لبنان؟ ذهب ولم يعد!

حجم الخط
16

ربما كان علينا مواجهة الحقيقة، نحن الذين ما زلنا نتذكر أن لبنان كان اسمه سويسرا الشرق. ذلك اللبنان ذهب ولم يعد، وعلينا التكيف مع حقيقة ما يدور. ذكرى 4 آب (أغسطس) يوم الانفجار الكبير في مرفأ بيروت، ليس ذكرى مضت قبل أشهر، بل هو بمعنى ما الحياة اليومية الآن في لبنان. حسناً، سنتساءل من المسؤول عن وجود تلك المواد المتفجرة كلها في مرفأ بيروت، وكان قبلها مرفأً أدبياً أيضاً، حيث ذهبت وقابلت للمرة الأولى والأخيرة طه حسين، ورضي باستقبالي لأنني ابنة صديق له، كما أنعش ذاكرته الدكتور سهيل إدريس، وضرب لي الموعد. يومها كانت بيروت عاصمة عربية للأدباء والنشر وللفرح والتطور وكان يا ما كان..

الحقيقة ولدت في المنفى!

نطالب بالحقيقة!! من المسؤول حقاً عن وجود هذه المواد المتفجرة كلها (نيترات الأمونيوم) في المرفأ، ولماذا؟ ولمن؟ في لبنان نعرف أن الحقيقة ولدت في المنفى.. ولن تستحق الإجابة على هذا السؤال لمعاقبة المسؤول، ولعل (المسؤول) مسؤول عن التعتيم على الحقيقة لأنها لا تناسب مخططاته للبنان. وهكذا قتل في يوم واحد، هو 4 آب (أغسطس) منذ عام وعدة أشهر، أكثر من مئتي بريء وجرح المئات وتهدمت وعشرات البيوت وبعض المستشفيات، ولم نعرف لماذا ولم يعاقب أحد! فالمسؤول مبني للمجهول.. فالحقيقة في لبنان ولدت في المنفى.. وكل يوم هو بمعنى ما 4 آب (أغسطس) ولن يعرف أحد لماذا، فالحقيقة ولدت في المنفى لا في الإعلام اللبناني! ومن يعرف الحقيقة يعرف أن عليه أن يصمت، وإلا!!

نشبه أمريكيين سُجناء خطأ

بيروت اليوم؟ لا ماء، لا كهرباء، لا بنزين، لا مازوت، لا أدوية، ما من ضوء في آخر النفق، ولا أفق مفتوحاً على الأمل.
بهذا المعنى نشبه الأمريكي وشقيقه، فقد سُجنا 31 عاماً بدافع الخطأ العدلي، ثم أطلق سراحهما بعدما تبين أنهما كانا مظلومين وبريئين. لبنان سجين حرب أهلية، فحرب باردة يعايشها الناس، وهم في سجن اللاكهرباء، اللاماء، اللاوقود، اللاأدوية، وغير ذلك من مقومات الحياة المعافاة التي يطول ذكرها. الأمريكيان سُجنا أيضاً لأنهما من الملونين (البشرة السوداء). صرنا نعيش اليوم في لبنان كأننا من أهل البشرة السوداء في أمريكا من زمان ما قبل انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة.. متى ينتصر الشعب اللبناني على ظالميه ومدمري وطنه أكراماً لمصالحهم الخاصة وبحروب صغيرة تناسبهم؟
ألا يعون كم صار معظم الشعب اللبناني يكرههم وصرخة «كلهم تعني كلهم» غير كاذبة؟ أظن أنني سببت للقارئ ما يكفي من الاكتئاب، لكنني لم أكتب كلمة يوم ذكرى 4 آب (أغسطس) 2020 لأن كل يوم نعيشه في لبنان هو كذلك، ولكل يوم ضحاياه بمعنى ما، ولأننا تعبنا من التفتيش عن الحقيقة لأننا نعرفها!

الحرمان من الأوطان، وأنت فيها!

ثمة ما يدعى «اليوم العالمي للاجئين» لكن معظم من بقي في لبنان هم في جوهر الأمر من اللاجئين، لأن الوطن لم يعد وطناً بل صار غربة، وأقسى أنواع الغربات هي تلك التي يعيشها المرء في وطنه.. حين يعجز عن معاقبة المسؤول عن غربته في وطنه.
وكم أحزنني أن أقرأ قول الممثل أسعد رشدان: «أقدم استقالتي من الوطن، وأهدي جنسيتي لمن يرغب بها».
يا أخي، كلنا نرغب بها ونتمسك بها ولن نقوم بإهدائها إلى أحد، بل سنحلم بيوم نستطيع فيه معاقبة من أوصلنا إلى هذه الحال.

لبنان يا أخضر حلو..

بحزن أستمع أحياناً إلى الأغاني القديمة عن لبنان مثل: «بحبك يا لبنان يا وطني بحبك» وكلنا نحبه لكننا نحب الحياة أيضاً، والحياة بدأت تصير متعذرة فيه.. وأتذكر صوت وديع الصافي وأغانيه «لبنان يا أخضر حلو».. وأتذكر أيام (البيكاديلي) ومسرحيات فيروز وآل الرحباني.. أتذكر شارع الحمراء كيف كان عاصمة للمثقفين والشعراء والمبدعين.. أتذكر بحزن كم بدلوا هذا الوطن الجميل وحولوه إلى بقرة حلوب تدر عليهم المال الذي يهربون به من لبنان ونأمل أن يلحقوا به لنستطيع من جديد بناء لبنان. لكن، هل ذلك ممكن بعد كل ما مضى؟ هل سيصير بوسع الناس استعادة مدخراتهم التي أودعوها في البنوك وكلهم ثقة بها؟ وصاروا يتسولونها. وهل سيعود بوسعك أن تضغط على زر في جدار بيتك وتشتعل الكهرباء بدلاً من البحث عن المازوت لتشغيل المحرك الذي يمنحك ساعات بخيلة من التيار الكهربائي، هذا إذا كان لديك المال الذي يسمح لك بشراء المازوت أو إصلاح المحرك حين يتعطل.. لا تهرب بسيارتك إلى شاطئ البحر لتتنفس، إذ لا وقود (بنزين) لمحرك السيارة!

هل سينهض الفينيق ويحلق؟

هل.. وهل.. أم أن لبنان ذهب ولم يعد؟ وتحول إلى منصة لإطلاق الصواريخ مثلاً، وعاصمة للاغتيال السياسي؟
أتذكر يوم كانت بيروت عاصمة عربية للعلم، ويوم جئت إليها وانتسبت إلى الجامعة الأمريكية فيها وكان الهاجس الأكبر هو العلم، وكان المبدعون العرب يأتون إلى بيروت، حيث التقيت بالمصري الأديب إحسان عبد القدوس وكنا مجموعة من عشاق الثقافة العربية نرافقه لنلعب (البولينغ) في مطعم سكوتش كلوب (صار اليوم بنكاً) وأتذكر يوسف إدريس وذهابه إلى مكتبة «العم سميح» لشراء الصحف ويقول لزوجي ضاحكاً إنه يطالعها تحت السرير لأنه لم يألف حرية مطلقة كهذه، وأتذكر عشرات المبدعين والمثقفين العرب الذين كانت بيروت عاصمتهم الروحية، واليوم صارت مطاراً للهجرة، وذلك محزن. أتذكر يوم تعرفت في بيروت بالعديد من النجوم المصريين والعرب، وكانوا يحضرون إلى «عاصمة الثقافة العربية» كما كانت قبلها القاهرة، أما اليوم فالمهاجر من لبنان يخشى العودة حتى لزيارة الأهل، لأنه لم يعد بوسعه أن يتحمل انفجاراً هنا واحتيالاً هناك وبيوتاً بلا كهرباء ولا ماء.. وجنازات القلب الذي كان وما يزال عاشقاً للبنان. لكن ثمة من لا يرغب في أن ينهض لبنان على قدميه لأسباب أترك للقارئ ذكرها، والكل يعرفها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أبو تاج الحكمة الأول: سادن النور الأقدس ووارث الخاتم النبوي الشريف:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    بعض الحنين و لم يعدْ
    هو كل ما عاد ابتعدْ
    كالشمس أشرق نورها
    دون التلامس عن بعدْ

  2. يقول ابن الاردن:

    في لبنان يتحدثون عن محاربة الفساد السياسي والمالي الكل بدون استثناء من مختلف الطبقات والطوائف يتحدثون عن وجوب ملاحقة الفاسدين واسترداد الاموال المنهوبة ، يخيل اليك ان الفاسدين والمفسدين لا وجود لهم في لبنان ، جميعهم اطهار ، الفاسدين والمفسدين سياسيا وماليا لا وجود لهم وانما هم اوهام
    لكن الحقيقة ان هؤلاء الفاسدين والمفسدين جمعهم هدف واحد قتل لبنان ،. وقد استطاعوا ، والامر المخزي المحزن انهم يمشون في جنازته ،،

  3. يقول مجتهد:

    حادثة تشيرنوبل في أو;رانيا الإتحاد السوفييتي عام 1986، وهي أسوأ حادثة نووية في العصر الحديث، مات فيها 31 شخص فقط (الأمم المتحدة قدرت العدد بخمسين شخص). وتفجير مرفأ بيروت مات فيه 200 شخص ودمار هائل اي أن حادثة المرفأ اشد وطأة من الإنفجار النووي في تشيرنوبل. ومؤخراً قامت نيثفليكس بعمل فيلم عن الحادثة فهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه فيلم مماثل عن حادثة المرفأ المروعة. حاثة تشيرنوبل كانت خطا بشري (إهمال من مشغل المحطة) وكذا الحال بالنسبة لمرفأ بيروت خطا بشري وإهمال من قبل ليس شخص ولكن حكومة بحالها وكأنها كانت متواطئة في هذه الجريمة المروعة التي سوف يطويها النسيان، وحدهم الذين تأذوا من الحادثة لن ينسوا ما حيوا بسبب فقدان عزيز أو تغير مجرى حياتهم للأبد.

  4. يقول القارئ:

    بالنسبة للعبارة الاستهلالية:
    [ربما كان علينا مواجهة الحقيقة، نحن الذين ما زلنا نتذكر أن لبنان كان اسمه سويسرا الشرق. ذلك اللبنان ذهب ولم يعد، وعلينا التكيف مع حقيقة ما يدور]… انتهى الاقتباس
    كاتبتنا العزيزة، غادة السمان، كلشيهات استغرابية سمانية تتردد على صفحات الصحافة والإعلام من مثل “لبنان سويسرا الشرق”، إلى آخره، إنما تذكِّر بمقارنات استغرابية أدونيسية تتردد بين سطور النقد الأدبي من نوع “المتنبي شكسبير العرب”، إلى آخره: وإن دلت كليشيهات ومقارنات استغرابية كهذه على شيء فإنها تدل على النظر التشويهي والتشنيعي إلى سيرورة الزمن بتسيارها المعكوس كليا وإلى حد الاستخفاف بالشخص المعني أو بالشيء المعني، ومن ثم بالعقول العربية التي تحتويهما كمعلومتَيْن تراثيَّتَيْن حتى في أبهى الفصول – حقيقةً، من المنظور التاريخي تحديدا، هذه الكليشيهات والمقارنات تُعتبر إهانة كبيرة لكل من المتنبي (الذي وُلد عربيا في هذه الدنيا قبل ولادة شكسبير بأكثر من ستة قرون) ولبنان (الذي تواجَدَ فينيقيا على هذه الأرض قبل تواجُدِ سويسرا بآلاف السنين) !!!؟؟

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      أخي القارئ، في حالة لبنان هو مجرد قول متداول شعبيًا وبرأيي هذا يختلف عن أقوال أدونيس الشاعر القدير (سابقًا) حيث ظهر بعد ثورة الشعب السوري على الإستبداد والظلم والقمع أن كلامه لايعبر إلا عن تواطؤ مع الإستبداد بل هو كلام ترشح منه الطائفية البغيضة. المقارنة بين الحالتين تبدو بعيدة نوعًاما حتى لو كانت صحيحة.

  5. يقول سمير جبور:

    كنت أتمنى على الكاتبة المرموقة السيدة غادة السمان ، بعد ان شخصت بنجاح حالة لبنان المزرية ان تذكر لنا بصراحة من هم الذين لا يرغبون “في أن ينهض بنان على قدميه لأسباب أترك للقارئ ذكرها، والكل يعرفها.” كثيرون يعرفون من هم هؤلاء و”ألأسباب” وكثيرون آخرون لا يعرفون . ولا يكفي الغمز من قناة من هم وراء تحويل “لبنان الى منصة اطلاق صواريخ”. وكثرون ايضا يريدون ان يعرفوا كيف تحول لبنان الى منصة اطلاق صواريخ.
    ويا حبذا لو تطلع علينا السيدة غادة بمقال وصول لبنان الى حالة الدمار الشامل وان تذكر لنا من هم هؤلاء الذين لا يرغبون في نهوض لبنان وما هي” اسباب” ذلك ومتى عرف السبب بطل العجب. تحياتي القلبية لك .

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية