فجأة انقطع سيل الناس الذين تدفقوا إلى ساحات المدن اللبنانية رافعين شعارات الثورة والتغيير. غرقت المدينة في الصمت، واحتل الخوف شوارعها الفارغة.
تلاشت الهتافات في الحناجر، ولم يبقَ من أمس سوى ذاكرة غامضة تقاوم الصور والأخبار التي تبثّها وسائل الإعلام والتواصل، كي لا تندثر.
بيروت تجد نفسها مشلولة وخائفة، وثورتها التي انطلقت في 17 تشرين الأول/أكتوبر مؤجلة، حتى التمردات وتحدّي كورونا في الشوارع تلاشيا بالتدريج أمام شبح الوباء.
تروي إحدى حكايات «ألف ليلة وليلة» عن حاكم كان يتباهى بأن الطاعون اختفى في عهده، فأجابه أحد الذين كانوا في مجلسه بأن «الله أكثر رحمة من أن يسلّطك علينا أنت والطاعون».
هذه الحكاية التي استعادها الأنثروبولوجي اللبناني غسان حاج في صفحته في «فيسبوك» تقدّم تلخيصاً مكثفاً لما يعيشه اللبنانيون في هذه الأيام، إذ عليهم أن يواجهوا فيروس كورونا وطبقة حاكمة أوصلت البلد إلى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي بسبب سياساتها الرأسمالية المتوحشة القائمة على مزيج من الجشع والفساد.
قد تكون الحكاية العربية القديمة تعبيراً عن واقع تعيشه «رأسمالية الكوارث» في العالم، حسب تعبير الكاتبة الكندية نعومي كلاين. فعقيدة «الصدمة» ربما تكون أحد العوامل الأساسية للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، وأداة من أجل ترسيخ الرأسمالية.
من السابق لأوانه قراءة الأثر الفكري والسياسي الذي سيتركه الوباء على العالم، ففيروس كوفيد 19 وضع العالم بأسره على حافة هاوية لا نزال عاجزين عن سبر عمقها، والتنبؤ بحجم الكوارث البشرية والاقتصادية التي ستخلّفها. هل سيجد العالم نفسه أمام امتحان إعادة نظر جذرية في القيم الرأسمالية وعبادة السوق واستباحة الطبيعة؟ أم سيكون الوباء كاهناً جديداً في معبد القيم الرأسمالية المسيطرة؟
ما هو جليّ بالنسبة إلى إنسان مثلي يعيش في بيروت وشهد مآسي المشرق العربي خلال نصف قرن، هو أن ما نطلق عليه اسم رأسمالية الكوارث هو الصفة الملائمة لوصف حالتنا.
فبعد حرب لبنان الأهلية المدمرة (1975-1990) كان علينا أن نعيش في ظل كابوس الاحتلال الإسرائيلي الذي انتهى في سنة 2000 بعد مقاومة شعبية ومسلحة طويلة، ليعود ويطلّ برأسه من جديد في حرب تموز/ يوليو 2006. كما كان علينا أن نتحمّل أوزار القمع الذي فرضه علينا نظام الوصاية السورية الذي انتهى بعد انتفاضة شعبية كبرى في سنة 2005، من دون أن تنتهي الآثار السياسية التي صنعها.
بين كابوس الاحتلال وتسلّط القمع، أعيد تأسيس النظام السياسي والاقتصادي اللبناني على ركيزتين:
ركيزة طائفية جعلت من أمراء الحرب حكاماً للبنان، فجاءوا إلى السلطة بممارسات أطاحت بما تبقّى من القيم الأخلاقية، وحوّلت النهب العلني لموارد الدولة إلى ممارسة يومية.
وركيزة اقتصادية جعلت الاقتصاد الريعي مهيمناً بشكل مطلق، وكانت الأداة هي تحالف المصرفيين وكبار التجار ومقاولي العقارات مع أمراء السياسة. فامتزجت الفئتان بحيث صار التمييز بين مصالحهما بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً.
لقد أوصلنا نظام الفساد إلى الحضيض: تلوث الأنهار والشواطئ، وغياب الخدمات من ماء وكهرباء، وزيادة معدلات الفقر، ونزوع كبير إلى الهجرة.
لم تكن ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 سوى الجواب الحتمي على انهيار الدولة وخطر تفكك المجتمع. إنها المرة الأولى في تاريخ لبنان التي سقطت فيها الحواجز الطائفية والمناطقية، وبرز الدور القيادي للشباب والنساء، في انتفاضة سلمية كان هدفها الأول تأكيد وحدة الشعب في مواجهة آلة التفكك التي صنعتها الطبقة المسيطرة.
وسط مخاض الثورة وفي نهاية شهرها الخامس، انفجر فيروس كوفيد 19 كأنه خشبة خلاص للسلطة، وإعلان قدريّ بنهاية الثورة!
هكذا وجد الناس في لبنان أنفسهم أمام نظام طبي رأسمالي لا يمتلك إمكانات مواجهة الوباء، وفي ظل ما يشبه منع التجول من دون أن يقدَّم الحد الأدنى المادي للفقراء الذين يشكلون اليوم نحو 50٪ من اللبنانيين، ووسط كارثة محتملة في الأحياء الشعبية وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
هل سيحجب تسلّط الوباء استبداد السلطة ويدمر احتمالات التغيير في لبنان؟
الراوي في الحكايات القديمة لم يطرح هذا السؤال؛ وبالتالي ليس لديه إجابة عليه، أمّا نحن الذين نواجه الوباءَين معاً فنعلم أن الدفاع عن البقاء يعني أن تجذير الثورة وذهابها إلى إسقاط نظام رأسمالية الكوارث هو الأفق.
الأخطر على لبنان من وباء كورونا هو وباء الفساد المزمن! سيأتي يوم ويرحل كورونا, لكن الفساد لن يرحل!! ولا حول ولا قوة الا بالله
لبنان هو المثل المصغر للعالم العربي باكمله. كلن يعني كلن
انت رائع في كتاباتك اخي الياس، وهذه قمة الوصف، اشاطرك بكل جوارحي، لعل انتصار الثورة هو الأفق ما بعد فيروس كورونا. سلمت الله يطول بعمرك