لا خِيار لنا

ربما أبدأ مقال اليوم حيث انتهى مقال الأسبوع الماضي، بالسؤال: هل يمكن للدين كمنظومة فكرية أن تتحرر من التزامها بدقائق الأمور تاركة هذه الأمور الصغيرة للبشر تحريراً لهم وتحميلاً إياهم لنتائج قراراتهم لتتجه لما هو أعظم وأسمى؟ وربما السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل لنا خيار فعلي في ذلك؟ إن أقوى محرك للأمور البشرية هو -بلا شك- العامل الاقتصادي، واليوم لا يمكن للاقتصاد، لا كفلسفة ولا كمنظومة مطبقة على أرض الواقع، أن يتواءم مع تدخل التفسيرات الدينية المحافظة المنغلقة، وأن يتماشى وأساليب المعيشة التقليدية التي كان يمكن لها أن تعتمد على مدخول الرجل فقط في الأسر المتوسطة والمنخفضة الدخل. اليوم، أصبحت الحاجة المادية والتطلع الرفاهي دافعين مهمين في تحرير المرأة على سبيل المثال، ما سيدفع بالنساء، اختياراً أو قسراً، إلى العمل خارج المنزل، وما سيغير من الديناميكية الداخلية في البيت ويوزع الأدوار بشكل يقترب ببطء من العدالة المعقولة ولو بعد حين، وما يزيد من قوة المرأة الأسرية ويفعّل قراراتها ويعطي لآرائها قيمة بقيمة المدخول الذي تجلبه لأسرتها. نعم، للأسف، المعادلة هي كذلك، فعلى قدر ما تساهم اقتصادياً تكون شريكاً في صنع القرار.
لست ألح بذلك على ضرورة عمل كل النساء خارج المنزل. في الواقع، أحمل تقديراً كبيراً للتضحية النسائية الكبيرة التي تختارها صاحبتها في أن تبقى في بيتها لتربي الأولاد، لا شيء يعادل هذه التضحية الحياتية، كما أن هذه التي تقدم على هذا الاختيار، لها في الواقع الحق في نصف مدخول أسرتها على اعتبار أنها تحمل نصف مسؤوليتها، النصف الأكبر والأثقل في الواقع. إلا أن مجتمعاتنا لا تنظر إلى الموضوع من هذه الزاوية، ولا تعتبر ربة البيت شريكة في المدخول، بل وبكل أسف، هي معالة أخرى واقعة تحت وصاية «صاحب الدخل» كما هي حال الأبناء. لذا، أحمد الظروف الاقتصادية التي دفعت بالأسر لأن تُفَعّل عمل الطرفين، الرجل والمرأة، حتى تبدأ العدالة في أخذ مجراها، وحتى تشعر المرأة بقيمة مضافة إلى حياتها من خلال إنجازاتها خارج بيتها، وكذلك بقوتها في أسرتها وبأحقيتها في صنع القرار.
ليس الدافع المادي هو الوحيد الذي سيقسرنا على تحرير الدين من دقائق الأمور وإيعازها إلى البشر ليقرروها بأنفسهم، فهناك كثير من الجوانب الحياتية الأخرى التي ستجعل من استمرار تدخل القراءات الدينية باختلافاتها الشاسعة عقبة كبيرة في طريق التطور. لقد تطورت الحياة الاجتماعية عموماً وتغيرت مفاهيمها جذرياً بما يصعب من تدخل القراءات الدينية في دقائقها.
مثال على ذلك، إعاقة هذه القراءات لسلاسة العلاقة بين الرجل والمرأة وللحاجة إلى تواجدهما اختلاطاً في الأماكن الحياتية المختلفة. المنظومة المدنية لا تقل تعقيداً كذلك، بل تزيد في اغترابها عن الفهم الديني ككل، فالحياة المدنية بقوانينها ومؤسساتها، خصوصاً التعليمية، وأنظمتها الإدارية كالحكومة والمجالس النيابية، كلها تقع خارج الفكر الديني، وفي أحايين كثيرة في تضاد مع قراءاته التقليدية. المدرسة على سبيل المثال تشجع، في الدولة المدنية، التفكير النقدي والتشكك والبحث والتساؤل، في حين أن المنظومة الدينية تعتمد على التصديق المطلق وحرمة السؤال المتمادي المفتوح. البرلمانات المدنية تقوم على الديمقراطية التي تحرمها كثير من القراءات الدينية لصالح «الشورى» التي تدفع بها هذه القراءات في مواجهة مع الفكر الديمقراطي الحديث. الحكومة المدنية الحديثة لا يجب أن تعتمد أي نظام شمولي، والشعوب المعاصرة هي مقاومة –بطبيعتها- للأنظمة الشمولية الدكتاتورية، في حين أن الحكم الديني التقليدي هو لشخص واحد يفترض أنه يخلف الخالق على الأرض. وماذا عن كل الجديد الخارق في مجال العلم والتكنولوجيا؟ كيف سيتعامل الدين معها مشرعاً ومحرماً ومحللاً لها؟ وهكذا هي التفاصيل الحياتية المدنية، كلها تختلف جذرياً والقراءات الدينية التقليدية، وكلها تتضارب بعمق مع الرؤى العقائدية القديمة، والإصرار على تجاور الاثنتين، كما يحدث في دولنا، سينتهي إلى تبديد كثير من الجهد والوقت والطاقات في صراعات أيديولوجية لا طائل منها، تماماً مثلما يحدث عندنا الآن.
ليس السؤال هو هل يمكن أن يتحرر الدين من صغائر الأمور ويسلمها للبشر ليتولوا هم صياغتها مفسحين المجال للدين التعامل مع الأحداث العظيمة، فهذا السؤال تحصيل حاصل، سبق أن رأينا حالات تحريرية ناجحة للدين، لم تقصه ولم تورطه، لم تكمم به الأفواه ولم تقلل من مكانته في المجتمع. السؤال الحقيقي هو هل لنا خيار في تحرير الدين والالتزام بأمور دنيانا؟ الجواب في رأيي لا، لا خيار لنا في ذلك، طال الزمان أم قصر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول المغربي-المغرب.:

    إضافة أخرى أخي ابن الوليد. ..فالمعروف أن السنة مبينة للقرآن وشارحة له. ..وهي تتشكل من قول الرسول (ص )وفعله وتقريره. ..؛ وقد قال : ما أكرمهن إلا كريم. .وما اهانهن إلا لئيم …؛ وهنا ينبغي التساؤل عن معنى التكريم مع الضرب. …وهل ضرب الرسول نفسه زوجة من زوجاته. ..أو بناته. …؟؟؟؟ ناهيك عن حبه الشديد لزوجته السيدة خديجة. ..سيدة قريش مالا وجاها. ..وتعلقه بابنته السيدة فاطمة الزهراء التي كان يناديها بأم أبيها. …وهناك الكثير من المعاني والوقائع التي تدحض راي من قال بالدونية….وشكرا.

  2. يقول عبد المجيد - المغرب:

    في مقالات الكاتبة هناك دائما متهمان اثنان: الرجل، (الزوج) والدين ( الإسلامي طبعا)، والتهمة: ظلم المرأة. وشاهد الإثبات في تهمة الرجل: ارتباطه بالمرأة بواسطة الزواج. وأما تهمة الدين فهي ( التواطؤ) مع الزوج في تسويغ وتشريع الظلم. ولرفع الظلم عن المرأة، لا بد من: التمرد على الرجل، وتطويع الدين، ويكون التمرد على الرجل من خلال إعادة النظر في فكرة الزواج من أساسها لأنها مؤسسة متجاوزة ما دام أنه يمكن التناسل خارج الزواج ويصبح الشريك أبا أو أما عن طريق (العلاقات الرضائية) أما إذا كان لا بد من الزواج، فلا أقل من إعادة النظر في فكرة الصداق لأنه يعطى للمرأة في مقابل الطاعة، وإعادة النظر في (صفقة المغبون) المسماة عقد الزواج لأنها مجرد وثيقة إذعان وصك لتملك جسد المرأة. وأما تطويع الدين، فمن خلالل نقض عراه عروة إثر عروة تحت مسمى التجديد والتحديث فإذا كانت هناك-مثلا- ٱية في القرٱن الكريم لا تخدم السياق الذي نريد، فلا بأس من لي عنقها حتى تخدم أهدافنا، وإذا كان هناك حديث شريف لا يلائم ما نشتهي فلا بأس من القفز عليه بالطعن في سنده ومتنه واتهام مصنفيه وهذا أدعى لضمان بعض (التقية) حتى لا نتهم باتهامات قد تمس موقفنا من جوهر الدين.

  3. يقول عبد الكريم البيضاوي:

    ” لاخيار لنا ” حقيقة . هل كان لنا خيار للقدوم لهذا العالم وفي هذا الوقت تحديدا ؟ طبعا لاخيار لنا . هل كان لنا خيار أن نولد في عائلة إسلامية أو هندوسية أو مجوسية ؟ طبعا لاخيار لنا . هل كان لنا خيار أن نختار دينا آخر غير دين أسرتنا ؟طبعا لا.
    كل من ولد في دين تقريبا 100% سيتبع هذا الدين وسيدافع عليه, ألا يرى الهندوسي المسلم كافرا بالنسبة له . ألا يرى المسلم الهندوسي أو المجوسي كافرا ؟
    طبعا ياأخت غادة , ” لاخيار لنا “.
    قالها الشاعر على لسان الموسيقار محمد عبد الوهاب :
    جئت لاأعلم من أين…
    ولكني أتيت .
    وسأبقى سائرا..
    إن شئت هذا أم أبيت
    كيف جئت ..كيف.. لست أدري .. لست أدري.

  4. يقول Ahmad/Holland:

    الاخ ابن الوليد ايضا :ليضربن بخمرهن على جيوبهن,سورة النور

  5. يقول عزالدين معزًة ....الجزائر:

    الاخت الفاضلة د. ابتهال الخطيب، العيب ليس في الدين الذي لإسعاد البشر ذكورا واناثا …لكن ارى العيب كله في الفقه والفقهاء الذين حنطوا الدين واخرجوه من قيمه الانسانية تحت ضغط الحكام …رسولنا الكريم صلوات الله عليه وسلم ” انتم ادرى بشؤون دنياكم ” كل ماسي الامة العربية الاسلامية سببها الفقه المحنط الذي لم يستطع تجاوز فتاوى العصور الوسطى ….شكرا لك على مثل هذه المواضيع التي نحن بحاجة اكثر من حاجتنا من وصف الجنة وعذاب القبر …تحياتي

  6. يقول المغربي-المغرب.:

    عندما نطلق بإصرار كلمة توحي بتبني الحتمية اقتناعا أو اصطناعا. ..من قبيل لاخيار لنا …فإننا لن نختلف عن تلك الأطروحات الاديلوجية التي وضعت نفسها كنهاية للتفكير والتطور السياسي والفلسفي. ..مثل الماركسية بشقيها النظري والتطبيقي. …أو الليبرالية المتوحشة التي رأت في نفسها نهاية للتاريخ بمعنى الرضوخ الواقعي والاجباري لمقتضياتها…بينما نجد في الإسلام منظورا متفتحا مختلفا. .يجعل لكل زمان أهله في الإفتاء والتفكير. ..ولكل مرحلة مقتضياتها التجديدية والاجتهادية…..والعيب هنا ليس في المصادر. ..ولكن في قصور من ارتضوا لأنفسهم السطحية والتقليد والتبعية والخنوع. …وهذا هو الواقع الذي يجب أن ننطلق منه وليس الركوب على صور تلصيقية ملفقة. …لأنه ليست هناك دولة عربية تطبق في قوانينها ما يمكن تسميته فقها باستثناء بعض الشذرات في مدونات الأسرة. ..وليست هُناك دولة تستمد قوانينها المدنية والجنائية من الشريعة والفقه. ..ولكنها تأخذها حرفيا إلى جانب دساتيرها من القوانين الأجنبية. .. ..فلماذا ننكر هذه الحقائق وننطلق في التنظير الذي لا سند له….وللعلم فإنني هنا اعبر عن شهادة واقعية…رغم أنني لست مذهبيا ولست اسلامويا بالمفهوم السياسي. ..واميل نحو يسار الوسط في تفكيري…ولكن الحق حق ولو جافاه الجميع …والباطل باطل ولو..

  7. يقول الكروي داود النرويج:

    خير من فسر القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الصحابة! لأن مُعلمهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فلماذا نذهب لتفسيرات حديثة تناقض تفسيرات هؤلاء الصحابة الكرام؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      لان النبي لم يفسر القرآن .. و صحابته اناس عاديين و لا ينزل عليهم الوحي. و قد تركوه ميتا ليلة كاملة و هم يناقشون موضوع
      الخلافة. و هم يعرفون ما قاله ص. باكرام الميت بالتعجيل بدفنه.

  8. يقول غادة الشاويش _بيروت سابقا عمان حاليا:

    اهلا اهلا اخ ابن الوليد الحقيقة انني منذ اكثر من شهر وحسابي مغلق على تويتر ههههه والعبادة الحقة هي في قول كلمة الحق مع عدم اهمال الباقي هههه حتى تعليقي لم اكمله اليوم ولم اعلق على كثير مما قيل لانني لست على ما يرام صحيا … ان تحسنت ساتابع … لدي كثير من النقد لما كتب وان شاء الله اتحسن ويبقى الجميع بخير

  9. يقول سعدون الباهلي:

    الاخ الكروي تفسيرات الصحابة على الراس والعين لكنها لزمانهم..ولا تصلح لزماننا هذا.والا اصبح القرآن خارج الحياة اليوم.التقديس
    ليس معناه العمى عن الحقيقة.

  10. يقول أم آلاء:

    هذا الذي تتحدثين عنه و تشتكين منه، وضعه الخالق لنا لتنظيم أمورنا كلها، دينية و دنيوية، و هو أعلم بما هو خير لنا مهما تغير الزمان و
    المكان،
    لم يكن لنا خيار في اختيار أشكالنا و لا في عدد العيون و لا في عدد الأصابع و الأرجل، و لا في اختيار أهالينا، فهل نتمرد على كل هذا ؟
    ستتطورون حقا حين تتجاوزون فكرة أن الدين عقبة يجب ازاحتها حتى نتطور و نرتقي.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية