تثار في الأونة الأخيرة كتابات ناقمة على الأدب والأدباء العرب بقديمهم وحديثهم، والمفارقة أن كتّابها مؤثرون لا بصفتهم الأدبية وإنما بموقعهم ككتاب أعمدة أو أصحاب محتوى أو محرري صحف عندهم تتلاقى أقلام الأدباء العرب من مشرق الوطن العربي ومغربه. ولحساسية ما تتم إثارته في هذه الكتابات ولبيان النوايا التي تقف وراءها، أتعمد الوقوف عند واحدة من تلك الكتابات، وأنمذج من خلالها على غيرها وهي مقالة (لا تستغربوا أن الأمم الأخرى لا تقرأنا) المنشورة مؤخراً في إحدى الصحف العربية، المختزلة في حوارها، والمتضادة في أحكامها ما بين رأيين: الأول نوافق كاتبها عليه وهو أننا (لا نعثر على كتاب عربي واحد في كل مكتبات عاصمة الإنكليز التي يمكن أن تجد فيها كل كتب الأرض، ولا أعثر على كتاب عربي واحد. وأقرأ صحف البلد، ولا أجد حتى مجرد خبر واحد) فهذا الرأي يأتي من كاتب مقيم زمنا ليس بالقليل في مركز من مراكز المتروبول الغربي. وأذكر أني سألت كاتبين عراقيين مقيمين في لندن عن دار نشر بريطانية توافق على ترجمة ونشر أحد كتبي، فكان ردهما واحدا وهو إلا دار نشر واحدة توافق على نشر أي نتاج عربي إلا في حالات نادرة ومعروفة. والأمر يتعدى الجانب التجاري إلى جانب آخر غير مادي. ولقد تطرقت المترجمة روث أبو راشد ــ في محاضرتها من إحدى المنصات الافتراضية ــ إلى شروط تعسفية فرضت عليها وهي تنوي ترجمة ونشر نتاجات لروائيات عراقيات وأن معاناتها انتهت بالموافقة لها على ترجمة كتابات ست فقط من أصل عدد كبير من الروائيات.
السبب بالطبع يتمثل في العقدة الاستشراقية التي منها تشكلت (المركزية الأوروبية). وستقولون لي: ألم يتصد لنقد الاستشراق باحثون من أصول شرقية أو مهاجرون عرب قطنوا في أوروبا وأمريكا وفككوا الخطاب الاستشراقي وحللوا مسائل ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة والعولمة من الهوية والعقل والأقليات إلى التبعية والهامش والاستهلاك والعولمة وغيرها. وأقول جازمة: إن هؤلاء نقدوا الخطابات الاستعمارية وما بعدها من حدودها الخارجية ولم يتمكنوا من المساس بها داخليا وكيف يتم ذاك وهم تحت خيمتها ويقيمون في عقر دارها ولو فعلوا ذلك لكان الإقصاء والمعاداة نصيبهم ولما نُشر لهم كتاب أو مقال ولا تُرجمت أعمالهم، بل ربما الطرد سيكون المصير المتوقع لهم.
وأما الرأي الثاني الذي طرحه كاتب المقالة أعلاه فلا نؤاخذه عليه حسب، بل نعاتبه أيضا وفيه طرّح تعليلا لما تقدم وهو (أننا لم نكتب أدباً إنسانياً بعد ممكن أن يصل إلى الإنسان في كل مكان غرباً وشرقاً، وفي كل زمان، ما عدا استثناءات قليلة في تاريخ طويل جداً). وكيف يكون أدبنا لا إنسانيا وشعرنا من امرئ القيس ومرورا بالمتنبي وأبي العلاء المعري، وهو يؤثر في أمم الفرس والترك والهند والصين وبما لا يقبل الشك وليس انتهاء بشعراء الأندلس الذين تركوا أثرا في شعراء التروبادور وشعراء أوروبا قاطبة؟
وإذا كان أدبنا فعلا لا إنسانيا، فلماذا إذن حقق المستشرقون الأوروبيون دواوين شعرائنا القدماء؟ ألم يكن شعراء الرومانسية شغوفين بشعراء الشرق وبلاد العرب مثل غوته وشيلر وشيلي، وقبلهم شعراء وكتّاب شدوا الرحال أبان عصر النهضة إلى شمال أفريقيا ومصر وبلاد الشام والأستانة بحثا عن هذا الأدب الذي فيه من الرقة والإنسانية ما جعل لامارتين ونيرفال وفلوبير وشاتوبريان يعجبون أشد الإعجاب، بل إن هذا الأخير كتب عن رحلاته في الشرق قائلا: «إن الشرق أرض العقائد وأرض العجائب.. هذه الأرض العربية أرض العجائب». أما الروائي دزرائيلي فقال في روايته «تانكريد» إن الشرق حياة عملية. وهذا غوته يذكر في روايته «فاوست» أن بطله سافر مع جماعة على معطف من ساكس إلى باريس ثم يعلق قائلا: «التشابه ظاهر جدا بين هذا المعطف وبين بساط سليمان الوارد ذكره في قصص ألف ليلة وليلة العربية وربما كانت هذه هي التي عنها عرفت أوروبا هذا المعطف السحري لأننا لا نجد له ذكرا عند اليونان أو الرومان أو اليهود والشرق بعامة قبل القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي». واعترف فكتور هيغو «أن الآثار الأدبية الإنسانية كالآثار المعمارية والفنية لا تزداد مع الأيام إلا حرمة ونفاسة، بل إشراقا في بعض الأحيان» فكيف بعد ذلك لا يكون أدبنا إنسانيا؟
أنا لا أنكر ما للفكر الغربي من غنى وتقدم ولا أشكك فيه ولكن لا ينبغي أن ينسينا ذلك حقيقة أن ما أحرزه هذا الفكر من تقدم علمي وهيمنة استعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت من مفارقاته إن أدباء أوروبا لم تكن لديهم أية عقدة من الإفادة من آداب الشرق ومعارفه. فلم ينكروا فضل المرويات التراثية الشرقية عليهم، خذ مثلا بلزاك وفولتير وسكوت وتولستوي. ولا نغالي إذا قلنا إن مع العلاقة بين الشرق والغرب نما هاجس معرفي عن الشرق والعالم العربي عند الأوروبيين أدباء ومفكرين، وإلا هل ينكر أي أديب غربي حديث أو معاصر أهمية حكايات ألف ليلة وليلة في صورتها العربية؟ بالطبع لا، فالتفاعل بين آداب الأمم وخاصة مع الحضارات العريقة أمر طبيعي. أما ما يجعله غريبا أو مستغربا فهو هذا الوقوع في دائرة العقدة الاستشراقية التي نجدها في اعتراف اميل زولا قائلا: «لا شك أن للعصور السابقة عظمتها الأدبية لكن من المضر إيقافنا عند تلك العظمة تحت ذريعة انه لن يكون هناك غيرها. فالأدب ليس إلا نتاجا لمجتمع بعينه واليوم شرع عصرنا الديمقراطي بامتلاك تعبيره الأدبي الرائع والناجز. ينبغي قبوله دون ندم أو صبيانية كما يجب الاعتراف بقوة المال وعدالته ونزاهته والتسليم بالروح الجديدة التي توسع ميدان الأدب عبر العلم الذي يحاول الوصول فيما وراء النحو والبلاغة ومن فوق الفلسفة والدين إلى الجمال الحقيقي».
ولو لم يكن الفكر الغربي عارفا معرفة عميقة بقيمة ما يكتبه الأديب العربي الحديث والمعاصر لما وقف إزاءه موقف الخائف والمتحصن والمتربص من طبع أو تسويق أو حتى نقد أي كتاب فكري أو نقدي أو شعري أو عمل روائي إلا في حدود الدراسات الشرقية التي لا تعرف من العالم العربي سوى أدباء مصر بالدرجة الأساس. هذا لأن الغربيين على علم بأن التأثر الذي حصل في العصور الوسطى وعصر النهضة سيتكرر إن بقي التفاعل مفتوحا بلا قيود ولأن ذلك سينتهي بتقويض الصورة المتروبولية التي رسمها الفكر الغربي لنفسه. لكن فاتهم أن في ذلك مخاطرة من ناحية التطور والمواكبة التي ستودي بأدبهم إلى الانكماش مستقبلا، لا أقول هذا جزافا إنما هي خلاصة معطيات هذا الأدب نفسه التي تؤكد أن الدوام لا يُكتب له إلا بالتفاعل مع الأمم الأخرى ولاسيما المجاورة.
أما مؤاخذة كاتب المقالة لشاعرين: قديم ومعاصر على استعاراتهما بتساؤله التهكمي «هل قرأت ادعاء كهذا في كل الشعر العالمي منذ شكسبير لحد الآن؟» فلا أقول إن المجاز هو لب الشعر ومحركه النفاث، بل أقول إن الأديب يكون عالميا إن هو ابتكر وصار ابتكاره من بعده تقليدا أو من استطاع ترسيخ أمر جديد وجعل منه قانونا. فالعبرة ليست في الابتكار وحده بل أيضا في التمكن من إثبات خصوصيته وتفرده، وما عالمية الأدب إلا من عالمية فواعله الصانعة له. وليست العالمية في هجرة الموضوعات والوسائل إلى الآداب الأخرى وإنما العالمية في قوة الأصول وأصالة الابتكار ووضوح الجزئيات كأشكال ومضامين وحبكات وتقنيات ثم في تزامنية نظامها تاريخيا والقائم على الوحدة والكلية والتماسك والتكامل، مما يسميه كولردج (الوحدة في التنوع).
ومن هنا يأتي طرحنا لأقلمة السرد العربي كي يكون مشروعا عربيا، فالأقلمة تجمع ولا تحدد، وتربط ولا تجزئ، معتمدة على المقاربة بين العلوم والجمع ما بين العقلي والحدسي والواقعي والتخييلي والأدبي وغير الأدبي. ويخيل إلي أن الأوان حان لان نشرع في ذلك ونؤسس لأصالتنا بالعالمية، فالظرف اليوم يوائم التأقلم أكثر من أي وقت مضى نظرا لما في راهننا من تعولم وانفتاح واندماج ولما في أدبنا من غنى وإبداع وتنوع فضلا عما صرنا نسمعه ونقرأه من آراء تنتقص من تاريخنا الأدبي وتتهمه بالقدم والانقطاع.
وحقيق على النقاد العرب أن يوجهوا أقلامهم لدراسة خصوصيات أدبنا شعرا وسردا كتاريخ ولغة وأساليب وأعلام ومراحل ومحطات. ولن يكون مهما في هذه الخصوصية إن كان أدبنا مترجما إلى لغة انكليزية أو أية لغات أجنبية، بل المهم أن يستمر في نمائه وإن كان مكتفيا بالعربية لغة بها يسوِّق نفسه إلى العالم. فلقد حان الوقت لأن نعود إلى فهم طبيعة شعرنا وسردنا القديمين والحديثين من دون اعتبارات مقارنة جزئية أو منهجية اقتطاعية أو تخصصية تحليلية إنما هذه جميعها، ومعها غيرها، هو ما سيساهم في تأكيد عالمية أدبنا العربي من خلال النظر إليه نظرة موسوعية وبدراسة معرفية منظمة.
*كاتبة من العراق