في ختام كتابه (فن الشعر) يخلص شيخ النقاد العرب الدكتور إحسان عباس إلى ما يلي: ..وكما أن مهمة الشاعر ليست يسيرة، فإن مهمة الناقد لاتقل عنها عسرا، وهي مهمة تشمل تفسير الجديد، وإعادة النظر في القديم، وليست هي الاستحسان المؤقت، ولا هي صرخات الإعجاب أو الاستنكار، وعسى أن يدرك ذلك النقاد.( ص219 )
إذا كانت مهمة الناقد لا تقل عسرا عن مهمة الشاعر، فماذا يكون الحال مع من لا هو شاعر، ولا هو ناقد؟!
عذري معي، وما يغفر لي تواضع كلمتي، وابتعادي عن التنطع في الإفتاء بتعريف الشعر، والتجاسر غير المبرر على إطلاق صرخات الإعجاب.
أنا قارئ شعر، وسامع شعر، ومتابع لحركة الشعر العربي المعاصر، من قصيدة البيت على أوزان الخليل إلى قصيدة التفعيلة منذ السياب حتى آخر شاعر ناشئ تتوفر لي قراءة قرزماته، وصولاً إلى قصيدة النثر التي قرأتها منذ توفيق صايغ، وسليمان العواد أستاذ محمد الماغوط، وحتى شعراء أيامنا.
ولأن كل كاتب يمر بالشعر، متذوقا، ومحاولاً ببراءة ومتوهما أن بمقدوره أن يكتب الشعر، فإنني مثل من سبقوني حاولت، وكتبت قصائد نثر، ثمّ لذت بالصمت: ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه..يعني: حدود موهبته، ولذا انتقلت لكتابة القصة والرواية، وفيهما بقي أثر الشعر، ومن منّا يمكن أن يبرأ من الشعر؟ بل: من منّا لا يطمح لكتابة نصوص تتألق بفيض حضور الشعر؟
هل أبرر لنفسي قبولي بالتورط في قول شيء عن المجموعة الشعرية الجديدة للصديق صلاح أبي لاوي؟!
خذوا كلمتي هذه بتسامح آمله، فإنني كما أسلفت مجرد متذوق، وليس على المتذوق حرج، ما دام يقر بحدوده، ولا يدعي أنه واحد من النقاد.
كمتذوق:أنا أستمتع بالقصيدة التي تلامس قلبي، وتحرك راكد أفكاري، وتفتح لي منافذ للحلم، وتأخذني إلى مدى بعيد، وتهز وجداني، وتجعلني أفرح، أو أطرح أسئلة وأغرق في حالة تأمل..وهذا يحدث لي غالبا، وهو ما يشدني ويجذبني لاستمرارية قراءتي للشعر، وللعودة إلى أعمال شعرية قديمة، ومعاصرة.
يكتب صلاح أبي لاوي القصيدة القصيرة المكثفة، وأنا كقاص معجب بهذا النوع، والذي برع به، بشهادة شيخ النقاد الدكتور إحسان عباس، الشاعر الصديق محمد لافي، ولصلاح ( ضرباته) التي فيها من فن القصة القصيرة:
اليد الهاربة
يد
كلما هبت الريح
من أي جانب
تسابق نحو المطار الحقائب
أولى بها الطائرة
(مقطع من قصية أيد ص33 )
ولعلي توقفت كثيرا مع الروح التي يمثلها هذا المقطع في قصيدته (اعتذار متأخر جدا):
أجيء وثوب أمي لا يزال يجول في خلدي
وصيتها:
‘رضاي عليك يا ولدي
بلادك جرحنا العالي
نزيفك فابقها جرحا’ ( ص57 )
ولذا يحتقر الشاعر اليد الهاربة إلى المطار، اليد التي لا تحمل وسيلة المقاومة لتضميد جرح البلاد، وفك أسرها.
في قصيدة ‘يدور الكلام تعالى’ التي جعلها الشاعر عنوانا لمجموعته، نقرأ بلسان الـ(نحن):
أول
من سيّر الجائعين إلى الحب جيشا
وأول
من علم الجيش أن السلام قتال
( ص44 )
هذه اجتزاءات من قصائد، وأنا آسف حقا لانتزاعها من وحدتها، اقصد من بنائها، ولكنني أفعل بقصد لفت الانتباه إلى سر إعجابي بهذه المجموعة في سياق أعمال صلاح الشعرية، فأقول: هذا شاعر منتم، وهو يحشد وسائل فنية تجعل من قصيدته بعيدة عن المباشرة، قصيدة لا تشبه غيرها، قصيدة تتميز بأن القارئ، والمتلقي..لا يملان، ولا ينفران، لأن الشاعر يجذب القارئ والسامع بموسيقى قصيدته غير الضاج، وبالصور التي تخدم بناء القصيدة، وتقدمها وحدة واحدة متماسكة، وبالوضوح المكتنز بالمعرفة، لا المدعي بالغموض المفتعل المتعالي.
الشاعر معني بالتواصل مع المتلقي، وهو لا يضلله، ولا يتعالى عليه بالرموز المغلقة، والصور المفتعلة، وسهولة قصيدته لا تتيسر إلاّ للشاعر المتمكن العارف إلى أين يتجه، وماذا يريد، وأي هم يحمل بين جنبيه.
الأرض عطشى، والخطى مجنونة تحتي
ولا إلاّ الأمام
تقوده عيني وتثقب سوره
(قصيدة: لو كان لي..ص93 )
هذا المقطع الصغير يجسد عنفوان نفس الشاعر وشعره، ولو لم يكن منتميا، وحامل وقضية..لما امتاز بهذا، وللاذ مع حقيبته بالمطار، وهرب على أول طائرة تتيسر له، ولتخلّى عن الهم الذي يتقد بين جنبيه.
يملك الشاعر شجاعة إعلان الحب لعنب الشام، مستعيرا العنوان من الشاعر الكبير عز الدين المناصرة: يا عنب الخليل، في زمن الكذب
والتزوير والانتهازية:
لك القلب
يا عنب الشام، تقطر مرا
وإنا عهدناك شهدا مصفى
لك القلب
كيف تنز جريحا حزينا؟
وكنت الجداول لحنا وعزفا
لك القلب
جرحك جرحان فيك وفينا
تصاب..نصاب، وتشفى ..فنشفى
(يا عنب الشام..ص109 )
هناك قصيدة في ثلاث حركات اختتم بها الشاعر مجموعته، والختام مسك كما يقال، وهي قصيدة عاشها في مدينة (توبلو) الأمريكية، وهذه القصيدة سمعتها من الشاعر وقرأتها مرارا، وأحسب أن النقاد يجدر بهم أن يتوقفوا عندها، فهي القصيدة التي وجدت من تجربة السفر، وهي قصيدة إنسانية رحبة،وهي حزينة، وغضبها مضمر، فلا ننسى أن مبدعها شاعر (عربي) زار (توبلو) الوادعة الجميلة التي يعيش أهلها بسعادة..فالعربي الشقي ..الشاعر يكتب بحب، لا بحسد، وفي العمق بوجع، لأنه محروم في بلاده من الفرح، والسعادة، وراحة البال…
الشاعر في القصيدة ، رغم الترحيب به في تلك البلدة، يشعر بالوحدة، والغربة المرنخة في نفسه، فهو بالأساس غريب في وطنه العربي الشقي الكبير، حيث الظلم، والعسف، والاضطهاد…
وبعد: أرجو المعذرة فمتذوق الشعر أقحم نفسه في السباحة في بحر الشعر، وهو بالكاد يعوم على الشاطئ في متر ماء…
* كلمة الكاتب في احتفالية توقيع الشاعر صلاح أبي لاوي مجموعته ‘يدور الكلام تعالى’ في رابطة الكتاب الأردنيين مساء السبت 30 تشرين ثاني2013 .