لا تغيير سياسيا بمعزل عن المؤسسة العسكرية… لبنان أنموذجاً!

ما نلحظه في كل حراك عربي، أن الآلة الإعلامية سرعان ما تهرول محاولة استجداء تعاطف الرأي العام مع الجيش العربي، للبلد الذي أصابته حمى الحراك الشعبي، وكأن الآلة الإعلامية، وهي كذلك، الخاضعة بدورها للقوى العسكرية والسياسية والأمنية، تسعى لحرف وعي الرأي العام عن المتغير الثابت والمسؤول عن تكريس أنظمة الحكم السياسي، في أروقة الوطن العربي، فنجد الكاميرات سرعان ما تنقل الحالة الرومانسية بين الشعب والعسكر لدرجة النشوة، وكأن الأخير لا علاقة له البتة في الواقع السياسي والاستبدادي، الذي يحكم ويدير الوطن تبعاً لمصالح الغير.
فنشاهد الطفل والشاب والمرأة وكبار السن والجموع كلها تتجمهر وتطوف لتتعبد الجيش والقوة بإهدائها الورد كقربان شعبي تتزلف بواسطته الحياة والحرية، لتصرخ بصوتها المبحوح شعاراتٍ مفادها أن (الشعب والجيش يد واحدة). وحقيقة الأمر أن الواقع العربي لا يعكس ذلك على الإطلاق، ويبدو ذلك جلياً أيضاً في نموذج الحراك اللبناني، أحدث حلقات الحراك العربي، الذي حاول الإعلام منذ اندلاعه الهرولة والتركيز على العلاقة الحميمية التي طفت فجأة على السطح الاجتماعي بين الجندي والمواطن، لنلحظ بوضوح أن المشاهد التلفزيونية ركزت بحرفية عالية على الدموع العاطفية لعناصر الجيش اللبناني أثناء تأدية وظيفتهم، لتحول هذا الحراك الشعبي الغاضب إلى أداة دعائية تعزز بواسطتها الصورة الإيجابية للقوة العسكرية في اللاوعي الجمعي العربي واللبناني على وجه الخصوص، مع العلم أنه ذاته يعتبر أساس مشكلة الفوضى الشعبية والأمنية والسياسية في لبنان!
فقد أثبتت المتغيرات السياسية والاجتماعية خلال مسيرة الانتفاضة العربية، أن العلاقة بين الجيش والشعب في إطار واقع الحراك العربي، هي علاقة السيد بعبده، وأن المؤسسات العسكرية العربية هي البلطجي والرصيد الحقيقي والاحتياطي الضامن والمسؤول عن اختيار وتكريس أدوات النظام السياسي العربي الحاكم، فالقوة العسكرية لأي بلد تعتبر هي العمق والضامن الأساس لأي نظام سياسي يتحكم بخيوط الحكم، والقول بعكس ذلك تغريد خارج السرب ومحاولة لتضليل الرأي العام العربي، وعليه فإن مشكلة الحراك العربي مع العمق العسكري، وليس مع الواجهة السياسية، لذا لا يمكن الحديث عن ثورة في أي قطر عربي إلا إذا كان هناك انقلاب داخل أجنحة المؤسسة العسكرية والأمنية ذاتها، أي عندما تنقلب البندقية الوطنية الشريفة على البندقية المغربة والمستأجرة في رأس هرم المؤسسة العسكرية والأمنية لدول الحراك العربي. لذا فاستراتيجياً في إطار التركيبة الحالية للقوى العسكرية العربية، كل حراك شعبي هدفه التغيير السياسي في إطار استقرار المؤسسة العسكرية والأمنية الحالية لا يعدو كونه صراعاً على العمالة المقنعة والمغفلة، ونشاطاً ديمقراطياً يسعى إلى اختيار الاحتلال والمستبد والعبودية، لكن بحرية وبشكل ديمقراطي.

أمام الجناح العسكري الوطني في الجيش اللبناني فرصة ذهبية لإعادة هيكلة ذاته العسكرية، بعيداً عن المحاصصات الطائفية والدينية

الترويج لمقولة أن أولادنا هم القوى الشعبية التي يتكون الجيش منها، مغالطة كبيرة وخلط للأوراق، والحقيقة أن أولادنا هم عبيد حرب لا حول لهم ولا قوة، ولا يختلفون البتة عن عبيد الحروب في العصور القديمة، عندما كانوا يساقون مرغمين ومقيدين بالجنازير، كي يدافعوا عن مصالح السيد والإله السياسي، لكن في الوقت ذاته تعتبر هذه الطبقة (عبيد الحرب) بيضة القبان، حال حدوث أي انقلاب داخل الإطار العسكري، فإن هذه الشريحة الاجتماعية سيتجند غالبها فوراً تحت جناح الصحوة العسكرية والأمنية، إذا ما حدثت في الرأس الهرمي للمؤسسة، لأن مخيالهم الحضاري حاضر، لكنه يفتقر لمناخ ملائم وآمن، الذي لا يلتقي بدوره إلا مع تيار الصحوة العسكرية الوطنية القادر على انتشالهم من حيز العبودية، لحيز الوجود الحضاري والإنساني. وعلى الفئة العسكرية الشريفة داخل هذه الجيوش العربية، أن تستثمر الحراك الشعبي وتبدأ بالانقلاب الآمن داخل المؤسسة العسكرية، لتصنع ثالوثاً ذهبيا بينها وبين الحراك وطبقة عبيد الحرب المختطفة.
وهكذا نرى أن مشكلة الحراك العربي الأساسية هي مع إرادة المؤسسة العسكرية المحلية، وبالتالي المؤسسة العسكرية الدولية، لأن الأولى (المحلية) لا استقلالية لها أصلا في العالم العربي، بعكس المؤسسات العسكرية في الغرب، لذلك لا يمكن أن يكون الحل في ظل الحراكات الشعبية العربية، حصراً، في الاقتصار على تغيير النظام السياسي، الذي لا يعبر في حقيقته عن واقع عسكري مستقل، بل هو تعبير عن الواقع العسكري المختطف، أي عن الاحتلال غير المباشر الذي لا يمكن أن يلتقي مع مصالح الإرادة الشعبية، لذا لا يمكن التقاء مصالح المظاهرات مع الإرادة السياسية، لأن الأخيرة ببساطة مفروضة من القوى العسكرية المحلية والمختطفة في حقيقة الأمر، وعليه فإن العلاقة بين الشعب والقوى العسكرية والأمنية بتركيبتها الحالية، علاقة وجود أو عدم، وهذا ما يفسر سلوك القوى المحلية والدولية في القتل والتهجير والاعتقال، كخيار أوحد في معالجة أزمة الحراك السوري مثالاً، في حين أنها ألهت المعارضة المصطفاة دولياً، بالحديث عن السراب السياسي، وكذبة الحل السياسي التي لا وجود لها أصلاً في منطق الثورات، وهكذا تحولت المعارضة السياسية لما يشبه «الأنتي فيروس» المسؤول عن حماية النظام الأساسي الحاكم من الفيروسات الشعبية، وهذا ما يراد تطبيقه في لبنان اليوم، بغية خلط الأوراق، وعلى الحراك أن لا يقع في الفخ السوري نفسه.
والأكثر من ذلك، بدا في العقد الأخير أن العلاقة وطيدة للغاية بين كافة الجيوش العربية، رغم اختلاف الواجهات السياسية أيديولوجياً وفكرياً بين بلد والآخر، وتنعكس قوة هذه العلاقة بوضوح عندما يتعرض أحد الأنظمة العربية لأزمة شعبية أو سياسية خارجة عن حدود السيطرة، عندها تتوحد الجهود العسكرية لتقف بوجه محاولة الانقلاب والتمرد الشعبي على النظام الحاكم، واتضح ذلك جلياً في مسألة اجتياح العراق للكويت، واجتياح الجيش السوري للبنان، وكذلك اجتياح حزب الله اللبناني والقوى الإيرانية لسوريا، لذا فإن المراهنة على تعاطف المؤسسة العسكرية مقامرة ثورية، فثورة التغيير لا يمكن بدأها أو بعبارة أدق لا يمكن أن تنجح إلا بانقلاب أحد القوى الفاعلة على القوى الأخرى داخل المؤسسة العسكرية والأمنية. ولا يعني ذلك إعادة استنساخ حالة الانشقاقات العسكرية المشهودة في سوريا، لأن الانشقاق ليس انقلاباً إيجابياً، بل هو هروب من المؤسسة العسكرية، ويصب في صالح المؤسسة المختطفة ذاتها، فهو يساعدها على تنظيف ذاتها من التراكم العسكري الوطني والشعبي، الذي أنتجه التدافع والقادر بدوره على إعادة هيكلة الذات العسكرية، وإحداث انقلاب عسكري لصالح الإرادة الشعبية داخل المؤسسة العسكرية المختطفة في لبنان، لكن في ظل غياب أو تأخر هذا الانقلاب الوطني في لبنان اليوم، لا شك أننا سنشاهد عندها تغييراً عنيفاً في التكتيك السياسي لدى المؤسسة العسكرية اللبنانية، أثناء تعاملها مع الحراك الشعبي، وما أقصده بالمؤسسة العسكرية هنا لا يقتصر على الجيش فقط، بل يشمل حزب الله أحد أهم أركانها، إن لم نقل الرأس المدبر والقيادة الأعلى داخل المؤسسة العسكرية اللبنانية، على صعيد الجيش والحزب معاً، لذلك فإن تحرك حزب الله وقمعه للحراك، إذا ما ترافق مع اقتصار الجيش على المراقبة، فهذا يعني أن الجيش شريك في محاولة استئصال الحراك الشعبي، لأن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، إلا اللهم إذا وقف الجيش بوجه قوى الحزب فذلك يحمل بالمقابل إرهاصات تدل على إمكانية وجود تغيير حقيقي في الواقع السياسي والعسكري في لبنان، وهذا ما يُستبعد في ظل تحكم البندقية المغربة بزمام الجيش، لكن إذا حصل العكس فهذا سيكون مؤشراً على حدوث تغيير اجتماعي وديمغرافي وسياسي وعسكري، لأن رأس الهرم سياسته طائفية إقصائية بامتياز، والحلقة الأضعف هنا ستكون هي الشريحة الإسلامية «السنية» التي لا قوة عسكرية تعزز برنامجها السياسي وموقفها الاجتماعي، وبالتالي لا قوة دولية تندد بالاعتداء عليها، لأنها ببساطة لا تنتمي لعالم الأقليات. لكن يبقى أمام الجناح العسكري الوطني في الجيش اللبناني فرصة ذهبية لإعادة هيكلة ذاته العسكرية، بعيداً عن المحاصصات الطائفية والدينية ليأخذ موقعه اللائق، من خلال الانقلاب المنظم والتحالف مع إرادة الشعب، وإلا فإن النتيجة انفراد حزب الله في الاستيلاء على المؤسسة العسكرية بالكامل وإدخال الجيش اللبناني في قمقم المرشد الأعلى للحزب وإيران، بشكل أكثر إحكاماً، وذلك من خلال الانقلاب على المؤسسة العسكرية اللبنانية عن طريق التحالف مع الجناح العسكري المختطف، الذي يتولى قيادة رأس الهرم في الجيش اللبناني والنظام الأمني، وهكذا يمسك حزب الله الدولة العميقة في لبنان بخيوط الحكم السياسي والعسكري، بدون وساطة أو واقي صدمات سياسي كان يشغله رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري، لنكون أمام تغيير جذري في الهيكلية العسكرية والسياسية والاجتماعية اللبنانية.
وخلاصة القول إذا لم نشهد تحركات عسكرية واعية ووطنية بالتوازي مع الحراك السياسي والشعبي، فالنتيجة ستكون تصدر حزب الله للمشهد السياسي والعسكري، وبشكل مباشر من خلال التحالف مع قيادات الأقليات، بغية إسقاط الإسلام السياسي والاجتماعي السني من المعادلة اللبنانية. ومن يدري ربما يسعى حزب الله إلى حقن مظاهرات طرابلس بمحرض حيوي وعسكري بغية تعزيزها لتشريع استئصالها وحاضنتها الاجتماعية، بغية إكماله ملف التغيير الديمغرافي ذا الصلة بالواقع السوري ومنطقة المشرق العربي.
كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    المطلوب، خدمات من الموظف البيروقراطي (السياسي/المهني) بكفاءة وجودة، تنافس في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي/الإليكتروني ما تقدمه الدول حول دولتك على الأقل، ولذلك من وجهة نظري خطأ ما ورد تحت عنوان (لا تغيير سياسيا بمعزل عن المؤسسة العسكرية… لبنان أنموذجاً!) والأهم هو لماذا؟!

    المؤسسة العسكرية/الأمنية/الإعلامية للدولة العميقة، عالة اقتصادياً على أي دولة،

    الإقتصاد يعني عقلية منتجة للمُنتجات اللغوية الإنسانية ذات عائد مربح لو تم التعامل بها في أي سوق حر،

    بلا واسطة ومحسوبية ورشوة لترسية أي مناقصة لوظيفة/مقاولة، تطرحها أي دولة لتوفير خدماتها للإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية فيها.

    على أرض الواقع تعارض النصوص القانونية أكبر مصدر للهدر في الإقتصاد اللّغويّ، هذا ما قلته لرئيس مجلس الأمة في دولة الإمارات العربية المتحدة (الحبتور) في عام 2000،

    وهو أول ردّة فعل لي على ما ورد تحت عنوان (دعِ المفتاحَ في الباب وانصرفْ) يستغله المحامي والمحاسب القانوني، في شراكة الدولة في الإيرادات، والأهم هو لماذا؟!

    لقد وقع (كارلوس غصن) في اليابان، ووقع (نتنياهو) في الكيان الصهيوني، ووقع (جولياني) و (دونالد ترامب) في أمريكا، وأتوقع قريباً سيقع حتى المحاسب القانوني (د طلال أبو غزالة)،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ولذلك من وجهة نظري أفضل تطبيق آلي، لذكاء الآلة اللّغويّ، من الجيل الرابع للآلات في الثورة الصناعية، هو التطبيق الذي يعمل على تنقيح النصوص القانونية من التعارضات،

    وبعدها كيفية إصدار نصوص قانونية بلا تعارض، لا ولم ولن يستطيع المحامي أو المحاسب القانوني تأويلها بطريقة تُضيّع على الدولة حقوق الإيرادات،

    من الرسوم والضرائب والجمارك لتغطية حاجة الدولة من خدمات يجب أن توفرها حتى لا يهاجر الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية إلى دولة أخرى،

    تقدم خدمات بكفاءة وجودة أفضل من دولته، في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي/الإليكتروني،

    وهو ما طرحته كمشروع تجاري، على مسؤول الإمارات، ولكن بسبب غباء ومحدودية فكر مستشاريه، لم نبدأ تنفيذه حتى الآن،

    فلا يضطر أي مسؤول أو صاحب سلطة مثل الأمير محمد بن سلمان، حجز رئيس وزراء لبنان (رئيس مجموعة شركات مقاولات تجارية سعودية) ويتوسط له الرئيس الفرنسي،

    بينما غيره في فندق الريتز، يدفع (100 مليار) تعويضات خسائر الدولة، من الواسطة والمحسوبية والرشوة (الفساد/التقصير/البغاء المهني).??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية