لا تطبش

القسوة قبيحة، حتى في الدفاع عن الحق (مع التحفظ على كلمة حق) هي قبيحة حتى وهي ضرب من حرية التعبير، هي قبيحة حتى وهي مطلوبة ومفيدة. القسوة والعنف بشعان حتى عندما يكونان وسيلة تبررهما غاية يعتقدها صاحبها نبيلة أو مبدئية.
وللقسوة مصدران، أولهما الشعور بملكية الحق المطلق التي تبرر للإنسان أن يقسو ويتوحش في سبيل إحقاق «حقه» وثانيهما هو الشعور باليأس وبانسداد الطرق اللذين يدفعان صاحبهما لا إرادياً لأن «يطبش» عنفاً ولو في الهواء محاولة للخروج من المأزق. أتفهم دافع القسوة في الحالتين ولا أتقبله تبريراً، فالإنسان المتمدن يفترض أنه وصل لمرحلة تجاوز بها اعتقاده بحق منفرد مطلق يؤمن به كل البشر كما وتجاوز أسلوب «التطبيش» الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.
إلا أن واقع الحال يقول بأن الإنسان «المتمدن» لم يتجاوز شيئاً مطلقاً، ما زال هذا الإنسان يدور في حلقاته البدائية غير قادر على أخذ خطوة حقيقية «نفسية» للأمام. تقدم الإنسان علمياً كثيراً، حقق إنجازات هائلة، وسيطر، نسبياً، على الأرض ووصل إلى القمر، إلا أنه لا يزال يؤمن بالخرافات، لا يزال يخلط عالمه المادي بعوالم خيالية، لا يزال يرمي بهزائمه على أسباب ما فوق طبيعية، لا يزال يمارس عنصريات قديمة أقل ما توصف به أنها خالصة الغباء وخالصة النقاء من كل حس أو مفهوم علمي، فيعتقد بأفضلية الأبيض على الأسود، والذكر على الأنثى، بل ولا يزال يعتقد بمفاهيم مثل نقاوة الدم وأصالة العرق، التي لربما هي المفاهيم الأكثر جهالة وبدائية على مدى تاريخ البشرية.
وهكذا، ومنذ أن ظهرت الأديان الذكورية على الأرض عموماً واستتب الأمر للأديان الحديثة خصوصاً، استقرت القسوة كأسلوب تعامل بعد أن أخذت فكرة الحق المطلق لب البشرية. لم يعد هناك قوة عظمى يتطلع لها البشر جمعاً وسواء في السماء، لم يعد هناك صانع له طرق عدة قد يسلكها البشر بوسائل وعبر ممرات مختلفة، أصبح هناك إله خاص بكل مجموعة، وأصبحت كل مجموعة كافرة بكل الآلهة عدا إله مجموعتها، لا تختلف هذه المجموعات بذلك عن المجموعة اللادينية، الفرق أن المجموعة اللادينية لا تعتقد بكل الآلهة، فيما المجموعات الدينية تكفر بكل الآلهة إلا إلهها، الفرق فعلياً هو إله واحد. وهكذا، ولأن كل مجموعة باتت تعتقد بأنها صاحبة الحق الأوحد والإله الأوحد، استتبت القسوة وساد العنف وتجاهل الجميع مفاهيم الرحمة والعدالة والمحبة التي يفترض أن يمثلها صانع هذا الكون بفيزيائه العجيبة وبيولوجيته الخلابة التي نرى شيئاً طفيفاً منها في أنفسنا.
ولربما أقرب مثال لي شخصياً على استتباب القسوة بسبب من تمكن حالة اليأس من النفوس هو المثال المتجلي حالياً في الحالة الكويتية، حين تغير الخطاب السياسي وارتفع الصراخ النيابي وسادت حالة من العنف والفوضى بين الحكومة والمجلس نظراً لوصول الجمع المتعارك إلى حائط سد. حقيقة الأمر أن مؤشرات الفساد ارتفعت بشكل غير مسبوق، وأن مؤشرات التعاون النيابي الحكومي انخفضت بشكل غير مسبوق، وأن مؤشرات العناد والتجاهل الحكومي للبرلمان ولفئة كبيرة من الشعب تجلت بوضوح وفظاظة بشكل غير مسبوق كذلك. كل ذلك قاد إلى حالة من العنف غير المسبوقة على المستوى النيابي، فامتدت الأيادي وطالت الألسن وأصبح التراشق عبر وسائل التواصل حالة يومية يعيشها المجتمع الكويتي. وحين يطال المعارضة النقد بسبب من أسلوبها المتدهور (حيث حافظت الحكومة على خطابها برفاهية أدب الطرف الأقوى) يأتي رد المعارضة اليائس والحقيقي مباشرة بأن الوضع أشبه بزاوية ضيقة خانقة انحصرت هي فيها داخلياً وبمنافٍ باردة تشتت أعضاؤها فيها خارجياً، فأي أدب وهدوء خطاب ممكن طلبه منهم بعدها؟
ولربما هناك سبب ثالث لاستتباب القسوة ألا وهو الخوف، فالخوف يدفع بالإنسان لتبني كل سبل حماية النفس بما فيها القسوة والعنف إلى أقصى حدودهما. يحضرني مثال اجتماعي يومي نعيشه مع معارضي لقاح كورونا من حيث قسوة مقاومتهم لتلقي هذا اللقاح الحيوي، حيث تبنوا نظريات المؤامرة في أقصى وأفظع صورها والتي، أي هذه النظريات، تمثل نوعاً من العنف ضد النفس. كما وأن مقاومتهم أصبحت تأخذ صورة من صور التحدي المغلف بالغضب الشديد، اللذين يخفيان في طياتهما رعباً شديداً من المجهول وآلاماً شديدة جراء ما يبدو نزاعاً داخلياً نفسياً بين الإيمان بالعلم الحديث الذي يتطلب الثقة المبنية على الفهم، وبين الاقتناع بالخرافات ونظريات المؤامرة التي تتطلب الاستسلام للأسباب الميسرة الساذجة «اللذيذة».
نقسو جميعاً على أنفسنا وعلى بعضنا البعض، نقسو حين نؤمن ونقسو حين نَظلِم ونقسو حين نُظلَم ونقسو حين نخاف. نحتاج لأن نجرب علاجاً جديداً لآلامنا ومخاوفنا التي لا تؤثر فيها القسوة إلا اطراداً، بصبها لزيت الغضب على نيرانها. الهدوء والحكمة وتحكيم العقل والمنطق والتواضع أمام جهلنا البشري، كلها تبدو رفاهيات وقت الأزمات الحقيقية، رفاهيات غير متوفرة لنا جميعاً باختلاف نفسياتنا وثقافاتنا واعتقاداتنا، رفاهيات هي الأهم في أن نسعى لتحقيقها وتفعيلها، ليكون لجنسنا البشري فرصة صغيرة في البقاء.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    2- مامعنى الأديان الذكورية والأديان الحديثة؟ هل كانت هناك أديان أنثوية وأخرى قديمة؟ هل هذا التقسيم يتسق مع الدين الإلهي المرتبط بالوحي أم ينتسب إلى الأديان الوضعيةالتي صنعها البشر؟
    لا أدري ما ذا يقصد المقال بهذين النوعين من الأديان.الذي نعلمه ان هناك دينا واحدا من رب العالمين نزل على الرسل والأنبياء متسقا مع طبيعة القوم الذي نزل فيهم وظروفهم، حتى جاء الدين الخاتم عاما وشاملا للناس كافة على يد محمد بن عبد الله صلى الله عليهوسلم. الأديان الوضعيةالحديثة مثل الماركسيةوالماسونية والبهائية والوجودية والليبرالية والناصرية والترامبية والنازية والفاشية والترفيهية والبعثية والمنشارية وغيرها مرفوضةإسلاميا لأنها تقود إلى الوحشية والقسوة والإجرام(إن بطش ربك لشديد)

