بسبب لا شيء أردى بالميرو، بثلاث طلقات، تاجرَ السمك. لم يسبق لهما أن التقيا من قبل، ما قد يدفع إلى الظنّ أن القتل يرجع إلى خلاف سابق. كل ما جرى هو احتجاج القاتل على ثلاث كلمات «هكذا يقول المنطق»، نطق بها تاجر السمك فاستحق عليها ثلاث رصاصات. ذاك أن بالميرو كان قد قال في الصفحات الأولى من الرواية، إنه يكره «المنطق»، وهو يحبذ ما يطلق عليه عبارة «أدنى درجات المنطق»، وهذه من ثلاث كلمات أيضا. أما ما جرى بينه وبين تاجر السمك فبدأ بدعوته لأحد أصدقائه، واسمه فابيو، إلى الغداء في مطعم السمك. وفيما كان الداعي بالميرو ينتظر وصول ضيفه ظهر له، هكذا بالصدفة، صديق آخر دعاه إلى أن يرافقه إلى المقهى القريب. ما فعله بالميرو هو أن قال لتاجر السمك، إن أتى صديق لي هذه مواصفاته قل له أن ينتظرني، أنا بالميرو. لكن التاجر صاحب المطعم رفض مبرّرا ذلك بأن المرء لا يحق له أن يعطي موعدين اثنين في مكانين اثنين، وفي وقت واحد، فهذا حسبه يجافي المنطق (قالها بصيغة الكلمات الثلاث المذكورة أعلاه).
على لسان بطل روايته نوح أمدّنا راهيم حسّاوي بالأسباب الكافية لتفضيله «أدنى درجات المنطق» عن المنطق الكامل التام. فهذا الأخير يبدو متحكّما وزاجرا ومسقِطا الاحتمالات المتعدّدة للتباينات التي تسم كل شيء. المنطق إكراهي وتسلطي وفاقد للمرونة، ومتجاوز للفوارق في التفكير والعيش بين امرئ وآخر. ولم يكن المنطق ضروريا، «ففي بداية الخلق كان المنطق ضئيلا وسهلا وفي أدنى درجاته، وكان صورة عما يشعر به المرء، وكان يكتفي بلغة الإشارة من شدّة سهولته».
والبشر العاديون يلعبون على اللغة، باعتبارها بناء منطقيا، فيقدمون عبارة ويؤخّرون أخرى، حين يرون أن الكلام إن ظل على منطقه لن يستطيع إيصال ما يرغبون في قوله. فاللغة «لا تأخذ مضمونها من عباراتها، بقدر ما تأخذه من اللعب على سياقات هذه العبارات، وما يُراد منها، وأعتقد أن أدنى درجات المنطق لها علاقة بهذا».
نصْف ما تسعى رواية حسّاوي إلى قوله هو تفتيت البداهات وتكسيرها. كأننا، نحن البشر، سلّمنا بفهم الأشياء كما قُدّمت لنا. ما ينبغي إذن هو معاندة كل ما صيغ في عبارات جازمة ونهائية، وهو عمل يشبه البدء من نواة الثمرة التي، بدورها، يجب أن تُفلق. من أجل أن يعاد الشيء، مع كل تأمل فيه، إلى فطرته ونظافته مما علق فيه. وينبغي أن يكون هذا استمراريا، إذ مهما أمكن لأحدنا أن ينجح ستظل، هناك في الرأس، أفكار بقساوة العظام، حسب ما قال جان بول سارتر، واصفا رغبته في تكسيرها.
إذن كان بالميرو قد قتل تاجر السمك لسبب غير مفهوم. لكن ما هو أعصى على أن يكون مفهوما هو أن صديق بالميرو، الذي هو فابيو، شارك في عملية القتل من غير أن يكون معنيا بشيء، فقط لأنه صادف وجوده في المطعم لحظة القتل. ما فعله هذا الصديق هو أن قام بدوره بإطلاق رصاصة في ظهر رجل آخر هو كارلو، ما أعطب مشيته طيلة السنوات التي أعقبت ذلك اليوم. كان ذلك قد حدث، حسب تعيين الرواية للزمان، سنة 1984، هذا في ما لا تذكر لنا التاريخ الذي لحق، وهو المستقبل الذي تجري فيه الحياة الآن. إذن، ها هو كارلو يسعى، بعد انقضاء سنوات الشباب، إلى فابيو، لكن من دون أن يعرف قرّاء الرواية غايته من ذلك. ليس من أجل الثأر أو الانتقام كما يبدو، ولا من أجل سبب مفهوم آخر. ربما اقتضت منه تلك المطاردة البطيئة زمن عمره كله. حين تسنى له من يرافقه في تلك المطاردة، وكان هذا بطل الرواية وراويها، نوح، الذي لم يجد لنفسه مكانا فاعلا في ما يرويه لولا عشقه لبيترا، ابنة فابيو وشريكته مع أمها في محل العاديات. فابيو لم يشأ القيام بخطوة أولى، حتى حين صار بصحبة نوح. كان يكتفي بالجلوس على مقعد تحت الجسر، مطلّ على محل العاديات الذي يملكه عدوّه، ولا يتقدم خطوة إلى مسافة أقرب.
الأحداث القليلة الحدوث، باستثناء الاتصال الجسدي الشاعري والعنيف بين نوح وبيترا، ابنة فابيو،، وباستثناء حادثة القتل في الصفحات الأولى، تترك الرواية لتأملات نوح لتكسو البناء الروائي وتملأه. لكن لكي يمكن تفادي غياب الحدث، أو ندرته، كان ينبغي أن يكون الكلام الآخر، التأملي والوصفي والاعتراضي على قوالب التفكير المصمتة، مشبعا بالمعنى. وهذا ما حقّقته الرواية المتطلبة من قارئها أن يكون أكثر صبرا وأكثر ذكاء في جمع متفرّقاتها في بنية واحدة. سوى ذلك سيظل القارئ يتساءل عن ذلك الوصف المتمادي للعبة الفيشة (البابي فوت) وصلتها السيريالية بالحلّ الذي وضعه نوح لتلاقي العدوّين. ذلك الحل، السيريالي بذاته، القائم على أن يقف كل من الرجلين في جانب من جانبي طريق المشاة، فيتقدمان كل من حيث هو لحظة إضاءة الشارة الخضراء، ويلتقيان في لحظة في الوسط. ربما يشتم أحدهما الآخر، لكن لن يستطيع أكثر من ذلك إذ أنهما، هما الاثنان، مقيّدان بوقت التواصل الضئيل. لكنهما سيعاودان تلك المواجهة مرة أخرى، في الإياب، وذلك لست مرات متتالية حتى ينتهيا إلى أن يعرف كل منهما ماذا يريد من الآخر.
كيف كان لنا أن نصدق أن هذه يمكن أن تكون خاتمة لرواية، لولا مهارة راهيم حسّاوي وسعة مخيّلته وعمق شاعريته.
٭ «ممرّ المشاة» رواية راهيم حسّاوي صدرت عن دار نوفل ببيروت في 167 صفحة ـ 2020.
٭ روائي لبناني