يتلاقى ويتجادل في بنية رواية «لا ماء يرويها» لكاتبتها نجاة عبد الصمد، الصادرة عام 2017 والفائزة بجائزة كتارا للرواية المطبوعة 2018، خطان سرديان، خط فكري حواري، يتخذ فيه المتن الروائي كامل أبعاده الثقافية والبحثية. وخط سردي لغوي، يتجاوز حدود التوصيل إلى الإبداع في اللغة وخصوبتها وقدرتها على التوالد في اللحظة السردية وتلوينها بين الفصيح والمحكي والشعر والنثر والحكمة، في تفاصيل البنية الروائية كلها، وبما يحقق تآلف الشكل ومضمونه في بنية نصية/ إيقاعية واحدة، تجري عبرها عملية إعادة تركيب عناصر الحكاية، انطلاقاً من البداية السردية إلى النهاية المفتوحة على اللانهاية، وقد تجلت فيها الخبرة الفنية والموهبة والثقافة، كمتلازمة ضرورية لإنجاز رواية لافتة.
في المتن الروائي:
وإذا كانت معطيات هذا التشريح الأنثربولوجي الثقافي، قد وضعت قضية المرأة (الأنثى) في مركز اهتمامها، فلكي تجعل منها بؤرة إشعاع كاشفة لمحيطها، بحيث ينطلق منها ويعود إليها خط السرد الناظم للعلاقات والثقافات، ولكل ما تقاطع في فضاء الرواية من شخوص وأحداث، مع ملاحظة أنّ الواقعية الفجة، التي أحاطت بمصائر الكائنات النسائية (الافتراضية) هي التي جعلت من (حياة) كائناً سردياً نموذجياً، تتكثّف فيه وتلتقي عنده مصائر الإناث بأشكال شتى، ولكن بمضمون واحد، هو المرأة الضحية والمرأة العبدة والقربان.
لقد أفسحت هذه الرواية بوصفها (ميتافيزيقيا العقل) المجال لتصنيع شخصية مركبة من عدة عناصر واقعية وتخيلية متساندة، كالذي نجده في شخصية (حياة) و(خليل) بشكل متناظر، إذ جاء كلّ منهما نظراً لموقعه المحوري في سياق السرد الروائي تكثيفاً فنياً ومعنوياً لجنسه، وقُدُم كلاهما كضحية لتقاطع وإطباق العطشين وتبادل دورهما بين العلة ومعلولها، فحيث لا يملك الفقر المدقع في القاع الاجتماعي سوى الأنثى (رأسماله الوحيد)، ليتصرف بها ويتداولها، لتيسير حاجاته بحرية، متخّلية عن شرط المسؤولية، فإنه يدغدغ بذلك كبرياءه المجروحة وعقدة سيادته المثلومة، من دون أنّ يجد قانوناً رسمياً ولا عرفاً اجتماعياً يردعه، بل مناخاً ثقافياً وبيئة عامة مشجعة، تعتبر هذا القهر وهذه السيادة على المرأة قيمة أخلاقية عليا، وصوناً للشرف الذكوري في العرف البدوي الضاربة جذوره في أعماق المجتمع، والذي يجعل وجودها الأنثوي محفوفاً بالقلق والخوف من الفضيحة.
أفسحت الرواية بوصفها المجال لتصنيع شخصية مركبة من عدة عناصر واقعية وتخيلية متساندة، كالذي نجده في شخصية (حياة) و(خليل) بشكل متناظر.
لقد قبضت الكاتبة على جمرة العطش، باعتبارها سبباً جوهرياً لما تراكم في البنى الفوقية، الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ولم تتوقف عند اعتباره بيئة طاردة لشباب المحافظة وأهلها، بل بيئة لتوالد أجيال قلقة، تعيش عن أزمة انتمائها بالدوران في حلقة مفرغة، إذ لم تزدها الغربة والوفرة المجلوبة من خارج حدودها الوطنية، إلا بإعادة إنتاج تلك الذات المنكسرة والمنكفئة على ذاتها الجبلية الصارمة، ممثلة بالنموذج المكثّف لهذا النمط المغترب (خليل أبو شال) الذي اجتمعت في شخصيته الافتراضية كلّ عوالق البيئة وعيوبها، مضافاً إليها كلّ ما شوهه مناخ الاغتراب والتشرد من شذوذ جنسي وطباع حشرية، ومن وفرة مادية مكنته من عقد صفقة زواج مطعون بأخلاقيته من قريبته (حياة) ومستغلاً لحاجة والدها (مرهج) إلى المال، لكي يكمل به تجهيز شقة سكنية لابنه المهندس المرتقب ممدوح، قبل أن يتشرّب خيبته بابنه المختفي، بينما قُدمت (حياة) كقربان مخملي يضحي به الوالد ويرهنه لرغبات خليل المنحرف والموغل بالجشع والبخل، حدّ افتراس الزوجة الضحية وممارسة شذوذه الجنسي معها وحرمانها من أبسط حقوقها، حتى هانت عليها عزة نفسها وأسلست قيادها إلى مداعبات اللحام والمصور والجار وشهواتهم، ثمّ ما كان من طلاقها، بعد أن ضبطها ابنها (سلطان) في لقاء عادي مع حبيبها (ناصر) بعد عشرين عاماً من الغياب، حالت دونه ظروف الفدائي وسفره وخديعة أمه (أم كمال) التي صدمتها بقولها: إن ناصر قد تزوج وسافر إلى ألمانيا فابتعلت حياة الكذبة، ومضت من خيبتها بحبها إلى أحلام يقظتها وهاجسها الدائم، الذي ربط غيابه بغياب الحبيب/المخلّص، وهي العلاقة الوجودية والجدلية التي رمت إليها الكاتبة بين (الحب /الحرية) حيث كل استلاب لأحد طرفيها، هو بالضرورة استلاب لطرفيها معاً، وحيث يتجلّى الاستلاب في هذه رواية «لا ماء يرويها» بوصفه حالة وعي اجتماعي استبدادي، تجسده كيانات افترضية، يتداخل فيها دور الضحية بجلادها، أو تتمظهر كوجهين لعملة واحدة، أبرزهم مثله خليل ومرهج وذهبية وأم كمال وآخرون، مهما تغيرت الأسماء وتبدلت الأدوار.
المبنى الروائي:
وباعتبار أي جنس أو نص أدبي، هو في الوقت ذاته حقل لغوي (باعتبار اللغة فكراً سائلاً أو ناطقاً) لذا يفترض فيه أن يكون طازجاً ومتجدداً، يتوالد لغوياً في اللحظة الإبداعية (السردية) عبر دينامياته الحيوية وتتمثل فيه أفكار المُنتَج وفنياته ومعماره، ويكمن نجاحه بمدى إرواء عطش هذا المُنتَج وحاجاته المعنوية والجمالية، فقد أشبعت الكاتبة نجاة عبد الصمد نصها السردي على مدى مئتين وستين صفحة بضخ لغوي إبداعي ذي دلالات وحدوس واستشرافات عديدة، يتفاعل فيها النثر بالشعر والحكمة ويتلوّن السرد بين الفصيح والمحكي، فدللت بذلك على مخزون لغوي يتجدد ويتوالد في لحظاته السردية محققاً مقولة (لكل مقام مقال).
هنا تمثل (حياة) شهرزاد الحكاية، والشخصية المحورية فيها، فمنها وإليها يعود الخطاب السردي ومجمل تقاطعات الكائنات الافتراضية بالأحداث في فضاء الرواية، بعد أن وفرت لحياة الراوية عن نفسها ونقلاً عن غيرها مناخاً ديمقراطياً، يفسح للنجوى وللتداعيات الحرة للأفكار وحرية إعادة ترتيب عناصر الحكاية، مبتدئة من نهايتها المحكمة الربط بحادثة إصابتها وهي طفلة بعمود البناء، الذي سيغدو بيتاً للحبيب المحرر والفدائي (ناصر) الذي أحبطت حلمها به ظروف قاهرة، فظلت لائبة في البحث عنه والتوق إليه، وقد اكتشفت المفارقة بين إيهام أمها لها واستشرافها لمستقبلها ومجريات الواقع الصادم: «هصصص. كل أرض يسيل عليها دمك يكتب لك فيها موطئ قدم». وتعلق حياة على بشارة أمها بعد أن عادت مطلقة إلى حبسها في غرفة الكَرَش: «خطأ صغير في القياس أزاح مصيري بضعة أمتار، من صدر بيت الجيران إلى غرفة الكَرَش في قعر بيت أهلي»، فلقد أقفلت الأم عليها الباب من الخارج، و«دست المفتاح في عبّها، قرب قلبها الأبعد من أن يصغي إليّ».
رواية «لا ماء يرويها» هي رواية المرأة (الأنثى) كجنس لا كفرد والمرأة المجتمع، بما يتجاوز بيئتها المحلية وذلك لخضوعها لمعايير فكرية متشابهة في منظومة القيم.
لقد تحدد مصير (حياة ) الفتاة الحائزة الشهادة الثانوية والتي شكلت مع جيلها بداية تلمّس الحلم المخملي بمسألة الحبّ /الحرية، بعد أن تثقفن به عبر الروايات وشعر نزار قباني، ولكن سرعان ما اصطدم بثقل الموروث الاجتماعي المعنّد، والذي تتحمل فيه المرأة الأنثى أثقل الأعباء وأفدحها، وفقاً لروايتها وما فاضت به مرويّات شفهيّة ومدونات مكتوبة سرية وعلنية وبعض الأساطير التي بناها المخيال الشعبي، في ظلّ التصحر السياسيّ والاجتماعي، وهيمنة العادات والتقاليد العصية على المراجعة والنقد، وقد اقتحمت الكاتبة بجرأة ريادية مسألة تحرير الكتابة الروائية من تابو الجنس، ومن هيمنة العقل النمطي، كي تمضي بعيداً في تحرير الروح والجسد والخوض في مساراتها ومعاركها الفكرية العالقة.
أخيرا :
إنّ رواية «لا ماء يرويها» هي رواية المرأة (الأنثى) كجنس لا كفرد والمرأة المجتمع، بما يتجاوز بيئتها المحلية وذلك لخضوعها لمعايير فكرية متشابهة في منظومة القيم، التي أطرت المرأة (الأنثى) ونحتتها نموذجاً إنسانياً حياً لثقافة الاستبداد والاستعباد المزدوج الاجتماعي/ الذكوري، والسياسي/ القانوني، وكرّستها كياناً ضعيفاً مهزوماً أمام جبروت الموروث الاجتماعي، ولقد أشارت الكاتبة إلى ذلك بقول اقتبسته عن الشاعرة البلغارية، بلاغا ديمتروفا في مقدمة روايتها: «إن تكوني امرأة، هذا ألم/ تتألمين حين تصيرين صبية/ وحين تصيرين حبيبة تتألمين/ وحين تصيرين أما ولكن ما لا يطاق على هذه الأرض/ هو أن تكوني امرأة/ لم تعرف هذه الآلام كلها».
صحيح أن الغنى الوجداني ومستوى الصدق والمعاناة صفـــــات بارزة في لغة الكاتبة (المرأة) ولاسيما أنها صيغت على لسان حياة ومن خلال معاناتها، ولكن هذه الخصـــوبة بأبعـــــادها الدلالية والإبداعية، لم تقــــلل من موضوعية الخطاب السردي وحيادية الكاتبة ولا من قدرتها على التحليل والتركيب وبناء الحكاية بتفاعل وجداني خلاق.
٭ كاتب من سورية