في أغسطس/ آب 2006 أقر مجلس الأمن الدولي القرار 1701، والهدف منه وضع نهاية لحرب عام 2006 بين إسرائيل ولبنان. وكان بنده الأساسي وقف الأعمال القتالية من قبل إسرائيل، وانسحابها من الأراضي اللبنانية، ووقف هجمات حزب الله ضد إسرائيل. كما تقوم الحكومة اللبنانية بنشر الجيش في الجنوب، بالتعاون مع القوات الدولية (اليونيفل). وكذلك إيجاد منطقة عازلة تكون خالية من العتاد الحربي والمسلحين بين ما يُعرف بالخط الأزرق، الذي وضعته الأمم المتحدة في عام 2000، ونهر الليطاني، باستثناء ما يتعلق بالقوات المسلحة اللبنانية واليونيفل.
اليوم يواجه القرار 1701 مجموعة من التعثرات والتحديات المرتبطة بتعقيدات الساحة اللبنانية، خاصة بين حكومة نجيب ميقاتي ومن تبقى من حزب الله، وأيضا التداعيات الأخرى للحرب المفتوحة. أولها أن هناك محاولة سياسية لاستبدال حزب الله، الذي تراجعت قدراته القتالية، بالجيش اللبناني المأمول أن تزداد قدراته القتالية، ليصبح عبارة عن خط أمان على الحدود بين إسرائيل ولبنان. ثانيا، تعوّل بعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا على أن يتطور الجيش اللبناني، لكن الولايات المتحدة لا تنظر بهذا المنظور الاستراتيجي نفسه. ثالثا، يمر لبنان بمرحلة استنزاف سياسي وعسكري، لذلك من الصعب الحديث عن توسيع قدرات الجيش.
نتنياهو لا يريد أن يُسعف المجتمع الدولي في هذه المرحلة، بأن يُقدّموا حلولا وتصورات ومقترحات، تنتقل من نيويورك وتجد فعلا الأرضية المناسبة لها في منطقة الشرق الأوسط
إذن الإشكالية هنا هي أن مجلس الأمن الذي أصدر القرار 1701 هو يتبنى فقط مفهوم السيادة لدى الدول، بينما لبنان لا تحكمه السيادة، بقدر ما أن هناك تشابكا بين ما يسمى مقاومة، وحكومة مركزية هي حكومة تصريف أعمال. وعليه لا توجد عوامل بنيوية كافية، ولا عوامل لوجستية كافية، تجعلنا نعتقد بأن هناك جيشا لبنانيا سيقوم بما تفرضه الآمال المعلقة عليه في هذه المرحلة. أما ما يتعلق بالولايات المتحدة، فلا يوجد خلاف من حيث التصور العام لهذا القرار، بحكم أنه لم يواجه الفيتو، من أي من الدول الخمس في مجلس الأمن. لكن إذا طرحنا الموضوع بصيغة المقارنة، بين ما هي العواصم التي تتمسك بإنجاح هذا القرار وتدعمه بموارد وأموال وبمساعدات وبضغط سياسي، نجد ان الإليزيه هو أكثر من يدفع بهذا الاتجاه، على اعتبار خصوصية العلاقة بين فرنسا ولبنان، لكن في المقابل لا نجد الحماس نفسه، أو الدعم نفسه من البيت الأبيض، حتى إن بلينكن وزير الخارجية الأمريكية، تغيّب عن المؤتمر الأخير الخاص بدعم لبنان وكأّن لبنان ليس من الأولويات، حيث إن البعض في واشنطن بات يتحدث، وعن قناعة بأن زمن المقاومة الفلسطينية ينتهي، وأن زمن المقاومة اللبنانية ينتهي، أو يتضاءل. بالتالي هناك ترجيح لاحتمال أن يضطر من تبقى من قادة حزب الله للانتقال إلى العراق أو إلى سوريا. هكذا هي المعتقدات في واشنطن اليوم.
إذن القراءة لدى الولايات المتحدة هي أن الساحة اللبنانية ليست بتلك الأهمية التي نراها الآن، وفقا لما يسعى اليه قصر الإليزيه في هذه المرحلة، في الوقت نفسه لا نجد أن هناك صيغة سياسية تربط الحلين، حل غزة وحل لبنان. إذن نحن أمام شيء صغير من اللغز اللبناني، وهو تطوير قدرات الجيش اللبناني، الذي حتى لو افترضنا أن هناك إمكانيات ومساعدات خارجية تساعد في هذا الاتجاه، هل سيسمح نتنياهو بأن يقوم هذا الجيش بمهامه؟ وعليه ما دام الصراع قائما، وما دامت الجبهة الشمالية مفتوحة بين إسرائيل ولبنان، يصبح من غير الواقعية التحدث عن طفرة قوية في واقع الجيش اللبناني إلى ما هو متخيل، إلى المستوى البعيد.
لكن هل يمكن القول إن الرؤية الأمريكية لتطبيق القرار 1701 تتطابق مع الرؤية الإسرائيلية؟ في الحقيقة أن القرار المذكور دعمته وأيدته الولايات المتحدة، وبقية القوى من منطلق ما هو متخيل من الناحية المثالية، أي من ناحية النموذج الأفضل وما يمكن أن نعتد به بعامل الاستقرار، الذي يكون فيه الجيش اللبناني من أدوات تحقيقه. لكن ما لم ينتبه ولا ينتبه إليه أحد الآن، أن هذا القرار يواجه معضلات ميدانية ومعضلات بنيوية ومالية داخل الحكومة اللبنانية. كما أن الاعتقاد بإمكانية الانتهاء من حزب الله وطوي صفحته، وتعبيد الطريق أمام الجيش اللبناني هو ضرب من الوهم، بل هو نوع من الهرولة واستعجال غير عملي ولا منطقي. من ناحية أخرى حتى لو كان القرار ينحو منحى محاولة البحث عن استقرار، فهل فيه ما يكفي من الضغط والاحتواء لخطط نتنياهو في هذه المرحلة؟ خاصة أن نتنياهو يريد أن يفتح أكثر من جبهة، ربما مع الحوثيين وأخرى مع الجماعات المسلحة العراقية، أو في سوريا، إضافة الى غزة ولبنان. هذا المجرم لا يريد أن يُسعف المجتمع الدولي في هذه المرحلة، بأن يُقدّموا حلولا وتصورات ومقترحات، تنتقل من نيويورك وتجد فعلا الأرضية المناسبة لها في منطقة الشرق الأوسط. إذن نحن فقط أمام إدارة عن بُعد، وليس الانفتاح على تعقيدات المشهد الحقيقي داخل لبنان، وأيضا على الجبهة الشمالية بين إسرائيل ولبنان.
إن نجاح الجيش اللبناني في مهمته سواء حاليا، أو مستقبلا، معقدة جدا، فداخل لبنان وفي الإقليم بين لبنان وإسرائيل، وفي ضوء الاعتبارات الإقليمية الأوسع إيران، وكل الفواعل من غير الدول، كل هذه التركيبة تضعنا أمام التحدي الأساس الكائن في هذه الأسئلة. هل من السهل تغيير ميزان القوى داخل لبنان، وأن يصبح الجيش اللبناني متفوقا في دوره على ما كان أو ما يزال بالنسبة لحزب الله؟ ولو تغلبنا على هذا السؤال الأول، هل يمكن أن نتحكم في السؤال الثاني، وهو ما يفعله نتنياهو من ناحية، وما سيلتزم به الجيش اللبناني من ناحية أخرى، باسم الحكومة اللبنانية وباسم السيادة اللبنانية، التي تغازلها إرادة مجلس الأمن في القرار 1701؟ ثم إن هناك سؤالا ثالثا وهو، متى يمكن أن نستبشر خيرا بأن هناك ميزان قوى في كل الإقليم يمكن أن ينعكس إيجابا على الاستقرار في الجبهة الشمالية، وأيضا في بيروت؟ ما لم تتحقق الأجوبة على هذه الأسئلة المُلحة لا يمكن أن نرى كيف يمكن بلمسة سحرية أن نضع الجيش اللبناني في تلك المؤسسة النظامية العريقة بتجاربها، والقادرة ميدانيا على تحمل المسؤولية التي يتخيلها ماكرون وبقية أعضاء مجلس الأمن.
في الحقيقة أن هناك سوء ترجمة للنوايا السياسية بين ما مطروح في نقاشات مجلس الأمن، وما هي حقيقة التحديات الميدانية. فالمسألة معقدة بأكثر من ضلع، منها الضلع المتبقي في حكومة نجيب ميقاتي، وضلع حزب الله، وضلع إسرائيل، وضلع إيران، والأضلاع الأخرى التي لا نراها، ولكنها تؤثر ضمنيا منها، الضغط الإماراتي والدور الخليجي. وإذا جمعنا هذه التعقيدات كلها لا نرى أن الطريق معبد، بحيث يمكن أن نقول، لنضخ الأموال حتى يصبح الجيش اللبناني سيد الموقف.
*كاتب عراقي