لا يستغرب القارئ مدَّ الروائيين لظلال رواياتهم إلى آفاقٍ شاسعةٍ، من جسدٍ صغير يوصف بـ«رواية قصيرة»، عندما يفكّر بالكمّ الهائل الذي لا يُعدّ من التصميمات المتفرّدة لساعة اليد على سبيل المثال، أو بما يجري من أحداثٍ في الخلية التي لا تُرى إلا بالمجهر، أو عندما يقتدي ربما بقول النفّري الشهير بـ «كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». أو أن يشطح بخياله أكثر إلى عالم الفوتونات الذي يقلب مفهوم الإنسان عن وجوده الآن، بتجلّياته الأسطورية التي لا تتوقف عن كشفها فيزياء الكم.
لكن القارئ من جهة أخرى لا يرتاح، قبل القراءة لرؤيته هذه الصفة، وإن أسعده قول أراغون السّاخر في شبابه، عن حجم رواية «البحث عن الزمن الضائع»: «يحيا السيّد بروست الذي يساوي وزنه ورقاً»، بقدْر ما تُستثار هواجسه بالتفكير في: ماذا لو لم تُحقق الرواية القصيرة المعيّنة شروطَ تكوين الرواية، أو حتّى تكوينها كـ «نوفيلا Novella»ونالتها لعنةُ تحدّيها الحجمَ، ومغامرتُها في السير على خطى الصوفيين؟
سؤال ربما يجد جواباً له، (من بين الأجوبة التي تنتمي إلى محاولات تجديد عالم الرواية بمعالجة تحدّيات الحجم) في روايات لا تُعدّ، وفي الرواية الأولى لها التي أصدرتْها الكاتبة اللبنانية عزّة طويل تحت عنوان «لا شيء أسود بالكامل»، وحدّدت صفتَها الأدبية تحت الجنس الأدبي المعروف بـ «نوفيلا Novella « لكنها أضافت في ختامها ما يوحي بأنها طمحتْ (وهذا ما تَجسّد في الرواية) إلى أنْ تكونَ أكثر من ذلك، روايةً بحجم صغير، أو على الأقلّ روايةَ نوفيلا متطوّرةً عمّا يتقيّد به نوع هذه الرواية من محدوديةِ تَعدّد الأمكنة وامتداد الأزمنة وتطوّر حياة الشخصيات، وابتكار الثيمة التي تحبك الرواية وتُحكم السيطرة عليها، إلى آخر فنون ما يميّز الرواية. حيث قالت، وإن استبدلتْ بإدراكٍ منها كلمةَ «رواية» بـ «قصة» لتضيف أيضاً مفهومها عن الرواية، ولتربط هذا المفهوم بموضوع روايتها عن أشكال ومعاني ومواجهة الموت: «لم تكن هذه قصة قوامُها الخيال الخالص، بل كانت أيضاً جزءاً من حياة. لذلك لن تكون لها النهايات المألوفة التي نعرف فيها مصير كل شخصية من الشخصيات. كانت هذه رحلة مع الحياة والموت، ومواجهة معهما. كان هذا مقطعاً من سوناتا لم يُكْملها الموسيقي بعد. يقال إنه خاف من لعنة السيمفونية التاسعة تحديداً، ويدّعي آخرون أن النهايات تحمل موتاً بالضرورة. أما البعض الآخر، فلا يسأل لأنه يدرك أن الحياة أكثر شبَهاً باستعارةٍ منها بقصة تقليدية».
طموحات امتداد الظل:
حيث «لا شيء أسود بالكامل»، وأكثر من كونها تجري في بيروت، تمدّ الروائية طويل مكان روايتها/ بيروت الحرب الأهلية التي حدثت فيها مجزرة صبرا وشاتيلا كشكل من أشكال الموت الذي تعالجه الرواية؛ إلى قرينتها وشبيهتها في معاناة المجازر/ حمص العَدِيَّة. المدينة السورية التي كانت مكاناً لتكثف أحداث الثورة السورية ولمجازر نظام الاستبداد، مركَّزة بالمجزرة التي تنقلها وتؤرِّخُها الرواية في خبرٍ على قناة الجزيرة، مؤرخٍ في 15 كانون الثاني/يناير 2013 بمنطقة البساتين في حي الوعر، وذهب ضحيتها 100 شخص، 15 منهم من عائلة زوج بطلة الرواية الحمصي شادي. وتبعات ذلك على والده الذي طلب منه استئجار بيت لنقل العائلة عوْداً إلى بيروت.
كما تمدّ طويل مكان روايتها لتصل به إلى باريس، وتتعدى به مطار شارل ديغول الذي يعكس جزءاً من طفولة بطلة الرواية، إلى مقبرة «بير لاشيز» التي تعكس جانباً من يفاعتها الجامعية. وفيه تعالج طويل بالمقارنات أشكال الموت ورعاية الأموات بإسكانهم في مثل هذه المقبرة الشهيرة التي يزورها ملايين البشر، إلى جانب اكتظاظ مقابر بيروت والتكلفة الباهظة للدفن إلى جانب أو فوق ميت آخر بحلول تكاتف الناس في حالات الضيق.
ومثلما تفعل طويل بالمكان، تمدّ زمنَ روايتها القصيرة من تاريخ الأزمة السياسية التي هددت لبنان بحرب أهلية عام 1958، لتجسيد معاناة والد البطلة/ الطفل الذي عانى موت أمّه قتلاً دون أن يستطيع فعلاً لإنقاذها. والشيخ الذي بكاها على قبرها أمام ابنته، إلى الحرب الأهلية اللبنانية وولادة بطلة الرواية وساردتها لحظة انتهاء مجزرة صبرا وشاتيلا في ظل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، جاعلةً من هذه الولادة في معالجتها لموت المجازر تعويضاً مقابلاً للموت حيث: «جئت إلى الدنيا، كتعويضٍ عن ولدٍ قُتل في الليلة الفائتة ربّما». وسابرةً لغريزة الحياة فيها لدى البشر مجسَّدةً بعيش الجنس وصنع الولادة، تحت ظلّ الموت المهيمن، حيث: «لا بدّ أن القمر كان بدراً في تلك الليلة. أجزم بأن والديَّ وجدا وقتاً للحبّ رغم الحرب. تزاوجا تحت القصف، مؤكِّدين لا مبالاتهما بالموت وبكم كان العالم أخرق. والدا رولى أيضاً ارتعشا على صوت القذائف، وبكل عفوية صنعا رولا. إنه العنف بأكثر أشكاله إدهاشاً».
وتضيف طويل إلى ذلك تعاطفها الإنساني الذي لا يخلوا من تحليلٍ نفسيّ لمواجهات الإنسان للخطر وخلق دفاعاته ضده، مع أطفال فلسطين الذين يتعرضون لمعاناة المجازر: «أتعلمين يا أمي أن أطفال فلسطين تساورهم الأحلام المرعبة بكثافة أكبر بكثير مقارنةً بباقي الأطفال؟ هو الخطر يقتحم أحلامنا أيضاً ليدربنا على التكيّف. هي لعبة من ألعاب الدماغ البشري. هي غريزة البقاء يا أمي، غريزة الحركة. إنه العنف مجدّداً، متشبثاً بسينوغرافيا الحياة».
وفي مدّها المتشابك مكاناً مع حمص تمدّ طويل زمنها بتشابك الحرب الأهلية اللبنانية مع الحرب في سوريا، وتطورها، وبلورة ردود أفعال الناس وتمزق العائلات السورية في المواقف المتناحرة والهجرة، بانحيازٍ واضح إلى الثورة السورية من خلال مواقف شخصياتها المتضادة، مثل الشباب الذين انضموا إلى الجيش الحرّ للدفاع عن المظاهرات السلمية، وموقف والد زوج بطلتها المتعاطف مع الاستبداد ورأس نظامه/ أبو شادي، الرجل الذكوري الظالم القاسي الخائن لزوجته المعنِّف لها بعدم الاحترام والضرب.
وفي استكمالات مدّها لنوفيلتها إلى رحاب الرواية الأكثر من قصيرة، على صعيد الشخصيات، تعمّق طويل مدّها الروائي بتطوير شخصياتها النسائية، التي توجِّه إلى قسم منهنّ إهداء روايتها: أمُّها، وأمُّ زوجها آمال، وبطلتها التي ربّما تجسّدُها روائياً ولا تذكر لها اسماً/ ساردةُ الرواية في 16 فصلاً من فصولها المرقَّمة من دون عناوين، بصيغة المتكلم عنها وعن عائلتها وعائلة زوجها، والموحيةِ أنّها هي نفسها ساردة الرواية، بصيغة سرد الراوي العليم للفصول الستة الأخرى من فصول الرواية الـ 22.
وفي هذا المدّ تُسرّب طويل مواقفَها من الذكورية، وانتصارَها للنساء، من خلال مواقف الرجال وظلمهم لهنَّ، سابرةً التبعات النفسية التي تعاني منها النساء في شعورهنّ الثقيل بالمسؤولية عن حماية بناتهنّ، وفي الحجْر عليهن بقضبان وجوب العِدّة بعد موت الزوج، وتحمّلهن الخيانات والقهر من أجل أولادهن. وعائدةً في هذا التعميق إلى عرض اختراع الذكور للخطيئة الأولى، ولعنة الولادة، من خلال حديثها عن أمها التي: «التقت حوّاء أيضاً، وتناظرتا حول مفهوم الخطيئة الأولى، ثم استمعتْ إلى جانب حوّاء من القصة وضحكتا ولعنتا الرجال معاً». والأهم، في هذا التعميق: تحمّلهنَّ العبء الأكبر في مواجهة الموت ومعادلته بالحياة.
في استكمالات مدّها كذلك، على صعيد التشويق في الرواية، تختار طويل أسلوب وضع الرواية في قطع لا يتضح أن لبعضها علاقة بالقطع الأخرى في الظاهر، خالقةً بهذا عنصر التشويق بتوليد التساؤلات عن الروابط، ومن ثم كشفها بعدها في القطع القادمة.
فسيفساء الموت والولادة:
وحيث «لا شيء أسود بالكامل»، ولا شيء يخرجُ عن تراكب التضاد في المسارات، وحيث أنّ «على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة»، في طريقة بث درويش لأنفاس الأمل؛ تضع طويل موضوع روايتها في قطع فسيفساء غير متشابكة التركيب ببعضها في الظاهر، لكنها تلتمع أمام القارئ في تداخلاتٍ تُشكِّلُ لوحةً لتجليات أشكال الموت، بدءاً من الأجنّة المجهَضة طوعاً وقسراً بآلام الأمهات، والعقد النفسية التي تتولد لديهنّ من ذلك، وانتهاءً بأشكال الموت في المجازر المرتكبة، من الفاشيين والإسرائيليين، مروراً بأشكال الموت العادية والطريفة المربكة، مثل الموت بالشدّ على مقعد مرحاض. وفي هذه اللوحة التي يهيمن لون سواد الحزن على شرقها «منذ أن وضعه السومريون»، وتهيمن صفعات عنف الذكورية على نسائها، تمرّر طويل مقاومتَها لأشكال الموت، ومداخلته بأشكال الحياة، ومواجهته بالأمومة، عبر محاولات بطلتها التشافي من صدمات الموت التي تعرّضت لها، وخبرتْ تجارب مَن حولَها عنها؛ بالعلاج والتساؤلات والتفكير والتأمّل والثقافة والخبرات.
ويلمس القارئ في عيشه معها وصولَها الذي يمكن أن يكون وصولُه، بطريقته، إلى مقاومة اللون الأسود، الغالب على موت وأحزان الشرق، بإمكانية استبداله ببساطة اختيار اليابانيين والصينيين للأبيض، واختيارها الأخضر، مع تغيّر علاقتها بالربيع التي أصبحت أكثر متانة، باكتشافها من خلال طقوس السبعينيين في لبنان، لمواجهة الموت، بالذهاب إلى ضيعهم وقضاء ايامهم بالتماس المباشر مع الأرض، وزراعة النباتات وبث حيوات جديدة يمتلئون من خلالها ثقةً بقدرتهم على إعادة الخلق. واكتشافها كذلك، من طقس والدها باختيار بناء بيته مطلاً على المقبرة، حيث منزل والديه الأبدي: «أن الموتى لا يغيبون، وأن تأثيرهم يستمر إلى الأبد ربما». وأن «الموت واللون الأسود لم يعودا يخيفانها».
وفي متابعة وجمع القارئ قطع أحجية صراع الموت والحياة، خلال القراءة، تتداخل التجارب وتتلاقَح المعاني، وتنبضُ وتتسعُ أبعادُ رؤيته عن الموت والولادة، كما لو كانت روايةً قصيرة أو طويلة تساعد نفسه، لإيجاد سبل تشافيه من الجروحات، وفتح سبل عيش ما يستحق الحياة.
عزّة طويل: «لا شيء أسود بالكامل»
نوفل، بيروت 2024
112 صفحة.