لا أتمنى أن أكون مكان بلماضي

حجم الخط
24

الأكثر ألمًا في إخفاق الفريق الجزائري في الوصول إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022، الطريقة. بالذات هدف الكاميرون القاتل في الثواني العشر الأخيرة من عمر المباراة.
أعترف بدايةً بأنني لا أفهم في كرة القدم، وبأنها في آخر سُلّم اهتماماتي.
أتابع المباريات الدولية فقط، ولمَّا يسمح الوقت والظروف.
وعندما أفعل أضع “رجليَّ في ماء بارد”، حتى لو كانت الجزائر تلعب نهائي كأس العالم.
أتزود أيضا بدروع ذهنية واقية من قبيل أنها مجرد “جلدة منفوخة”، وأن الفوز بها لا يرفعنا إلى صف الأمم التي تقود البشرية، والهزيمة ليست نهاية العالم، وأن الجزائريين بعد المباراة، ربحا أو خسارة، سيعودون إلى همومهم ومصائبهم التي لا حصر لها.. إلخ.
أتابع المباريات بلغات أجنبية، وإنْ تعذَّر أتابعها صامتة حتى أحمي نفسي من التعليق وسيول الهذر والهذيان التي ترافقه.
أجلس قبالة التلفاز قبل دقيقة أو اثنتين من بدء المباراة، وأطفئه في الثواني القليلة التي تعقب صفَّارة نهايتها.
أسارع إلى هذا كي لا أستمع لتحليلات “المحللين” وفتاوى “الخبراء”. لا يقلل هذا من احترامي لهم وبعضهم أصحاب باع طويل في ملاعب الكرة.
لا أمتنع عن الرد على الهاتف إذا رنَّ.
يمكنني بسهولة أن أذهب إلى المطبخ لتحضير قهوة والمباراة في قمة إثارتها.
أزعم أن هذه الطريقة وفّرت لي الحماية التي تحتاجها صحتي البدنية والذهنية. وقد بلغتُ من العمر والنضج ما يُحصّننيي من خطر السقوط في شركها الآن.
إلى جانب (أو رغم) هذا، لا أتمنى أن أكون مكان جمال بلماضي.
ليس فقط لأن كل ما بناه طيلة أربع سنوات انهار في عشر ثوانٍ. لا، الموضوع سبق تلك الثواني القاتلة بشهور وسنوات.
مشكلة بلماضي أنه علّم الجزائريين الفرح. وأقنعهم بأن النجاح ممكن بالعمل والانضباط والإيمان بالنفس، ولا شيء غير ذلك.
وعندما تعلّموا نسوا أن في الحياة خسارة وإخفاقات وعثرات. بدليل: خلال دردشة مع أحد أقاربي في ذروة سكرة الفوز بكأس العرب في قطر شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قال محدّثي: سنفوز بكأس العالم! قلت: أنت أكيد تمزح. قال بانفعال: لا والله.. أقسم لك أن بلماضي سيفعلها.
حدّثتُ قريبا آخر بهذا الكلام فقال إن كل المجتمع الجزائري مصاب بهذه الهستيريا وليس إبراهيم وحده!
أيقنتُ أن بلماضي في ورطة، لأن ثمن ما علّمه للجزائريين أن كثيرين منهم رفعوه إلى صف الأنبياء المنزَّهين عن الخطأ والممنوع انتقادهم.
الضغط الشعبي والرسمي الذي كان على بلماضي غير طبيعي، ولم يتوقف عن الإطباق عليه يوما.
بات مطلوبا منه أكثر من مجرد انتصار في مباراة أو التأهل إلى منافسة دولية.

قطر توفّقت عندما جعلت الكرة جزءا من ماكينتها الناعمة المكوّنة من أجنحة دبلوماسية واستراتيجية واقتصادية انتشرت إقليميا وعالميا منذ سنوات، فكان المونديال “حبة الكرز التي توجت الكيكة”، كما يقول المثل

السلطة تنتظر منه أن يُسعد الجزائريين بعد أن عجزت عن إسعادهم. والجزائريون ينتظرون منه أن يعيد لهم الفرحة التي سرقتها منهم حكومتهم، وأن ينقذهم من الحياة المنكوبة التي أغرقتهم فيها.
الأنكى أن هذا المسكين أوكلت له مهمة تحقيق هذه المعجزة وسط جوٍّ من الهزائم والانكسارات والإحباط.
بإخفاقه في الوصول لكأس العالم يكون بلماضي قد حرم السلطة، دون أن يريد، من أوراق هدنة اجتماعية عمرها سنتين، سنة تسبق نهائيات كأس العالم وأخرى تليها.
من الظلم أن تنتظر من بلماضي أن يحقق معجزة كروية بأبعاد سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية في محيط معطَّل بالكامل.
لا يمكنك أن تحقق معجزات كروية والقطاع الصحي والمستشفيات عندك في فشل ذريع.. ومدارسك بلا أي دور، ونظامك المصرفي متأخر عن العالم بقرن، ومنظومتك الرياضية ينخرها الفشل والفساد، وأجهزتك تخنق الأنفاس وتطارد الحريات الجماعية والفردية.
لا أتفق مع القائلين إن الكرة سياسة أولًا وأخيرا. إنها سياسة فقط عندما تكون جزءا (وليس كل شيء) في ماكينة شاملة تتحرك بعقل وعلم وعلى أكثر من صعيد.
قطر توفّقت عندما جعلت الكرة جزءا من ماكينتها الناعمة المكوّنة من أجنحة دبلوماسية واستراتيجية واقتصادية انتشرت إقليميا وعالميا منذ سنوات، فكان المونديال “حبة الكرز التي توجت الكيكة”، كما يقول المثل.
أما عندما تكون ملاعب الكرة عندك مسارح لمعارك أسبوعية دامية، وعندما يضطر مناصرو فريقك القومي إلى السفر مئات الكيلومترات والمبيت في العراء جائعين ومقهورين من أجل متابعة مباراة أو شراء تذاكر غير مضمونة، فتصبح الكرة آفة. هذا جهاد بينما الكرة ترف وفرجة.
عندما تسهم الكرة في إذلال الناس، خسرتَ الرهان حتى لو لعب فريقك نهائي كأس العالم.
الكرة سياسة (بائسة) عندما توظفها الدول والحكومات التي لا تستطيع توفير حياة كريمة لشعبها، فتنتظر من اللاعبين والمدربين أن يفعلوا نيابة عنها.
الكرة سياسة (مؤذية) عندما تتعمد وسائل إعلام الدول المنهزمة، كما هو حال الجزائر هذه الأيام، تحريض الناس على رفض الهزيمة وبيعهم أوهام أن المباراة ستعاد، فيصدّقون الهراء ويتحول الموضوع إلى هستيريا داخل الوطن وسخرية خارجه. هذا تلاعب مشين بطيبة الناس وبخيباتهم ربما احتاج لأمر قضائي يحظر الحديث في مباراة الكاميرون مثل الأوامر التي تحظر بها إسرائيل التعليق على العمليات العسكرية والمهمات الأمنية.
صورة بلماضي جاثما على ركبتيه بعد نهاية مباراة الثلاثاء فطرت قلوب حتى الذين اختلفوا معه (الجزائر فيها 40 مليون مدرب). حملت صدقا كبيرا واختزلت مرارة أكبر. لكنها أيضا اختزلت بلدا تعطل فيه كل شيء، ومع ذلك بين شعبه مَن صدّق أن فريقه الوطني (وهو منتوج أوروبي) يمكن أن يفوز بكأس العالم وبأن مباراة الكاميرون ستعاد.
الضغط الذي تراكم مع الأيام على بلماضي جعله يستحق الشفقة، وربما يبرر قليلا عصبيته المتنامية وتوتره الواضح خلال الفترة الأخيرة.

*كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعيد الجزايري:

    كلام في الصميم، بارك الله فيك

  2. يقول Saint Zarzour:

    أشكرك جزيل الشكر عزيزي توفيق.على مقالاتك الرائعة المتزنة .تعرف كيف تحلل وتعلل وتزيل كل غشاوة عن عقول البسطاء المنساقين كالقطيع وراء شعارات وأكاذيب متجددة .بوركت أيها العقل النير ،والصحافي المشرف.

  3. يقول عبد القادر الضاوي:

    من المغرب ،اقولها لك ،شكرا .
    مقال رائع، و نظرة حكيمة وسط كل هذه التفاهات التي تحاصرنا وتخنقنا.

  4. يقول علي الجزائري:

    (( مشكلة بلماضي أنه علّم الجزائريين الفرح ))..هذا غير صحيح يا أستاذ توفيق .. لقد فرح الجزائريون كثيرا قبل ذلك وفي مناسبات رياضية عديدة يحفظها التاريخ .. هذه واحدة .. ثم سيفرحون أيضا في مواسم كروية أخرى قريبا .. كرة القدم لمن مارسها و يعرفها يا سيد رباحي تعطي و تأخذ ، تضحك و تبكي .. إلخ ..

  5. يقول اسامة:

    كلام معقول في مرمى الرَّصانةِ و التَّبَصُّرِ…
    الكرة مُخدِّر مخادع لا يدوم مفعولُهُ إلا بالمزيد من الكرة …
    الحَلُّ كامنٌ في ما اتخذه كاتب المقال من مسافة و حِكما تَقيهِِ من ملهاةٍ جاحدة …

  6. يقول هيثم . المغرب:

    مما ينفر المرء في مشاهدة كرة القدم في قنوات عربية هم المعلقون الذين يبالغون في التكلف والإطراء في التعليق على المبارايات تذكرنا بالأفلام الكارتونية التي كنا نشاهدها ونحن صغار. فماذا عن الذي تستهويه متابعة مبارايات ;كثيرة ويلزمه قضاء ساعتين لمشاهدة كل مباراة؟ حتى أنه يقضي يومي عطلة نهاية الأسبوع ساعات لمشاهدة فرقه المفضلة, هذا إن لم يلزمه أكثر من نصف يومه ليتمكن من متابعة مباراة في الملعب, فتصبح هذه اللعبة كارثة على محبيها تحول بينهم وبين القيام بواجباتهم العائلية والإجتماعية! أعتقد أن الواجب ان نشجع الصغار على ممارسة هذه الرياضة إذا كانت تجلبهم ونربيهم على عدم التعلق بها والإفراط في مشاهدة مبارياتها واستثمار أوقات الفراغ فيما يكسبهم معارف وتجارب مفيدة في حياتهم.

  7. يقول حاتم. مونتريال:

    شكرا أستاذ رباحي. جاء في المقال “أتابع المباريات بلغات أجنبية، وإنْ تعذَّر أتابعها صامتة حتى أحمي نفسي من التعليق وسيول الهذر والهذيان التي ترافقه.” … هذا بالضبط ما أفعله رغم أنني من متابعي الكرة المدمنين وخاصة مع ثلة من المعلقين الذين فقدوا البوصلة.

  8. يقول شهدان باريس:

    تحليل رائع روعة الموضوع وهو لا ينطبق فقط على الجزائر بل علي كل الول والشعوب العربية لأن هذه اللعبة اتخذتها الحكومة الفاشلة مسجلا تعلق عليها فشلها في كل الميادين مما جعلنا نصاب بهذه الافاة ونري الظلام ضوءا مما جعل الشعوب العربية تتساقط على وجهها . كل التقدير والاحترام للكاتب

  9. يقول Abothman:

    كلام جميل و تحليل منطقي ..

  10. يقول جزائر بني مزغنة:

    قلت فأصبت في الصميم….. كم نحتاج من قلم كهذا لكي تنجلي غشاوة التنويم التي تحجب الحقيقة والواقع المر الذي يعيشه المواطن العربي…..في هذه الملمات يظهر معدن الصحافي الحر

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية