لأسابيع طويلة، ثُبِّتَت العينُ المحليّة اللبنانية مليّاً على ساعة الإستحقاق الرئاسي الأمريكي، وانتشر ما يشبه التعويل أو التسويف أو العزاء، بأن الحكومة العتيدة التي لم يعد يدري أحد كيف تؤلّف بعيد إحباط المبادرة الفرنسية، يمكن أن تجد طريقها الى تيسير أمرها في إثر معرفة الرابح من الخاسر في واشنطن. حتى إذا وصلنا إلى اللحظة المأمولة، وأذيعت بعدها النتائج قيل ننتظر التسلّم والتسليم بين دونالد ترامب وجو بايدن، ثم نرى.
يعيش البلد المنكوب إقتصادياً شهرا في اثر شهر في لحظة مكابدة متمددة. هي لحظة تعثّر المبادرة الفرنسية، وعدم وجود أي مبادرة في الأفق من بعدها، بل اشتداد ضغط سكة العقوبات الأمريكية. لقد ابتغت هذه المبادرة التي عكف ايمانويل ماكرون على الترويج لها بشخصه، من خلال زيارتين له إلى بيروت بعد تفجير 4 آب / أغسطس، لإبعاد القوى السياسية الممثلة في البرلمان عن الحكومة، والإتيان بمن يحوزون على دعم من باريس ويحظون بالارتياح والاستئناس لهم من طرف مؤسسات الإقراض الدولية. لم يستطع السفير مصطفى أديب التقدم حتى بمقترح لتشكيلة حكومية فرحل بهدوء، ولم يعد اكثر الناس يتذكرون اسمه. ثم لم يفلح الرئيس سعد الحريري هو الآخر في تشكيلها، لكنه مكث في طلبها، أو بالأحرى مكث في رئاستها دون إضاعة الوقت في تشكيلها، ما دام تشكيلها ممتنعا واقعياً.
ويظهر الحريري بالتالي أكثر فأكثر على انه الرئيس المكلّف بعدم التشكيل، في مقابل حسان دياب، رئيس الحكومة المستقيلة في اثر انفجار 4 آب الكيميائي والذي يزاول تصريف الأعمال من يومها ولا يمكن التكهن إلى متى.
زد على أن الدستور لا ينبس ببنت شفة حول أمد التشكيل، ولا يعطي لأحد، لا لرئيس الجمهورية ولا البرلمان حق استرداد التكليف ما لم يعتذر المكلّف، ومصلحة الحريري هنا أن يحجز هذا التكليف في جيبه حتى إشعار آخر، وأن لا يفرّط في اللقب الذي سُحِبَ منه لأقل من عام، بعيد استقالة حكومته السابقة، تحت ضغط الجماهير المنتفضة خريف العام الماضي.
تجعل العقوبات الأمريكية من الصعب للغاية بالنسبة لمن لم تشملهم هذه العقوبات ان يتشاركوا في حكومة واحدة مع المشمولين بها، فذلك سيعرّضهم لأن تشملهم عقوبات قانون ماغنيتسكي هم أيضاً، ويبدو أن قانون ماغنيتسكي هذا هو الشكل التطبيقي الوحيد للشعار الذي رفعه الناشطون المدنيون منذ سنوات عديدة في لبنان «كلن يعني كلن». كما لو ان تطبيقات قانون ماغنيتسكي هي روزنامة لتنفيذ هذا الشعار.
وما بين أحابيل التدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي، وما اذا كان الإسناد الغربي المعطى للحاكم رياض سلامة سيسحب بالفعل أم ليس بعد وما تكون تداعيات ذلك، وما بين العراقيل التي تحول دون اجلاء الحقيقة حول ما حصل في 4 آب / أغسطس، يوم تفجير المرفأ وأحياء بأسرها من العاصمة بيروت، يعيش البلد خيبتين حادتين.
الأولى هي الخيبة من أن زلزالا شعبيا بقوة 17 تشرين / أكتوبر، هذا الحدث الانتفاضي الاستثنائي في تاريخ لبنان، جرت محاصرته سريعاً من قبل نظام يتباهى بأنه ليس بنظام حكم، لكنه في واقع الحال نظام تأبيد أسباب الكارثة الاقتصادية والإنسداد السياسي. والثانية، الخيبة من أنه حتى العدوان الكيماوي الكابوسي على بيروت هذا الصيف لم يتمكن هو الآخر من الدفع قدماً بـ«تثوير الأوضاع» بأي شكل كان.
ارتبطت تلك الوقائع الإنتفاضية العارمة بوقائع الانهيار المالي والاقتصادي، وبقي الانهيار هو الواقعة الأساسية التي توجب القومة الشعبية وتحصر في نفس الوقت ما يمكن لهذه القومة أن تقوم به
بنتيجة الخيبتين، كان احياء الذكرى السنوية للانتفاضة التشرينية خجولاً ومكابراً في آن. أقرب إلى رتابة احياء ذكرى رسمية في نظام معزول شعبيا منها إلى احياء ذكرى قومة شعبية كبرى. لقد ارتبطت تلك الوقائع الإنتفاضية العارمة بوقائع الانهيار المالي والاقتصادي، وبقي الانهيار هو الواقعة الأساسية التي توجب القومة الشعبية وتحصر في نفس الوقت ما يمكن لهذه القومة أن تقوم به. خطابية «الثورة» جنحت في المقابل لتبديل هذه العلاقة، كما لو أنها هي الجوهر، والانهيار هو العرض، أو أن ما ينهار هو النظام وليس ودائع الناس في المصارف، وشروط عيشهم بل أودهم. في وضع كهذا، وعندما يؤثر المرء خطابية الثورة السياسية، الحريصة على أن لا تكون في نفس الوقت ثورة اجتماعية، لن يقترب لا من هذه ولا من تلك. بعد عام على الانتفاضة، وبدلا من طرق باب هذا النوع من الإشكاليات، وضع الشباب الذي شارك بها امام ابتزاز الاختيار بين أحد خطابين: اما الانصراف للاحباط وتنهداته، واما المكابرة على الذات وعلى الواقع.
ثم جاء موسم الانتخابات الطلابية في الجامعات الخاصة كما في كل عام. النتائج التي حققها «النادي العلماني» في الجامعة الأمريكية جرى الهروع اليها كما لو أنها بارقة أمل بأن هناك رمقا من 17 تشرين لم ينطفئ بعد. جرت المبالغة في المقابل بتوهم إمكانية مد هذه النتائج الجامعية على الجسم اللبناني ككل في حال حدوث انتخابات مبكرة، من دون الإجابة على سؤال من أين نأتي بنادي علماني على امتداد البلد ككل، أسوة بجامعة.
والجامعات الخاصة في لبنان هي دليل على تمييز طبقي الى حد كبير، لا شك، لكن بعضها هو في نفس الوقت، ورغم طابعه كإرسالية دينية في الأساس، من الفضاءات المختلطة طائفياً القليلة في هذا البلد. لا يمكن اعتماد انتخابات جامعية كمؤشر قائم بذاته للانتخابات النيابية، لكن لا يمكن اعتبارها بلا دلالات تتجاوز اطار الجامعة نفسها. واذا كانت الجامعات الخاصة لطلاب البرجوازية والشرائح الأكثر رخاء من البرجوازية الصغيرة، فالانتخابات النيابية هي أساسا انتخابات للأوليغارشية وكبار الملاكين العقاريين. طلاب «الخاصة» أقرب اذا لبيئة المرشحين في الانتخابات النيابية، فيما طلاب الجامعة العمومية أقرب لبيئة الناخبين فيها. كل هذا اذا كان من الممكن ارتشافه استمزاجا لا أكثر. ومع الاستدراك بأن لا انتخابات مبكرة في الأفق، بل ان انتخابات تحدث في موعدها عام 2022 ليست بمضمونة، علما أنه الموعد المضروب أيضا للانتخابات البلدية المقبلة قبلها مباشرة، ولانتخابات رئاسة الجمهورية بعدها.
المختلف مع انتخابات الجامعات الخاصة هذا العام ان الحلقة التي نالت تسييسا أكبر كانت انتخابات الجامعة اليسوعية، في حين المعتاد ان يكون النصيب الأوفر من التسييس للأمريكية. في انتخابات اليسوعية، تكرر فوز القوة العلمانية – اليسارية – الليبرالية على نطاق اوسع مما حصل في الأمريكية، وبشكل مختلف عن السنوات المنصرمة. قوبل هذا بصدمة في الحزبيات اليمينية التي لجأت الى الطائفية النافرة عشية الانتخابات فلم تسعفها، وكثيرا ما يلزم الطائفية كي تكون أكثر فعالية ان لا تجيء نافرة. يجنح اليساريون لتصوير الطائفية بشكل كاريكاتوري، كما لو أنها استثارة للغرائز، وهي في أقل الإيمان اكثر تركيبا، لكن هذا الرهط من اليمين كثيرا ما يؤثر المطابقة الفعلية لهذه الصورة الكاريكاتورية عن نفسه. يجنح المدنيون لتصوير الانتخابات الطلابية ونتائجها كما لو أنها مختبر للانتخابات النيابية، وفي هذا مبالغة، وفي المقابل يتعامل اليمينيون مع الانتخابات الطلابية على أنها تمهيدية للانتخابات الرئاسية، اي ابتداء، لمعرفة من هو الأكثر تمثيلية بين المسيحيين. لأجل هذا لم يرض الخاسر اليميني بالنتيجة، وواصل حملته على الفائزين بعدها، فهذا يعتبر الرابح اليساري عازما على توطين الفلسطينين، وذاك يتهمه بأنه حصان طروادة لحزب الله، مع ان المناخ اليساري الرابح أقرب ما يكون لخط مناهضة الممانعة. في نهاية الامر، يمين 14 آذار يريد أن يحب اليساريين وهم يواجهون حزب الله في المناطق الشيعية، لا أن ينافس طلابا يساريون زملاءهم اليمينيين في الجامعة نفسها، في انتخابات طلابية. وهذا بعض من شيء يفسر لماذا يبني «حزب الله» سياسات تحالفية صعبة لكن ناجحة، في حين باتت احزاب 14 آذار كلها غير قادرة على الكلام حتى مع بعضها البعض، مع امتياز تحسب القوات اللبنانية أنه سيؤهلها لدور أكبر، إذ تبني على أنها الطرف الوحيد الذي لن يشمله قانون ماغنيتسكي بالنتيجة. لكن ما الأفق أمام من يعزل نفسه بنفسه، ومن يعول على عزل كل الآخرين؟ لا أفق. هنا نتائج الانتخابات الطلابية مؤشر: قد لا يكون هناك أفق في أمد منظور لقيام تحالف ديمقراطي شامل يطيح بالنظام الأوليغارشي بالانتفاض او بالانتخاب، لكن، لا أفق لأي جماعة من جماعات هذا النظام لأن تتحول مجددا الى «قوة صاعدة». هناك تفاوت في الهبوط، نعم، لا في الصعود.
كاتب لبناني