لبنـان بـلا لبنـان
محمد خليفةلبنـان بـلا لبنـان لا يوجد بلد في العالم تائه مثل لبنان، فهو بلد التناقضات، والناس فيه قد يدخلون في حرب أهلية شاملة لأتفه الأسباب. ولكثرة ما فيه من زعامات روحية وزمنية يخيل للمرء أنه قارة بحجم المحيط الهاديء، مع أنه صغير، صغير لا يكاد يُري علي خريطة العالم. لكن لبنان الصغير هذا يختزن بين جنباته كل عقد الإنسانية، والسبب في ذلك هو النظام الطائفي البغيض القائم فيه. هذا النظام الذي بذرت بذرته الخبيثة أيدي الشرّ الفرنسية، فأنبت مجتمعاً مشوّهاً مقسوماً علي ذاته، بين المسلمين والمسيحيين من جهة، وبين المسيحيين فيما بينهم، وبين المسلمين فيما بينهم من جهة أخري. والمصيبة أن اللبنانيين المنقسمين علي ذاتهم مطالبون بالعيش المشترك في هذا المجتمع المقسوم. ومنذ استقلاله عام 1946، لم يستطع لبنان أن يثبت أنه دولة حقيقية جامعة لكل أبنائه، إذ سرعان ما ظهرت الانقسامات فيه حول شكل الدولة اللبنانية وخياراتها الوطنية الاستراتيجية. وكان قيام إسرائيل عام 1948 محور الانقسام الأول بين اللبنانيين. فقد نظر فريق منهم إلي إسرائيل علي أنها عدو خطير علي الأمة العربية الإسلامية، ودعا هذا الفريق إلي بناء جيش لبناني لمواجهة هذا العدو. في حين أن فريقاً آخر منهم نظر إلي إسرائيل علي أنها دولة صديقة للبنان، لأنها قامت علي أساس ديني، وهي بالتالي تشكّل نموذجاً للدولة الطائفية التي يرغب هذا الفريق إقامتها في لبنان. ولمعالجة هذا الإنقسام وفق مبدأ التعايش الطائفي، اختارت الحكومة اللبنانية الطائفية الانسحاب من الصراع العربي مع إسرائيل، فرفضت بناء جيش قوي، ورفعت شعار لبنان في ضعفه . لكن الانقسام بين اللبنانيين عاد من جديد إبان فترة المدّ القومي الناصري التي توّجت بالوحدة بين مصر وسوريا. فقد وقف فريق من اللبنانيين مع الخطّ القومي العربي ودعا إلي الدخول في الوحدة بين مصر وسوريا، بينما وقف فريق آخر ضد هذا الخط، فوقعت أحداث عام 1958 أثناء حكم الرئيس كميل شمعون الذي كان يتبني الخطّ المعادي للعروبة. لكن زعماء الطوائف عالجوا هذا الانقسام الذي كان سيؤدي إلي حرب أهلية من خلال رفع شعار لا غالب ولا مغلوب فعاد الهدوء إلي لبنان. لكن الشرخ تعمّق بين اللبنانيين وزاد من حدّة الأزمة. أن الدولة اللبنانية ظلّت تدار بعقلية الاقطاعات الطائفية، وفي ظل دولة كهذه تغيب التنمية وينتشر الفقر، ويصبح الزعيم الطائفي الإقطاعي هو ربّ الناس وهو ساقيهم من عطش، ومطعمهم من جوع. ووصلت الأزمة إلي أقصي مداها في بداية السبعينات من القرن الماضي، حيث ازداد التهميش لشرائح واسعة من الشعب اللبناني من قِبَل الدولة الطائفية، وجاء اغتيال معروف سعد ـ أحد الوطنيين في صيدا ـ عام 1975 ليفجّر حرباً أهلية بين اللبنانيين. واستغلّت إسرائيل هذه الحرب للسطو علي الأرض اللبنانية وللقضاء علي الكيان اللبناني بالكامل. فقامت عام 1978 بعملية عسكرية ضد لبنان ووصلت إلي نهر الليطاني. وفي عام 1982، قامت باجتياح أوسع ضد لبنان فوصلت إلي العاصمة بيروت، ولم ينفع شعار لبنان في ضعفه في صدّ هذا العدوان. لكن هذا الاجتياح فجّر المقاومة اللبنانية الشريفة التي بدأت تكبّد العدو خسائر فادحة، مما دفعه إلي الإنكفاء نحو الجنوب، حيث أقام فيه ما أسماه شريطاً أمنياً لحماية دولته. وفي الحقيقة إنه كان يخطط لابتلاع هذه المنطقة وإقامة مستوطنات صهيونية فيها. إلاّ أن المقاومة لم تمنحه الفرصة لتحقيق هذا الحلم، فقد استمر نشاطها ضده، حتي استطاعت عام 2000 دحره من معظم أرض الجنوب وحققت بذلك أول نصر عربي علي إسرائيل. وهذه المقاومة عادت من جديد، وانتصرت علي إسرائيل في عدوان صيف عام 2006. وبسبب هذه الانتصارات المبهرة، أصبحت هذه المقاومة العدو الأول للولايات المتحدة وللغرب الداعم لإسرائيل، وأيضاً لحلفاء الولايات المتحدة والغرب في لبنان الذين أعلنوا صراحة، أن إسرائيل ليست العدو لهم، بل القوي التحررية في لبنان. فيا للعجب، كيف يمكن لوطن فَقَدَ المفاهيم أن يدّعي أنه وطن مستقلّ، وكيف يمكن لوطن لا يجمع بين أبنائه أي رابط وطني أن يدّعي أنه وطن لكل مواطنيه ؟. إن المواطنية في لبنان هي مواطنية الطوائف، وكل من يتحدّث عن ديمقراطية في هذا البلد، إنما يتحدث عن أوهام. فالديمقراطية آخر شيء قد يتواجد في لبنان، وقد تكون هناك ديمقراطية لزعماء الطوائف أن يعلنوا ولاءهم لجهات خارجية وأن يقولوا ما يرونه مناسباً للحفاظ علي مكاسبهم في إقطاعاتهم الطائفية. أما الإنسان الذي ينتمي إلي هذا الوطن ـ لبنان ـ فهو حتماً مسلوب الإرادة والقرار. وكل الأمل في أن تستمر المقاومة في الاضطلاع بدورها التاريخي، فتكمل تحرير لبنان من الزعامات الطائفية بعد أن حررته من العدو الإسرائيلي، وتبني في لبنان دولة تكون لكلِّ مواطنيها من مسيحيين ومسلمين، وليس دولة لزعماء الطوائف فقط كما الآن.كاتب من الإمارات [email protected]://www.mohammedkhalifa.com8