لا… هذه ليست بيروت!

حجم الخط
30

بدلاً من تناول العقاقير المنومة التي تساعد على هزيمة الأرق، أحاول مشاهدة أفلام تبعث على التثاؤب، إذ تنتهي دائماً بنهاية سعيدة، ومنها سلسلة أفلام «الملاك الحارس» تمثيل القزمة الفرنسية الرائعة ميمي ماتي. والبارحة، كنت أراقب بحلقة من المسلسل خراب دكان حلاق احترق بأكمله، و«الملاك الحارس» ميمي ماتي تساعده و«توعد الحلاق» بإعادة بنائه، وتأتي زبونة سابقة، وحين ترى الخراب كله وآثار الحريق تقول كلمتين جرحتاني، إذ كان استنكارها لهذا الهول كله هو قولها: «إنها بيروت»! أي أن كلمة «بيروت» صارت تعني الخراب والحرائق! وأضحت مثلاً!

أمام الخراب والحريق: «إنها بيروت»!

يحزنني اقتران اسم بيروت بالموت والحرائق كما كانت أيام الحرب الأهلية، ذلك ليس كاذباً، وحدث، ولكن ما كان مضى -على ما أرجو ولا أحب- إلصاق اسم أي خراب وحريق باسم بيروت التي أحب. وأتمنى ألا يتكرر ما كان، والأوضاع في بيروت لا تدعو إلى التفاؤل!

حرائق في العقل!

ولكن ما يدور اليوم أحياناً في بيروت هو النذير بالخراب. والدمار العقلي أكثر خطراً من الدمار في الأملاك المشيدة. فقد أتصلت هاتفياً بصديقة بيروتية لأشكو لها إغلاق المطارات وعدم القدرة على السفر إلى بيروت.. كانت غائبة عن البيت، ورد عليَّ زوجها خريج الجامعة الأمريكية المتعلم. قال لي بحزن متدين يكره السخف تحت شعار الدين: هل تصدقين أن البعض في بيروت يتوهم أن «فيروس كورونا» لا يصيب المسلمين؟ لم يخطر لي يوماً أن بعض (البيارته) قد يفكر (وبالأحرى لا يفكر) على هذا النمط.. وكم ذلك محزن، في بيروت عاصمة الفكر والحرية العربية، ولكن ما يدور اليوم في بعض الأدمغة يدعو حقاً إلى القلق!

حجارة لضرب الإعلاميات والإعلاميين في بيروت!

حين قرأت ما كتبه سعد الياس من بيروت حول تعرض الإعلاميين والمصورين لمضايقات خلال تغطيتهم وقائع التظاهرات في بيروت، غمرني حزن حقيقي. فقد أصيبت مراسلة قناة الجديد «ليال سعد» بحجر في رأسها من قبل فتيان وصلوا على دراجات نارية إلى ساحة الشهداء واشتبكوا مع قوى مكافحة الشغب «كما كتب سعد الياس»، هذا أمر خطر على الحريات. والدماء التي سالت على وجه ليال سعد هي النذير بالدماء التي قد تسيل على وجه بيروت كلها، بل ولبنان إذا استمر الحال على هذا المنوال.
رنيم بو خزام، ونخلة عضيمي، ونوال بري، وجويس عقيقي، وزينة باسيلا شمعون، كلهن تعرضن للاعتداءات وهن يقمن بعملهن الإعلامي، كما حدث ذلك للاعتداءات التي يتعرض لها الصحافيون والمصورون خلال تغطية الأحداث في مختلف الأراضي اللبنانية. وشكراً لسعد الياس الذي ينقل لنا ما يدور.

ألا يخجلون مما يفعلون؟

أتساءل: لماذا يمنع البعض ـ وقد تكون القضايا التي يتظاهرون لأجلها محقة ـ لماذا يحاولون منع الإعلام من نقل الصورة الحقيقية للناس؟ هل هو عدم الاقتناع بعدالة قضيتهم، بل ورغبتهم في تدمير المخازن ونهبها؟ لماذا، بدلاً من شكر الإعلاميات والإعلاميين الذين ينقلون أصواتهم إلى الناس ـ إذا كانوا صادقين في عدالة قضيتهم ـ لماذا بدلاً من الشكر والامتنان يضربونهم بالحجارة لمنعهم من تعريف الناس بما يدور؟ نعيش في عصر لم يعد من الممكن لأحد أن يقوم بأي حراك سراً!
ومن الأفضل ألا يفعله بدلاً من الاعتداء على من ينقله للناس أعلامياً!

امرأة من العالم الثالث!

