انتشرت الحركات الاستعمارية بداية من القرون الوسطى، حيث تدافعت الدول الأوروبية لاحتلال الدول التي لم يصبها التقدم بعد، مثل الدول الافريقية، أو الدول التي تتمتع بثراء واسع، ويعتقد الأوربيون أنها تستحق النهب والتخريب مقابل إمدادهم بقبس مما توصلوا إليه من مدنية، مثل بعض الدول الآسيوية، ونخص بالذكر هنا الصين واليابان. لكن التاريخ يسطر أنه قبيل منتصف القرن العشرين، اتخذت الدول المستعمَرة خطوات واسعة للتخلص من الاستعمار، وعلى ما أعتقد أن الجميع على دراية بذلك. وبهذا، ظن الجميع أن عصور الاستعمار ولت باستقلال الدول، وهذا كلام خاطئ.
مع نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين بزغ استعمار شديد الوطأة، ومتعدد الأذرع، ومبشراً بانعدام فرص النجاة من وطأته. فلو كان الماضي يعج باستعمار مادي، نجد أن حاضرنا المعاصر معطوب باستعمار معنوي، جذوره تضرب في التاريخ، ولا نهاية له إلا قيام يوم الدين. فبعد أن صار العالم قرية صغيرة، وصارت جميع الدول بإمكانها الانفتاح بسهوله على الدول الأخرى، أصبحت شعوب العالم تتحرك في إطار محدود.
ومن ثم، فإن مصطلح «العالم قرية صغيرة» أصابه العطب؛ لكونه لا يمثل الوضع الحالي. فالعالم صار «شقة صغيرة»، وليس حتى بناية تتكون ولو من طابقين. وبغض النظر عما يتواتر من أقوال تشير إلى فائدة ذلك الوضع، فإن هذا الانفتاح بمثابة خطر داهم. فقد انفتحت الشعوب الأقل تقدماً على شعوب لطالما نظرت لها بعين الرهبة والمهابة، ولم تعرف عنها إلا ذلك القبس الذي تتيحه الأقدار أمامهم، سواء من وجود أفراد ينتمون للعالم الغربي المتقدم على أراضي بلادهم، أو من الحكايات التي يتناقلها الناس عن ألسنة من سافر لتلك الدول. وفي كل الأحوال، كان يتم النظر لهؤلاء الأفراد أو تلك الحكايات كونهما ثقافة وافدة، ولا يمكن تطبيقها في دولهم؛ لما تتميز به تلك الدول من عادات وتقاليد مغايرة، بالإضافة إلى الأحوال السياسية والاجتماعية، والاقتصادية التي لا تمت لا من قريب، أو بعيد لأحوال تلك الدول، ولا تتمكن أي دولة أن تستنسخها كتجربة ناجحة.
لكن الانفتاح الثقافي المتواصل على دول العالم الأول، قد رسخ في الأذهان سهولة تقليد واستنساخ تلك التجارب. فقد سبرت الشعوب أغوار بعضها بعضا، وفطنوا إلى أن الإنسان لا تتغيير خصائصه من مكان لآخر، لكن موطئ التغيير هو فقط الأحوال الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية. وفي ظل الحركات التحررية من جميع القيود المفروضة على الإنسان، التي تحد من حريته، وجدت ما يطلق عليها شعوب العالم الثالث والرابع، والتي تفعم بالتطلع لعالم أفضل، أن نيل أحلامها يتمثل في اتباع خطوات شعوب العالم الأول نفسها. وبالتالي، تحول هذا الهوس إلى عملية تقليد دائم ومستمر. وبناء على ذلك، أدارت الشعوب الأقل تقدماً ظهرها لذويهم، لكونهم لا يزالون يتمسكون بكل ما هو متخلف بدائي وغير راق، بل صار جل ما يفعله هؤلاء هو الاهتمام بتوجيه رسائل للغرب بدون أدنى محاولة للنهوض ببلادهم فعلياً.
دول العالم الأول والثاني يكافحون لأقصى حد للحفاظ على هوياتهم الثقافية المميزة. وعلى النقيض، نجد أن شعوب دول العالم الثالث والرابع يطرحون جانباً، وبكل ازدراء كل ما يميزهم، حتى لو كانت لغتهم الأم؛ معللين ذلك بأنه الوسيلة الوحيدة لإظهار مدى رقيهم، وقدرتهم على ركب الحضارة.
ويذكر التاريخ أنه خلال العصور الاستعمارية الغابرة، وخاصة في ظل الاحتلال البريطاني، تشكل ما يعرف بـ»أدب الكومنولث» وهو مصطلح يشير إلى الإنتاج الأدبي للدول المستعمَرة، علماً بأنه تمت كتابته باللغة الإنكليزية، ووفقاً لنسق المستعمِر البريطاني، سواء أكان هؤلاء الأدباء يحيون فوق أرض بريطانيا العظمى، أو قابعين ببلادهم المستعمَرة. ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من الإنتاج الأدبي تم إدراجه تحت عباءة الإنتاج الأدبي البريطاني في المستعمرات، على الرغم من أنه قد يشير إلى ما يحدث للشعوب المستعمَرة في ظل الاستعمار. ويلاحظ أيضاً، أن هذا النوع من الآداب لا يدل على تفتح الشعوب المستعمَرة، ولا يجعلهم يرتقون إلى مستوى المستعمِر وينازعونه ممتلكاته؛ لأنهم قبل أي شئ يكتبون ما يود المستعمر قراءته عنهم. فبالنظر عن كثب لهؤلاء ـ سواء أكانوا من الأدباء أو من الذين تلقوا تعليمهم، أو استقلوا بحياتهم في العالم الغربي ـ نجد أنهم يرمقون ذويهم بنظرة دونية، ويديرون ظهورهم لما يميز شعوبهم من عادات وتقاليد، تمثل في مجموعها «هوية البلد المتفردة». والمعضلة الرئيسية لهؤلاء فقدانهم لهويتهم، فليس بمقدورهم العودة لحياتهم البدائية التي لطالما افتخروا بها لأنها الطابع المميز لهم، ومن المستحيل أيضاً أن يقبلهم العالم الغربي كأحد أبناء شعبه؛ فهم في عيون الغرب لا يزالون سكان العالم الثالث والرابع الموصومون بالجهل والغوغائية السرمدية. في الماضي، كانت تمثل الفئات المتنصلة عن جذورها قلة، أما في الوقت الحاضر فتأزم الموقف؛ حيث استشروا ليشكلوا الأغلبية.
فبعد أن صار العالم «شقة صغيرة»، وجدنا الشعوب الأقل تقدماً تتخذ من التقليد الأعمى لكل ما هو غربي سبيلاً للرقي، وهذا في إطار إعلاء راية التنوير، وركب الحضارة، وإدخال دماً جديد على الثقافة. فعلى سبيل المثال، إذا تناولنا بالتحليل ما يحدث حالياً في مجتمعنا، نجد أن كل شيء يتبدل، ولعل أبسط مثال على ذلك هو أكلة «الفلافل» الشهيرة وسمت الآن بتسمية جديدة: «غرين برغر». فالعقم الفكري، واللهث وراء التقليد – وليس التجديد – قد ولد أمية متفشية من جرائها كان ضياع حقوق الملكية الفكرية لهذه الأكلة المميزة جداً. وتلك القضية قد يعتقد البعض أنها هينة، وأنه يتم إعطاؤها أكبر من حجمها. لكن بالتمعن في حقيقة الأمر، يكتشف أنه على المدى البعيد سوف يتم تبديل التاريخ، وبالتالي العادات والتقاليد التي تشكل الهوية المتفردة للشعوب؛ لتصير جميعاً تصب في بوتقة واحدة ألا وهي: محو هويات الأمم وصهرها جميعاً في بوتقة واحدة؛ لتكون تابعة لحاكم واحد. ويعتبر مثال «الفلافل» نموذجاً هامشياً لما يمكن أن يحدث بجدارة لأشياء أكبر وأهم. فالهدف الأساسي لمنظومة العالم الجديد هو الاستعمار الفكري لجميع الشعوب، وإزالة جميع الفروق الثقافية بينهم، التي هي في مجموعها تشكل الهوية المتفردة لهم؛ لإزالة جميع الحدود السياسية فكريا ونفسياً، في بادئ الأمر، تمهيداً لتحويلها إلى أمر واقع. لقد صار العالم الآن «شقة صغيرة» في سبيله إلى تحويل جميع شعوب الأرض لأتباع يقطنون دول كومنولث، أو أمم تابعة لمستعمر واحد يحكم هيمنته عليها. وقد انغمست جميع دول العالم بدون استثناء في تنفيذ مشروع التبعية، إلا أن دول العالم الأول والثاني يكافحون لأقصى حد للحفاظ على هوياتهم الثقافية المميزة. وعلى النقيض، نجد أن شعوب دول العالم الثالث والرابع يطرحون جانباً، وبكل ازدراء كل ما يميزهم، حتى لو كانت لغتهم الأم؛ معللين ذلك بأنه الوسيلة الوحيدة لإظهار مدى رقيهم، وقدرتهم على ركب الحضارة. وبدون شك، يتم دحر من يخالفهم. فالنجاة من ذلك الموقف العبثي صارت مستحيلة، فإما ركوب موجة الرقي الزائفة، أو الخضوع للموت المعنوي والنفسي المنبثق من الانعزال الفكري. النجاة صارت مستحيلة على جميع الأصعدة، ومن يدعي غير ذلك عليه إقامة الدليل، لكنه لن يستطيع.
٭ كاتبة من مصر
بعد قراءة المقال بدأت أفكر مرتين في كل شئ يدور حولنا وما نفعله. مصطلح “العالم شقة صغيرة” لفت نظري جدا. حاليا الخصوصية بدأت تكون أمر مستحيل ولا يمكن لأي دولة أو أي شخص أن يبتعد عن الأنظار. فلو اتصل بنا أحد نبدأ البحث عن خلفياته على الانترنت وطبعا بندخل حسابه في الفيسبوك او لينكيدإن وفي الآخر بنعرف على الأقل شكله وميوله وعمره. لا يمكن ان يعيش اي فرد الآن شبح او على هامش الحياة إذا اراد هذا. صدقت العالم أصبح “شقة صغيرة” . . . أنا حزينة اوي على ضياع الخصوصية
من وجهة نظري ما قدمته د نعيمة عبد الجواد تحت عنوان (لا تجادل… لست من الناجين) لمقال لها في جريدة القدس العربي مثال رائع،
لمفهوم النظام البيروقراطي الذي تم تأسيسه لإدارة وحوكمة دولة الحداثة، بعد الجيل الأول من الثورة الصناعية، وحتى الآن في عصر الجيل الرابع الذي أصبحت فيه الآلة لا تحاكِ عضلات الإنسان، بل كذلك عقله،
ولكن أنا اختلف تماماً، مع كل النظرة السلبية في طريقة الصياغة والتعبير في كيفية الوصول إلى الجيل الرابع، ومن كان سبب ذلك،
فمن وجهة نظري، كانت مبادرة الحكومة في تركيا لدعم (مشروع الفاتح)، والحكومة في سنغافورة لدعم (مشروع القدوة)، والتكامل فيما بين هذين المشروعين، أنتج مفهوم (e) أو الحوكمة مع الإدارة في الحكومة الإليكترونية،
وبداية التطبيق العملي له، كان في دول شرق آسيا بعد 2008، ودول مجلس التعاون في الخليج العربي بعد زيارة دلوعة أمه (دونالد ترامب) وبداية التشغيل من الرياض في عام 2017، في الوصول إلى المدينة/الدولة الذكيّة فيما تقدمه من خدمات (بلا أي غش تجاري)، أساسها الشفافية واللا مركزية، من خلال عمود الكهرباء في الشارع كنقطة انطلاق.
قيادة شركة مايكروسوفت الأمريكية، أنتجت كتاب هذا العام (Tools and Weapons) بعد توقيع أكبر عقد لتطوير مفهوم الحوسبة، مع ألمانيا حضرت التوقيع المستشارة ميركل شخصياً في عام 2019 لتبيين مقدار أهمية هذا الموضوع للحكومة الألمانية.??
??????
ركوب موجة الرقي الزائفة على حد قول د. نعيمة عبد الجواد جعلت الجميع فاقدين الهوية وجعلت الثقافة ضحلة جدا. ويكون الآباء مسرورين جدا عندما يرون أطفالهم يتحدثون الانجليزية او يتكلمون اللغة العربية بلكنة أجنبية لأنهم يحاولون التأكيد أن أولادهم متمييزين وتلقوا أفضل تعليم. وأما عن مشكلة الانتماء أو الوفاء نجد الشباب الجديد صار لا ينتمي حتى ولو لفكرة او معلومة وكل حاجة من السهل استبدالها بشئ آخر. واما الوفاء فهو ضاع وصار غير موجود وكأن عدم الوفاء هو دليل على التقدم. النظر للواقع يجعلنا نحزن على ما أصبحنا عليه.