كلُ قادة دول العالم ومعاونيهم يتشاركون الآن في حالة انتظار مضنية، ستدوم نحو شهرين على الأقل. ينتظرون بقلق عمّا سيتكّشف من ملامح سياسة الرئيس اللغز دونالد ترامب، من خلال التمعّن في وجوه، والتعمّق في سِيَر الأشخاص الذين سيُسنِد إليهم المراكز الأساسية في إدارته. محدودٌ جداً ما يمكن استخلاصه من هذه المقاربة لأن ترامب الفائز بالرئاسة سنة 2024 قد لا يُشبه في قليل أو كثير ترامب الفائز سنة 2016. التنجيم في السياسة كما في غيرها عقيم.. كَذِب المنجمون ولو صدقوا. لنجرب إذن مقاربةً أخرى واقعية قوامها، الترجيح الرصين المبني على وقائع وقرائن مشهودة، وعلى ما قاله عنه، أو له معاونون سابقون ولاحقون للرئيس اللغز، بالإضافة إلى ما يمكن استشفافه من خطبه وأحاديثه خلال معركته الانتخابية الأخيرة لنستخلص في ضوء ذلك كله الترجيحات الآتية:
أولاً: في طبائع ترامب ومزاياه: يتفق معظم عارفي ترامب ومعاونيه بأنه لغز يلّفه الغموض، متقلّب المزاج، نرجسي، ومن الصعب توقّع ردّات فعله، قد يصغي إلى نصائح مستشاريه ومعاونيه، لكنه لا يعمل إلاّ بما تمليه إرادته التي يجب أن تكون دائماً نافذة، وتتجاوز الأحكام والكوابح والضوابط والأعراف إذا اقتضى الأمر، لأن ما يهمه هو نفسه بالدرجة الأولى. لذا يميل بعض المراقبين والكتّاب السياسيين إلى إضفاء صفة الديكتاتور عليه، ويرجّحون انه سيُحدِث انقلاباً في تقاليد وممارسات النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة.
ثانياً: رئيس بلا أيديولوجيا: لا يعتنق ترامب أيديولوجيا معينة ملهمة له في تحديد خياراته ورسم سياساته، لقناعاته الشخصية الدور الأول في هذا المجال، ولأنه رجل متقلّب المزاج، فلا استمرارية واضحة لأي نهج أو مسار في ممارسته السياسية. شعاره المحبّب «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» لا يتضمّن أيّ نهج أو آلية أو إشارة إلى كيفية تحقيقه، إنما يتضح من مسلكه الشخصي وبعض تصريحاته أنه يعتبر القوة الاقتصادية هي الأساس في الازدهار.
لا يعتنق ترامب أيديولوجيا ملهمة له في تحديد خياراته ورسم سياساته، لقناعاته الشخصية الدور الأول في هذا المجال، ولأنه متقلّب المزاج، فلا استمرارية لأي مسار في ممارسته السياسية
ثالثاً: الخطوط العريضة لسياسته الخارجية: في ولايته الأولى (2016 ـ 2020) أظهر ترامب عدم رغبته في التورط بحروب جديدة، أو حتى في حماية حلفاء الولايات المتحدة، لكنه تبنّى حجج بنيامين نتنياهو للانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، الذي كان قد هندسه سلفه الرئيس باراك أوباما، غير أن نتنياهو عاد إلى مطالبة الولايات المتحدة بمشاركته الحرب التي يعتزم شنّها على إيران للقضاء على برنامجها النووي. ولم يتضح بعد موقف ترامب في هذا المجال، إلى ذلك، ثمة مؤشرات عامة إلى أن سياسته حيال الدول والقضايا الأكثر أهمية ستكون وفق الخطوط العريضة الآتية:
*أوروبا الغربية: الضغط على الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لزيادة حصتها في النفقات الدفاعية للحلف، والتهديد بانسحاب أمريكا منه في حال عدم إذعانها.
*حرب اوكرانيا: سيحاول ترامب التفاهم مع الرئيس فلاديمير بوتين على وقف الحرب، لقاء حصول روسيا رسمياً على تنازلات جغرافية وازنة من أوكرانيا يجري فرضها على رئيسها زيلينسكي. الدافع إلى ذلك كله وقف ما يعتبره ترامب نزفاً لا يُحتمل في موارد الولايات المتحدة، نتيجة دعمها لأوكرانيا بمليارات الدولارات في حربها منذ أكثر من سنتين.
*مواجهة الصين: يعتبر ترامب أن صعود الصين المتسارع يشكّل تحدياً اقتصادياً وسياسياً بالغ الخطورة، يواجه الولايات المتحدة عموماً وفي شرق آسيا خصوصاً، لذا ينادي بفرض رسوم جمركية عالية على السلع الصينية المستوردة، كما يدعو إلى تقليص استثمارات الشركات الأمريكية والأوروبية في الصين، بالإضافة إلى دعم تايوان عسكرياً، وإبقاء الحضور العسكري الأمريكي فاعلاً في بحر الصين الجنوبي.
رابعاً: حرب «إسرائيل» على قطاع غزة ولبنان: لعل ما كتبه نداف تامير مدير عام منظمة J- Street اليهودية، في صحيفة «هآرتس» (2024/11/6) يلخّص إلى حدٍّ بعيد موقف ترامب من حرب «إسرائيل» على قطاع غزة ولبنان. يقول تامير: «يمكن أن يكتشف نتنياهو قريباً ما أشار إليه ترامب قبل الانتخابات: أنه يتوقع من نتنياهو إنهاء القتال في غزة ولبنان قبل موعد تنصيبه يوم 20 كانون الثاني/يناير المقبل. لكنه، بعكس الإدارة الأمريكية الحالية، لا يعمل على خلق بديل دبلوماسي من «حماس» وحزب الله. سيكون أمام الإسرائيليين الليبراليين كثير من العمل الصعب لإقناع إدارة ترامب بأن وقف إطلاق النار يجب أن يكون مرتبطاً بتحرير الرهائن الذين لا يهمون ترامب كثيراً. مصلحة ترامب المركزية والمحيطين به ليست الوقوف إلى جانب «إسرائيل» إنما في ألاّ تشكّل إسرائيل مشكلة لهم مع بداية الولاية. لذلك سيفعّلون كل الضغوط الممكنة على نتنياهو لإنهاء الأمور بأي ثمن، حتى لو كان الثمن إئتلافه الحاكم، وسيتضح سريعاً أن «الصديق ترامب «هو صديق مشترط، بعكس الرئيس بايدن الذي يُعتبر صهيونياً حقيقياً ومحباً لإسرائيل، فإن ترامب لن يكون مستعداً لدفع ايّ ثمن باسم الصهيونية».
خامساً: الصفقة الكبرى: التطبيع مع السعودية مقابل دولة فلسطينية، تتداول صحف إسرائيلية وأخرى أوروبية أخباراً وسيناريوهات عدّة حول مستقبل التعاون بين نتنياهو وترامب على صعيد الشرق الأوسط عموماً، وحرب إسرائيل ضد غزة ولبنان خصوصاً. أبرز هذه الأخبار والسيناريوهات وأخطرها ما يتردّد عن احتمال قيام «إسرائيل» بتفريغ شمال قطاع غزة من سكانه تماماً، وذلك في سياق التمهيد لصفقه كبرى يجري إعدادها بالتعاون بين أمريكا ترامب و»إسرائيل» نتنياهو على أساس رضوخ كيان الاحتلال لمطلب قيام دولة فلسطينية تتكوّن من الضفة الغربية والقسم الجنوبي من قطاع غزة على أن تحتفظ «إسرائيل» لنفسها بالقسم الشمالي منه مقابل تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والسعودية وموافقة الولايات المتحدة على عقد معاهدة دفاعية مع كلٍّ من الدولتين المذكورتين.
هذا باختصار تلخيص بخطوط عريضة لما يمكن أن يقوم به (أو لا يقوم به) ترامب المعروف بمزاجيته وتقلّبه. مع التأكيد بطبيعة الحال على أنه لا دور ولا علاقة البتة لأهل المقاومة في فلسطين ولبنان بما يتضمنّه هذا السيناريو المزعوم من مساومات ومقايضات. لا تتوقعوا خيراً من الرئيس الأمريكي اللغز.
كاتب لبناني
[email protected]