يبدو أنني على الرغم من طول إقامتي في باريس (أكثر من ثلاثة عقود ونصف) ما زلت كيوم وصلت إلى هذه المدينة الجميلة، امرأة سورية لبنانية من العالم الثالث، ولن يكتب أحد على قبري حين أموت: أديبة فرنسية من أصل عربي. فأنا عربية حتى الموت.
وما زلت حتى اليوم أشعر بالنفور مما يفترض أنها مشاهد كوميدية في السينما الغربية، حيث يتضارب الممثلون بالطعام يدوسونه، وأنا أعرف جوع الفقراء واللاجئين في عالمنا الثالث، الذين يشتهون قطعة حلوى من تلك التي يفترض أنها تضحكنا حيث يتضاربون بها. وأشعر بالنفور من البطر.

مياوو.. مياوو.. وجه آخر للبطر..

أحب القطط، كانت لدينا في البيت دائماً قطة في دمشق تعمل (كحارس) ضد الحشرات كالرتيلاء والفئران وسواها.. فالقطة من مخلوقات الله الجميلة والمزاجية، وكنا ندللها ونداعبها، وحين كنت بنتاً صغيرة كانت عمتي المقيمة في حي الحلبوني ـ دمشق تبعث بي إلى اللحام لأحضر منه (الشخت) مجاناً؛ أي قطع اللحم غير الصالحة للطبخ والتي تعشقها القطط، والآن ثمة في السوبر ماركت الباريسي رفوف خاصة بطعام القطط والكلاب تذكرني بالجياع في بعض خيام أوطاني العربية!

بين الهرر وقهر البشر!

قبل عام ونيف، حين مات أحد ملوك الموضة في أوروبا «كارل لاغرفيلد»، أوصى لقطته المدللة «شوبيت» بمقدار كبير من ثروته!
وكل إنسان حر في طريقة إنفاق ماله حياً أو بعد موته. وكنت أتمنى لو ذهب هذا المال إلى الفقراء إلى جانب قطته!
والبارحة، وأنا أشتري الصحف فوجئت بمجلة خاصة بالحيوانات المنزلية الأليفة.. أما العناوين في الغلاف فهي حول أساليب مكافحة السمنة لدى القطط والكلاب، ومكافحة الاكتئاب لديها (!) وشركات التأمين على حياتها، وحوانيت التدليك للقطط والكلاب، والفنادق الخاصة بها إذا ذهبت في إجازة ولم تتمكن من اصطحابها!

الحياة العاطفية للحيوانات الأليفة!

الدين الإسلامي أمرنا بالرفق بالحيوان، ونحن نعاملها جيداً دونما مبالغة، كاصطحابها إلى الطبيب النفساني الخاص بها مثلاً!.. (ونحن في حاجة إليه أكثر منها) وقد يدهشنا عدد الكتب الفرنسية حولها، وهو ما عرفته من خلال كراس أدبي لشراء الكتب بالمراسلة يصلني دائماً. وأذكر على سبيل المثال الكتب التالية: «كل ما تحاول القطط قوله لنا» تأليف لوتيسيا دورلوران. وكتاب: «الحياة العاطفية للحيوانات الأليفة»، تأليف جيفري ماسون. وكتاب على غلافه صورة الأديبة الفرنسية كوليت محتضنة قطتها، تأليف جيرار بونال.
وأعترف بأنني لم أشتر بالمراسلة أي كتاب منها، فأنا امرأة من العالم الثالث، تسكنني هموم أخرى، منها محاولة سرقة المزيد من أراضي الفلسطينيين على يد الاحتلال الإسرائيلي..
وقائمة همومي تطول.. ولقلبي مشاغل أخرى تتعلق بجراح وطني العربي…
فأنا بحق امرأة من العالم الثالث… و«أنوء» حزناً لما يدور لبنانياً وعربياً!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آمينة:

    أستاذة غادة مساء الخير..صحيح أن القطط ليس لها عقل ولكني أكاد أجزم أن لها قلب فقطتي ال angora التركية بيضاء الثلج تنتظرني كلما غبت عنها وتستقبلني بفرحة عارمة وراء الباب حين عودتي.. لن تصدقوني إن قلت لكم أنها تناديني ماما.. أو ربما يخيل إلي.. تهون علي وحدتي ولا أتصور حياتي بدونها

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    كنت أحب القطط لغاية هجومهم الآثم على مزروعاتي!
    كلما أبذر خضاراً يحفروا الأرض ويضعوا فيها برازهم!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    تفكيرك بآلام الآخرين دليل على إنسانيتك يا أستاذة!
    الإنسانية أصبحت عملة نادرة بهذا الزمن المادي!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    الرفق بالحيوان, يؤدي للرفق بالبشر!
    الغرب يرفق بالحيوان, لكنه يرفق بمصالحه أكثر من رفقه بالبشر!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول نجم الدراجي - العراق:

    كنت أتابع باهتمام سلوك وتصرفات الناس أثناء دخول عصابات ( داعش ) الارهابية إلى العراق ، ومنها طوابير من البشر تصطف للحصول على تذاكر سفر ، وشاهدت سيدة بغدادية تطلب اصطحاب قطتها معها ، وقالت لموظف مكتب الخطوط : لن أسافر من دون قطتي ، وكأنها تعلن موقف احتجاح ! .
    قصة ثانية حدثت في الصين قبل سنوات لقطة لديها حساب على ( الانستغرام ) ، ووصفت بانها حزينة وكئيبة ، ولا تفارقها الدموع ، والشعور الدائم بالحرمان ، وتبين انها تسكن لدى عائلة ، ومعها العديد من القطط ، وهذه العائلة تتعامل ب ( التمييز ) كالرعاية والدلال والعطف للقطط عدا القطة الحزينة التي خضعت للتمييز ! .
    هذه القصص وغيرها تحمل العديد من المفارقات …
    حين تنتهي معارك الاخوة العبثية ، ويغادرون التمييز الديني ، والشحن الطائفي ، بعدها سيدخل العالم الثالث مرحلة الترف بفتح عيادات للطب النفسي للقطط والكلاب ، ومنحهم جوازت سفر ، وتأليف الكتب التي تخص تلك المخلوقات ، وربما تخصص لهم مقابر على ضفاف الانهر وشواطئ البحار شبيهه بالمقابر الباريسية على ضفاف نهر السين .
    تحياتي
    نجم الدراجي – بغداد

  6. يقول ابو تاج الحكمة الأول.فرنسا:

    الورد يبكي والندى والتوت
    يا ناس ليست هذه بيروت!

  7. يقول فائق الناطور:

    أستاذة غادة لقد تنبأت ومنذ سنوات بعيدة ومن خلال عنوان روايتك العظيمة “لا بحر في بيروت” بأنه لن يبقى بحر في بيروت.وبأن السفن لن تجد المرافئ التي ستفرغ حمولتها في أي ميناء في “رحيل المرافئ القديمة”.وبهذا ستحاصر الصحراء لبنان العزيز ولن يكون هناك بوابات للخير حتى ينتهي زمن الجنرالات والفاسدين.

  8. يقول أفانين كبة - كندا:

    بالرغم أن في العالم العربي لدينا التأريخ والجغرافية والموارد الطبيعية ، منها البترول ، لكن شريحة كبيرة من مجتمعنا العربي فقيرة لا تعرف معنى الترف والبطر . وللأسف مازلنا ننتمي الى دول العالم الثالث ، ولقد أعتدنا على هذه التسمية و سنبقى هكذا مازال أن شعوبنا مشغولة بقتل بعضها البعض بأسم الدين مرة وبأسم العروبة والقومية مرة اخرى ، وما اسهلها وأسرعها من وسيلة في إثارة الطائفية والقومية بينهم . ولم نفلح في أن نرسم خطوط حمراء في عدم تدخل الغريب في شؤوننا . ولم نفلح في أن نجمع قوانا وطاقتنا واستخدام مواردنا والكفاءات النادرة ، للوصول الى مستوى دول العالم المتقدمة التي يلجأ اليها آلآف الآلاف من المهاجرين العرب سنويا ممن يساهم في بناءها وتقدمها .
    أفانين كبة – كندا

  9. يقول عمرو - سلطنة عمان:

    حزني كبير على بيروت كما دمشق وعلى خارطة أوطان تمزق وشعوب يزداد عليها التضييق والحصار من الداخل والخارج خاصة واني على تواصل مع أصدقاء صحفيين في سوريا ومتابع لتأثير قانون قيصر والحصار الإقتصادي على المواطن العادي الذي ذاق ويلات الحرب..

    وأنا أقرأ عن الكتاب الذي قد يبدو ترفيهي عن الحيوانات تساءلت ألم يكتب أحدهم عما تلاقيه الحيوانات في الحروب والحصار ؟ جاء هذا وأنا أتذكر حديث كان قدر دار مع صديق في دمشق عن قطط الشوارع التي اصابها النحف فحتى القمامة أصبحت فقيرة

  10. يقول سوري:

    اختي الكريمة، ست الشام الحبيبة
    ما يدور في خلدك، وما يجيش فيك من أحزان، يدور في خلدنا ويجيش فينا احزانا عميقة. السؤال: لماذا هجرت، لماذا هجرنا.. والبقية تأتي.
    مع خالص محبتي لك ولك زملائي المعلقين الرائعين

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية