا لهويته .. بل وحتى نفخر بنزق متأصل بسكانه لا يتغير بل يزداد مع رائحة كل شهيد .. يعلو فوقنا كمسافة ونعلو به رمزا مستعاضا يغذي ذكريات لم نعشها .. يتطور بداخلنا بصورة سلبية أحيانا .. ونشتهي زواياه ..وصباياه .. و ينساح داخلنا مساحة فعلية .. نقتنع أنه ليس وهما أو مؤقتا .. بيوته متشابه ، أو نظنها كذلك ..سكانه متشابهون ، أو نرغب أن يكونوا كذلك .. ولا نختلف على أنه شهداؤه متشابهون .. نختلف ربما في حبنا له لكننا نتفق على أنه جسر العودة .. جسر حكايات قديمة و رائحة وطن ..وحروب لم ننتصر فينا .. لايضيرنا اختلافنا على البرنامج المرحلي و لا على شكل و مضمون الدولة ..ونتفق على خارطة واحدة للوطن يزرعها كلنا في بيته ….نستفيد من رمزيته و نحيله كائن ..نسميه رافض للحلول ، أليس حقنا بالعودة غير قابل للمساومة؟ ومن يجرؤ أن ينكر أن المخيم كائن ؟ لا يتغير و لا يستبدل ..لايضمحل و لا يتلاشى .. يتكاثر و تتكاثر صوره .. ..وفي يأسنا .ندعوه وطنا محمولا نعيد خلقه و تكوينه لا يعنينا وقتذئذ الزمان و المكان طالما هو النبض و مركز العاطفة ..ولكننا لا نستبدله بالحبيبة .. أنا وحبيبتي و أبنائي و سريري و غرفة نومي و منزلي و المسجد و المقبرة .. و كرت الأنروا الأبيض ..كلها مخيم و إن تعددت الصور و الوظائف ..تحتضننا الصورة …… يؤرقنا أن يتم تأهلينا “تدجيننا”؟؟؟ نستنفر نزقنا فينا . لنقول .. لنا لغتنا الخاصة التي لايفهمها سوانا .. لنا اهلنا و احبتنا حتى لو هاجروا .. يتركز الزمن فينا و بداخلنا انكسارة و حرقة ..مخيمنا لا يشبه اي مخيم ..ونميل على بعضنا ميلا طفيفا ،فنضحك من جهلهم و نقول ….إنه ببساطة مخيمنا