الأصدقاء في مصر، أعني المثقفين، والمفكرين، والفنانين، والمبدعين، وغيرهم، ممن يشتغلون في الصحافة، وفي الجامعة، وفي حقول المعرفة المختلفة، بما في ذلك الإعلام، وغيره ما يرتبط بإنتاج الخطابات، وترويجها، اسمحوا لي أن أعترف، أولاً، أنَّ ما يجري في مصر شأن داخلي، يَخُصُّ المصريين، وأن تدخُّل أي طرف، كيفما كان، في شؤونكم، هو إعلان عَدَاءٍ لكم، ولاختياراتكم، خصوصاً أن الشَّعب، بمختلف طبقاته الاجتماعية، والفكرية، هو من خرج يُطالب بتنحِّي مبارك، وهو من خرج، ثانية، للمُطالبة بتنحِّي مرسي. نظامان، ما جمع بينهما، هو التَّسَلُّط، والقهر، والانفراد بالسلطة. الأول كان نظاماً، هو في جوهره، عسكرياً، أو متحدِّراً من أصل عسكري، والثاني، كان نظاماً، توتالتارياً، شمولياً، استعمل الدِّين، كذريعة للاستئثار بالسلطة، والاستفراد بمؤسسات الدولة، كمقدمة لإقصاء الجميع، في مقابل هيمنة الفكر الإخواني، الذي ليس فيه ما يُشير لا لحرية، ولا لعدالة، لأن فكر الإخوان في أساسه، لا يؤمن بالديمقراطية، ولا يعترف بها، فهو يستعملها، انطلاقاً من الشِّعار المعروف، الوسيلة تُبرِّر الغاية، وكُلُّ الطُّرُق تؤدِّي إلى روما.
لكن، لا ينبغي أن تَنْسَوْا، أنَّ الشَّأن المصري، هو شأنٌ عربي، خصوصاً أن مصر، ليست بالدولة الصغيرة، أو إمارةً من الإمارات المعزولة في زاوية ما من زوايا الخليج العربي، وهي مركز سياسي، وثقافي، وهي حضارة عريقة، استمد منها العرب الكثير من المعارف، وكانت، دائماً، المكان الذي منه يأتي الضوء، بغض النظر، طبعاً، عن لحظات التبعية، والانحسار التي كانت نتيجة فسادٍ في نظام الحُكم، أو استهتار بقيمة هذا البلد الكبير، والعظيم، الذي وصل فيه الشعب إلى درجة من البؤس، غير مسبوقة، واستحالت فيه المدينة، إلى ركام من الأبنية العشوائية، وكأن القاهرة، مدينة بلا إنسان، وبلا تاريخ، وبلا معرفة.
فهذا العمق التاريخي والحضاري، والعمق المعرفي، والاستراتيجي، أيضاً، لمصر، هو ما يجعل غير المصريين من العرب، يتدخَّلُون في ما يجري في مصر، أو يُبدون قلقَهم، وانشغالَهم بهذا البلد الذي كان، دائماً، مصدر معارفنا الأولى، ومصدر، ما تلقيناه من نصوص، وكتابات، في مدارسنا الثانوية، وفي جامعاتنا. فكتابات المنفلوطي، وطه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبدالله، وشعر البارودي، وشوقي، وحافظ ابراهيم، وغير هؤلاء من أعلام الفكر والإبداع الحديثين، كانوا حاضرين في تكوين ثقافة الإنسان العربي، ومعرفته، وهو ما يسري على السينما والغناء. كثيراً ما كان التلاميذ، في المدارس الثانوية، وبعض الأُمَّهات والآباء، وعامة الناس، يعتقدون أن اللهجة المصرية، هي العربية الفصحي التي بها نكتب ونقرأ، لأنها كانت لغة الأغاني، والمسلسلات، والأفلام، التي كُنَّا نُقْبِل عليها باهتمام كبير. فمصر كانت، وما تزال دولةً عظيمةً، ومصدراً للفكر والمعرفة، والتاريخ، وستبقى بهذا المعنى، رغم ما حدث من انقلاب في كثير من الأمور، في أكثر من بلد، خصوصاً ما كُنَّا نعتبره هامشاً، وبينها بلدي المغرب.
اسمحوا لي أصدقائي أن أعتبر انتصار الجيش للشعب، أو لغالبية هذا الشَّعب، وإعادة الثورة لسياقها الذي جرتْ فيه، أو استعادة الثورة، حتى لا تعود مصر لنظام الحزب الواحد، أو هيمنة طرف دون غيره، واستئثاره بِمُقَدِّرات الشعب، هو عمل تاريخي عظيم، يشي بالدور الإيجابي للجيش، في حماية البلد، وفي استدراك لحظات العطب، قبل فوات الأوان، رغم ما ترتَّب عن حكم الإخوان من نتائج، لا تزال تبعاتها قائمةً على الأرض، وتحتاج لوقت طويل لإزالتها. لكن، أن تخرجوا من حكم الإخوان، لتستبدلوه بحكم الجيش، فهذا ما لا يمكن قبوله، خصوصاً في بلد خبر حكم الجيش، وظل الجيش، منذ ثورة23 يوليو 1952، هو من يحكم مصر، وكأن بعد الملك، وبعد الملكية، لا يوجد إلاَّ ‘الضُّبَّاط’، أو الجنرالات، لقيادة البلد.
ما يعمل الإعلام المصري على الترويج له من مُطالبات للسيسي بالتَّرَشُّح، وتجييش الناس للترويج لذلك، أو الجهر به في الساحات العامة، هو أمر، في تصوُّري، غير مقبول، رغم كل ما يحظى به السيسي من بُعْد جماهيري بين الناس. قد يكون، في ما سيظهر من قوانين، وفق ما سيؤول إليه الدستور الجديد، من حق السيسي أن يدخل الانتخابات الرئاسية، باعتباره مواطناً ‘مدنياً’، مثل غيره ممن سيدخلون على خط الرئاسية، لكنه سيبقى، في ثقافته، وفي فكره، وفي انتمائه، جندياً، نشأ على عقيدة، وفكر الجيش، وليس على عقيدة وفكر الشعب، أو المعتقدات السياسية، التي هي من صُلب المجتمع المدني، أو الدولة المدنية التي يكون فيها الجيش بعيداً عن السياسة، وعن التدخُّل في شؤون الحُكم.
هذا الحماس، المُفْرِط، الذي يُبْدِيه، حتى بعض المثقفين، والفنانين، من مختلف مشارب الفن والمعرفة، لترشيح السيسي، هو تحريفٌ آخر لمسار الثورة، أو عودة بها لمربع الجيش. فالدولة ليست ثكنةً، ولا ينبغي أن تكون ثكنةً، كما كانت على عهد سابِقي السيسي، ممن حكموا مصر، رغم أنهم، جميعاً، لبسوا الزَّيَّ المدني. هذا التوقيع على بياض للسيسي، أو لغيره من ‘الضُّبَّاط’، سيكون خُطوةً في غير الطريق الصحيح. فمصر ليست عاجزةً أن يخرج منها رئيس مدني، ممن لم تكن له علاقة بالجيش، ولا بنظام مبارك، ولا بنظام الإخوان. فأنتم من تقولون إن ‘مصر ولاَّدة’، فهل خذلكم الحَمْل، أم أنه سيكون دائماً حَمْلاً كاذباً، أو لا يُفْضي، في نهاية المطاف، سوى لولادةٍ ‘قيصيرية’، بما تعنيه الكلمة هنا من حُكْم القيصر، أو صناعة الأوثان.
لا أشك في نزاهة السيسي، ولا في وطنية هذا الرجل الذي اتَّخذ موقفاً تاريخياً عظيماً لإنقاذ مصر من حكم الإخوان، لكن طبيعة التحوُّلات التي تفرضها الثورات الكبرى، تقتضي أن يخرج الحُكَّام من صناديق الاقتراع، وأن يكونوا أصحاب مشاريع سياسية، واقتصادية، واجتماعية، تخرج بالبلاد من وضع البؤس، والفقر، والظلم، إلى وضع الرَّفاه، والحرية، والعيش الكريم. وهذا لن يخرج إلا من عقول سياسيين، أو أحزاب وطنية، تؤمن بالديمقراطية، وبحقوق الإنسان، وتصدر عن فكر تقدمي، تحديثي، وتنويري، لا عن فكر سياسوي، عقائدي مغلق، يمنع النقد، ويُصادر الأفكار، أو يحجر عليها.
ما جرى في مصر من ثورة، كشف عن وجود شبان، لهم قدرة على المقاومة، وقدرة على الخيال، وقدرة على التنظيم، والتعبئة، ولهم مستويات مهمة من التكوينات التعليمية الجامعية، في مختلف التخصُّصات، رغم الخراب الذي تركه مبارك وراءه في المؤسسات التعليمية، بأسلاكها المختلفة، وهؤلاء الشبان، أصبحوا اليوم مؤهَّلِين للقيام بدور المحرك، الذي يُمكنه أن يُعيدَ الحياة للأرض، والسماء أيضاً. الأحزاب، إذا لم تتغذ من هذه النُّخَب الجديدة، ومن هذه الطاقات، وتعمل على تجديد فكرها، وتجديد أيديولوجياتها، بما ينسجم مع ما حدث من تحوُّلات، فهي ستبقى بعيدةً عن الشعب، وخارج اهتمامه، ما سيجعل من الشَّعب، يرى في الجيش منقدَه من الضَّلال، أو سيكون مدفوعاً، لاختلاق زعامات جديدة، أو أصنام يعبدها، مثلما حدَث في الماضي القريب.
لا أتصوَّر أن تسير التعبئة في اتجاه الجيش، أو في اتجاه السيسي، فهذا الرجل، ومن معه من قيادات، ستكون مصر في حاجة لهم، وهم في الجيش، لِما لهم من خبرة، وحنكة، ومعرفة بالسلاح، وبالتخطيط، والمواجهة، ولطبيعة الدور الخطير الذي يقوم به الجيش في حكماية البلد، وفي تأمين ممتلكات الناس وحياتهم، وفي صدّ أي استعداء يأتي من الخارج، كما يحدث من إرهاب في سيناء.
التعبئة، يجب أن تسير في اتجاه أشخاص لهم مؤهلات فكرية وسياسية، ولهم قدرة على تخيُّل الحلول، وابتكارها، ثم إن الديمقراطية، أو ما يمكن أن يكون للرئيس القادم من صلاحيات في الدستور الجديد، ستفرض أن يكون تسيير الشأن العام، هو مثل قيادة سفينة بأكثر من مجداف، فنظام المجداف الواحد لم يكن صالحاً، وقد كان سببَ ما وصلنا إليه في عالمنا العربي من كوارث، وانهيارات في كل شيء.
أرجو أن ننتبه لِما يمكن أن تؤول إليه الأمور، ليس اليوم، بل بعد سنوات قليلة من حكم غير المدنيين، فالسلطة تحتاج لمن يكون أميناً على مدنية الدولة، وعلى مصالح الناس، وعلى أقواتهم، وأموالهم، وما يضمنون به استمرار حياتهم، بكرامة، وعزة نفس، لا بِذُلّ، واحتقار.
حُلُمي أن أرى مصر، وغيرها من البلاد العربية، يخرج حُكَّامُها من الشعب، من عامة الناس، وليس من هذه النُّخَب التي لا تترك مقعداً، إلاَّ لتحتلَّ غيره، وبامتيازات أكبر، رغم ما يُخَلِّفونه وراءهم، في مهامهم السابقة من خسارات، وفشل ذريع. وهذا، أيها الأصدقاء ما جعلني أخاطبكم، وأنا أعرف أن بينكم من فكَّر مثلي، بضرورة أن يبقى الجيش خارج قصر الاتحادية، كما تُسَمّونَه. ولكم فائق تقديري واعتزازي.
كثير من هؤلاء الأصدقاء الذين تخاطبهم قد وضعوا قيم الديمقراطية و الحداثة و التنوير التي ذكرتها، وراء ظهورهم. العبرة بالنسبة إليهم أن يقع إقصاء الإسلاميين ليس فقط من الحكم يل من الوجود القانوني. لذلك هم يساندون الحكم العسكري باستماتة. على أنك قد شجعتهم على ذلك حينما أصدرت أحكامك الجاهزة و غير الموضوعية على مرحلة رئاسة محمد مرسي القصيرة، بسبب خلفيته “لإخوانية”. فقد كنت إقصائيا سواء شعرت بذلك أم لم تشعر. بينما القيم التي تدعو إليها تتطلب القبول بالآخر مهما اختلفت معه، و تقتضي التشارك معه ضمن مشروع وطني جامع.
من المعيب، وأنت صاحب الفكر النير، أن تضع كل من الحاكم المستبد حسني مبارك والرئيس محمد مرسي في سلة واحدة. الم يأتي الرئيس محمد مرسي منتخبا، وخرج من ملح مصر؟؟.
يمكن لقلمك أن يصف الأشياء كما هي، فالانقلاب على الشرعية هو إبطال لحكم الشعب؟؟. وأتأسف أنك ترى لحية الرئيس محمد مرسي، ولا ترى نحر الديمقراطية الفتية؟؟
تظل الوقائع تثبت لكم ديمقراطية القطاع الاكبر من الإسلاميين ونزاهتهم وعدالتهم وآدابهم العالية وتضحياتهم في سبيل المبادئ ومظلوميتهم وثباتهم، وفساد العلمانيين وطغيانهم ووحشيتهم ونفاقهم ومعاداتهم لقيم الحرية والكرامة الإنسانية، ومع ذلك تأبون إلا أن تقفوا مع المفسد والمنافق والقاتل ضد الشريف النزيه المظلوم المقتول! لم تعرف مصر عهدا كعهد مرسي تمتعت فيه بأنسام الحرية، وعرفت فيه إنسانية الحاكم؛!