  2. يقول علي:

    3- لا ريب أن الكويت تحظى بنصيب من حرية ا لرأي في مجلسها النيابي لا تعرفه أم الدنيا، بعدأن أسهم الأعراب المتصهينون مع الصهاينة اليهود والغرب القاسي الغليظ في وأد الحرية بعد ثورة يناير ، ودعم انقلاب العساكر الخونة الذين قضوا على كل كلام عدا المدح للجنرال والردح للأحرار . وفي تونس الخضراء يقوم أتباع الأعراب والثورة المضادة بأفعال لا تمت للديقراطيةبصلة ويمارسوناقسوة في ابشع صورها، ليس أقلها أن تتحرك النائبة الطروب بالميكروفون لتفسد انغقاد الجلسات وتشتيت الأفكار وتفريق النواب.
    ومع ذلك فالكلام داخل الدائرة السلمية أفضل من الكلام تحت تعذيب الكهرباء والتعليق من الأرجل والشد على العروسة. الحكام الهمج يصنعون العجائب ويصنعون دينا حديثا!

  3. يقول ماغون:

    العقل مصدر السعادة والتعاسة في آن واحد.

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للدكتورة ابتهال وللجميع
    القسوة والبطش متاصلان بالانسان مهما تحضر فقد تردع القوانين ان طبقت في مجتمع او دولة ما على الجميع ولكن بالمقابل قد يكون نفس المجتمع او الدولة تمارس القسوة والبطش على جيرانها والاسباب مختلفة وكثيرة ولكن ما يهمنا هي مجتمعاتنا ودولنا فالعشائرية والطائفية والدين والعنصرية قد تكون من الاسباب التي يركن اليها الفرد في مجتمعاتنا لممارسةبطشه على الاخرين ولا ننسى التربية الاسرية فرب الاسرة يعتبر كل افرادها ملك له يتصرف كما يشاء

  5. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ الكروي داود
    بسم الله الرحمن الرحيم: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ …….. (29) الكهف الا تعتقد ان سورة التوبة قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم …
    نسخت هذه الاية والا لكانت دولنا قد اقرت قوانين بموافقة رجال الدين المسلمين تسمح للجميع بمن فيهم المسلمين بتغيير دينهم

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      عن مجاهد : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ،
      حين أمر الله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بغزوة تبوك!
      لقد حشد هرقل الروم لهذه المعركة يا عزيزي سلام مئتان ألف مقاتل لغزو المدينة المنورة للقضاء على الإسلام!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  6. يقول ابن اكسال:

    ” أشداء بينهم ….رحماء مع الغربيين ” ……

  7. يقول Riad Attar:

    نعم صحيح!
    الافكار الحتميه قاسيه حد الاجرام-مثلاً اجرام بول بوت ساري في كمبوديا بناءً على ايدولوجيا حتميه. كذلك جراءم الفرق الدينيه المتطرفه من الازارقه الى تنظيمات التكفير. الكاءن الحتمي سواء ديني او ايدولوجي او قومي او …هم قاسي ومجرم ب الامكان. العقل المنفتح الاحتمالي هو الذي يقي من النظره الضيقه المتعسفه. كلام الدكتوره بلسم فكري لازم نتعلم منه.

  8. يقول سلام عادل(المانيا):

    لنقل ان ما نقلته عن مجاهد صحيح وهل تغير الامر هل يستطيع المسلم ان يغير ديانته وهل الدولة ورجال الدين يسمحون بذلك وبالتالي لم نكن لنغزو ونقاتل ونقسو على الاخرين ولو كنا مؤمنين بالاية من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر لكانت حكوماتنا لم تفسو على معارضيها ولا السلفيين قاموا بما قاموا من مذابح بحق من يخالفهم

    1. يقول عبد الرحيم المغربي .:

      أنا أوافقك الرأي أخ سلام… في هذه النقطة بالذات… وأن الأساس في الإيمان في الإسلام هي حرية الإختيار والاعتقاد…بل واستعمال العقل والبراهين بالنسبة إلى من هو مؤهل علميا وادراكيا لذلك…وهذا هو توجه الكثير من علماء الإسلام الكبار مشرقا ومغربا مثل أبي الحسين البصري والغزالي والقاضي عبد الجبار وابن حزم….الخ وهناك خلط عند البعض بين أحكام الحرب ..واحكام السلم…والمرتكز ان السلم في الإسلام هو القاعدة والحرب استثناء…واغلبها يكون لغاية الدفاع عن الوطن والبلاد والاعتقاد… وإلا فإنها سياسية بشكل أو بآخر…؛ نعم .. الإسلام وصل الى القارات الخمس بالحجة والاقناع…وليس بالجزية والحقيقة والواقع خير شاهد على ذلك…

  9. يقول نزار حسين اشد ...كاتب عالمي وشاعر معروف.:

    هناك تجاوز كبير وفاضح للنسبية في تعريف القسوة.فهي مصطلح متداول وعابر لكل اوجه النشاط الإنساني من الصحافة وحديث العوام إلى الفلسفة وعلوم الأديان والإنسان.اما ربطها بما سمته الكاتبة الاديان الذكورية فهو ربط تعسفي لا محل له في هذا السياق..والحقيقة انه لا يوجد شيء اسمه الاديان الذكورية وإنما بعض المنادين بالمثلية الجنسية والنسوية الجاهلة فهموا بسذاجة الإشارة الذكورية للإله على انهاذكورية دينية. طبعا لجهلهن الفادح بعلم اللغويات وتاريخ الاديان”فالإشارة الذكورية هي إشارة تجريدية وليس جنسية بعكس الإشارة الانثوية التي هي تاكيد للجنس وهذا من صميم الخطاب اللغوي في كل اللغات ومن الإعجاز القرآني بيان هذا الخطأ بالتعبير والسياق الصحيح” التسمية فقال سبحانه”إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملاىكة تسمية الأنثى” بالتاكيد على التسمية وهي جذر الإشكالية وليس الصفة الجنسية.الحقيقة ان التطرق لهذه المساءل بحاجة إلى تعمق وسعة اطلاع وتخصص .

    1. يقول أسامة حميد -المغرب:

      ” الحقيقة ان التطرق لهذه المساءل بحاجة إلى تعمق وسعة اطلاع وتخصص .” لقد لخصت الإشكالية في هذه الجملة البليغة يا أستاذ نزار. المشكل أن كل من هب وذب يريد أن يكون فقيهاً وعالم دين بينما يتم احترام التخصص في كل المجالات الأخرى من طب وهندسة…الخ.

  10. يقول جميلة راتب:

    إلى الأخ سلام عادل والأخ عبد الرحيم المغربي:
    رغم أن في كل من كلامكما شيئا من الصحة ولا شك، إلا أن أنكما تنظران إلى المسألة المعنية من جانب واحد، وواحد فقط، وأعني هنا جانب الناسخ والمنسوخ عند الأول منكما، وجانب حرية الاعتقاد عند الثاني.
    كما أشار الأخ حي يقظان في إحدى مداخلاته الألمعية في هذا الصدد، وإذا لم نذهب بعيدا في قضايا اللاهوت (الفلسفي) في حد ذاته، هناك في المنطق الجدلي الهيغلي ما يُسمَّى بـ«الطَّرِيحة» Thesis (القابل المنطقي)وبـ«النَّقِيضة» Antithesis (المقابل المنطقي)، فيما يتعلق بالقضية المهمة التي أُثيرت ههنا.
    [يتبع]

    1. يقول جميلة راتب:

      [تتمة]
      فأما من حيث قابل الطَّرِيحة، فإن مسألة حرية الاعتقاد تتأسَّس نصيًا في القرآن الكريم على الآية التالية: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ » (البقرة:256). وهذه الآية تمتلك كل مقومات الآية المحكمة على الرغم من اختلاف الفقهاء في فهمها وتأويلها فيما إذا تمَّ اعتبارها محكمة أو منسوخة. وأما من حيث مقابل النَّقِيضة، فيمكن النظر إلى تلك الآية بوصفها منسوخةً بوجود آيات أُخرى (أو حتى أحاديث أُخرى) تتناقض معها في المعنى من قبيل آيات القتال، كما في الآية التالية، على سبيل المثال لا الحصر: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ» (التوبة:29). أو حتى كما في حديث قتل المرتد بدلائله التي تزيد عن الأربعة، وأكتفي هنا بذكر الدليل الأول للاستئناس: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، إلى آخره، مما استوجب التنويه !!!؟؟

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية