الحكومات التي تتجاهل المطالب المشروعة، وتصم آذانها عن أصوات الناس وصرخات الشعوب، تفتح الباب لمزيد من الاحتجاجات، وتمهد طريق الإطاحة بها، لكونها أنظمة فاشلة ظنت أنها ستحكم إقطاعيات، ولن يزيحها من على كراسيها أحد، ولن يحمّلها أي كان أعباء فشلها في إدارة موارد الدولة، وإهدار ثرواتها، وعدم الاستفادة منها في تحسين أوضاع المواطنين، وإدراك أولوياتهم. ورغم الرسائل القوية التي بعث بها الشعب اللبناني كباقي شعوب المنطقة، أكثر من مرة إلى حكام البلد، ومن يديرون شؤونه، فإن هؤلاء فضّلوا منطق حكم مخالف لإرادة الأغلبية، وغيبوا التشاركية المواطنية في إدارة شؤون الدولة ورعاية أحوال الشعب، ولم يخطوا خطوة واحدة في توفير فرص عمل، تُحِد من حجم البطالة وتُقلِص أعباء المحرومين، ولم يكافحوا الفقر، ولم يوفروا خدمات مرضية على غرار، التعليم الجيد والرعاية الصحية والكهرباء والاتصالات، والحد من الضرائب وخفض الأسعار والتقليل من التفاوت الاجتماعي، وإيقاف سياسة محاباة قلة من الأثرياء وتهميش معظم فئات الشعب.
ومع تزايد المخاطر الاقتصادية والمالية، أصبح البلد أقرب ما يكون لفترة الثمانينيات التي شهدت دمارا مروعا في الحرب الأهلية، وما تلاها في مرحلة التسعينيات، حين انهارت العملة الوطنية إلى 3000 ليرة أمام الدولار، وخسر معظم اللبنانيين ودائعهم وتعويضاتهم، وتدهورت قدراتهم الشرائية بفعل التضخم. ولولا المأساة الإنسانية التي وقعت في المرفأ، لكان من الصعب أن تحصل الحكومة على دعم خارجي، خاصة من أوروبا التي تجدد مطالبة المسؤولين في هذا البلد بتحقيق إصلاحات اقتصادية وإدارية، ومواجهة معضلة الفساد.
أما الدول الإقليمية فهي منخرطة في سياسة المحاور، وماضية في الصراع السني الشيعي، والاستقطاب الطائفي الذي أضر بلبنان، ومنع التعامل معه كدولة متجانسة عابرة للطوائف، فدول الخليج وبالتحديد الإمارات والعربية السعودية تسعيان لتقويض نفوذ «حزب الله» وليستا مستعدتين لتقديم دعم مالي، وقد هللتا للعقوبات الاقتصادية الأمريكية الأوروبية ضد سوريا ولبنان.
أما ايران فهي الأخرى في حصار خانق وعقوبات مجحفة، ودعمها للمقاومة أصبح محدودا، بواقعية أوضاعها المحلية والمعطيات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. والفوضى في سوريا تمثل نزيفا بالنسبة لإيران وهو ما تريده واشنطن، وبالتالي هدفها هو إبقاء هذا البلد مشتعلا.
الفساد السياسي ليس قدر اللبنانيين، ولا يمكن أن يكون أمرا محتوما، وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية، كان له تأثير مهم في الأزمة المالية والاقتصادية التي تُختصَر أسبابها الجوهرية في الفساد السياسي والإداري، على نحو تسيير البلد، وفق عقلية تقسيم النفوذ بذهنية طائفية ومذهبية ضيقة، لا تعير اهتماما لمصالح الشعب وأولويات الدولة في شتى المجالات. وكالعادة يوصلون الأمور إلى حافة الهاوية، ويراكمون أعباء الديْن العام، وجراء سوء الإدارة توشك خزينة الدولة على الإفلاس، ولا يجدون من حل سوى إثقال كاهل المواطنين بالضرائب، والحديث عن إنعاش الميزانية بمزيد من الديون الخارجية، تحت ستار القروض الميسرة وانتظار الهبات.
ويعتقد بعض السياسيين اللبنانيين أن الاستقالات السريعة أو الخطب الرنانة، صك براءة أمام الرأي العام والجماهير الغاضبة
يحدث كل ذلك نتيجة إهدار المال العام لسنوات متتالية، وفي كل مرة يسوء أداء السلطة السياسية، ويتراكم الفساد، ولا حل لأزمة القمامة أو الكهرباء والاتصالات أو غيرها. ومن الطبيعي أن تحدث الانتفاضة في وجه السياسات المجحفة والفساد الإداري، عندما لا تستجيب السلطات اللبنانية لمطالب الشعب. والجميع أمام منعطف تاريخي بفعل الأزمة الاقتصادية الحالية، التي بلغت مرحلة أكثر حرجا من أي وقت مضى، خاصة إثر انفجار مرفأ بيروت، والدمار الذي خلفته هذه المأساة التي وضعت مؤسسات الدولة واقتصادها الوطني ونظامها السياسي على المحك. والأسباب نفسها التي أسقطت حكومة عمر كرامي عام 1992 ليتولى رفيق الحريري السلطة التنفيذية، التي تعززت صلاحياتها، إثر اتفاق الطائف تتكرر اليوم، والمطالب ذاتها يصدح بها المحتجون الراغبون في إنهاء عقود طويلة من الفساد السياسي، الذي دمّر اقتصاد البلد وراح ضحيته المواطن. ولم ينتعش فيه سوى قلة من الأثرياء والساسة الانتهازيين، من الذين فضلوا مصالحهم الضيقة والفئوية بعناوينها الطائفية والأهلية على حساب الصالح العام.
أربع نقاط أساسية جدّد صندوق النقد الدولي مطالبة السلطات اللبنانية بها، إثر مؤتمر المانحين لدعم لبنان، وهي عبارة عن إصلاحات رئيسية تتمثل في، استعادة الملاءة المالية العامة وسلامة النظام المالي، عبر تجنيب أجيال اللبنانيين الحالية والمستقبلية ديونا أكثر مما يستطيعون سداده. ووضع ضمانات مؤقتة لتلافي استمرار تدفقات رأس المال الخارجية، التي من شأنها تقويض النظام المالي بشكل أكبر، في الوقت الذي تترسخ فيه الإصلاحات، وخطوات لتقليل الخسائر التي طال أمدها في العديد من الشركات المملوكة للدولة، وإنشاء شبكة أمان اجتماعي موسعة، لحماية الأشخاص الأكثر ضعفا. وأشارت مديرة صندوق النقد كريستالينا غورغييفا إلى أن لبنان يعاني «من نقص الإرادة السياسية» لاعتماد وتنفيذ إصلاحات ذات مغزى كان الشعب يدعو إليها. والبلد يحتاج إلى وحدة الهدف، وأن تتحد جميع المؤسسات لتنفيذ الإصلاحات التي تشتد الحاجة إليها. وانفجار بيروت يأتي في وقت عصيب يعاني فيه لبنان، كما أغلب دول المنطقة، من تحديات اقتصادية واجتماعية عميقة، تفاقمت بفعل الوباء. وهذه هي اللحظة التي يجب أن يتكاتف فيها صناع القرار اللبنانيون ويتصدوا للأزمة، على أن يزيحوا الفاسدين من دائرة الفعل السياسي والإداري. وهناك آمال كبيرة حول مؤتمر المانحين الذي سيقدم على إثره دعم طارئ للبنان، بدون شروط وسيكون هدفه إصلاح الدمار الذي تسبب به الانفجار، وستمنح مساعدات أخرى طويلة الأمد لدعم الانتعاش الاقتصادي، إلا أنها ستكون مشروطة بتطبيق إصلاحات، وهي المهمة الصعبة التي عبّر عنها حسان دياب، إثر تقديم استقالة حكومته، متهما الدولة العميقة بتعطيل العمل الوطني، ومعتبرا أن «منظومة الفساد أكبر من الدولة المرتبكة» وجدار الفساد السميك سبب ما وصلت إليه البلاد من أوضاع متأزمة. ويبدو أن مؤتمر المانحين لم يكن بالسخاء المتوقع، وهناك من يرى أنه سيكون مدخلا لمزيد من الوصاية الدولية على لبنان، اتضحت ملامحها إثر زيارة ماكرون الحماسية وحديثه عن صياغة ميثاق لبناني جديد، وتوعده بالعودة مجددا للوقوف على ما تم تطبيقه من شروط كان هو من أبرز المشددين عليها، بما يشير إلى إمكانية فرض عقوبات على شخصيات سياسية لبنانية بمختلف انتماءاتها، تشمل أساسا عدم إصدار تأشيرات وحجز أموال في الخارج .
دخول الدولة مرحلة سياسية جديدة مرفوقة بسخط شعبي متراكم، يزيد من تحديات الخروج من الأزمة ومأزق الفساد الإداري الموروث، ففي بيروت المتضررة من انفجار المرفأ، يتظاهر اللبنانيون ضد الفساد، وفشل الحكومات المتعاقبة في إدارة الأزمة التي تمر بها البلاد، وعجزهم عن إبعاد شبح الإفلاس ومراكمة الديون الخارجية، وفرض سياسات الجباية المجحفة بحق المواطنين، الذين يعيشون أوضاعا اجتماعية صعبة، ناهيك من السيطرة على القطاع العام، عبر التوظيفات السياسية، وفق محاصصات حزبية ومناطقية، فهؤلاء اختلسوا الأموال العامة وعقدوا الصفقات المشبوهة بالتراضي، وهم الآن يتبادلون تهم السرقة والاختلاس، وكل منهم يحاول الخروج من دائرة استهدافه بتهم الفساد والمساهمة في تدمير البلد. ويعتقد بعضهم أن الاستقالات السريعة أو الخطب الرنانة هي صك براءة أمام الرأي العام والجماهير الغاضبة. ويجب أن تطال المحاسبة كل من أجرم في حق البلاد والعباد، ومن الممكن توفير هيئات مستقلة عن تأثير الأحزاب لمكافحة الفساد ومحاسبة مقترفيه. وهي الخطوة الحاسمة في معركة الشعب والدولة ضد الفساد والفاسدين، دفعا نحو تطوير ذهنية العمل السياسي، وجعله خاضعا للرقابة، ومشروطا بالكفاءة والمسؤولية والروح الوطنية، وبعيدا عن الولاء والمحاصصة وأشكال الاستعلاء على القانون، وإحلال الهويات والوساطة.
كاتب تونسي