د. عبدالوهاب الأفنديعندما كتبت على هذه الصفحات نهاية الشهر الماضي أحذر من الصوملة في مصر، علق كثير من الإخوة في تفاؤل يحسدون عليه بأن مصر أبعد ما تكون عن الصوملة. وها نحن نشهد في أحداث المقطم خلال اليومين الماضيين كل ملامح الحرب الأهلية وخطوط الاستقطاب المؤدية لها. ويبدو أن بعض قوى المعارضة تهدد صراحة وضمناً بتمزيق مصر ما لم تخضع حكومة الرئيس مرسي لإملاءاتها ومطالبها. وما ننصح به هو أن يخضع الإخوان لهذا الابتزاز حفاظاً على مصر واقتداءً بحكمة نبي الله سليمان عليه السلام حين اختبر صحة الأمومة للطفل المتنازع عليه باقتراح قسمته بين المرأتين.كما لا يخفى فإن الاستقطاب في الشارع المصري قد وصل حداً يشبه بدرجة كبيرة ما نراه في العراق ولبنان، وما شهدناه في السودان ومناطق أخرى، مع فارق هو أن الأمور في مصر أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً، مما يجعل الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات. وما يجب الانتباه له هنا هو أن الانقسامات السياسية لا تشترط وجود شروخ سابقة في المجتمع، لأن السياسة قد تصطنع هذه الشروخ اصطناعاً. فها نحن نشاهد البعض يصطنع هويات ‘قومية’ تدور حول بورسعيد أو المنصورة أو تلك الناحية أو تلك لخدمة أغراض زعامة لم تسعفه مؤهلات أخرى لها. وقد نسمع قريباً عن جمهورية المقطم ودويلة الجيزة وغير ذلك.ولعلها كانت مصادفة أنني التقيت قبل حوالي أسبوع شخصية صومالية تنتمي إلى عشيرة محمد فرح عيديد التي تسببت صراعاتها على السلطة في تمزيق الصومال، رغم أنه كان وما يزال أكثر بلدان العالم انسجاماً من ناحية التركيبة السكانية. فلعل الصومال البلد الوحيد في افريقيا، إن لم يكن العالم، الذي تجمع سكانه هوية عرقية واحدة ولغة واحدة ودين واحد ومذهب واحد. وقد اختار سياسيوه مع ذلك ابتكار تقسيمات على أساس العشائر، وهي تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان. بل إن الصراع الذي مزق الصومال تفجر داخل عشيرة واحدة، هي عشيرة الهاوية المهيمنة عدداً في منطقة مقديشو، وذلك بين الفخذ الذي يمثله عيديد وغريمه علي مهدي منافسه على الرئاسة. وقد فضل الرجلان تمزيق العشيرة والبلاد وتهديم مقديشو على التوافق. وقد سمعت من السياسي المخضرم وكان من أنصار علي مهدي- اعترافاً بالخطأ، وأيضاً تبريرات عرجاء لبعض الأخطاء، ولكن يكفي ما وقع من دمار دلالة على عدم وجود أي عذر.ما نشهده في الحالة المصرية ينذر بخطر كبير، ومن الواجب الإسراع بتلافي الكارثة قبل وقوعها، وقطع دابر الفتنة في مهدها. وفي حقيقة الأمر إن ما يحدث في مصر هو صراع زعامات، ولا علاقة له بخلاف عقائدي مزعوم بين ‘إسلاميين’ و’ليبراليين’، لأن المنهج الذي تتبعه حكومة مرسي لا يختلف في هذه الناحية عما ينادي به الخصوم. ولكن الصراع هو على السلطة ومكاسبها، وبسبب مخاوف بعض القوى السياسية من التهميش والانقراض إذا خلي بينها وبين الشعب الذي تفتقد السند وسطه. ولهذا فإن هذه الفئات تريد أن تخلق مجموعات سياسية على خلفية الفتن والثأرات والمشاحنات، ثم تركب هذه الموجة فيما بعد. فقد أصبح عندنا اليوم ثأرات الاتحادية وضحايا المقطم وموتورو المدينة الإعلامية ومظلومو بورسعيد، والقائمة تطول.ولعل البداية تكون بإنهاء ما يسمى بأنه انقسام بين الإسلاميين والليبراليين على أرضية الإجماع على الديمقراطية واحترام حكم القانون ومؤسسات الدولة. فلا يوجد خلاف حقيقي في هذه الأمور، بل هناك تجاذبات إجرائية حول كيفية تأكيد حماية هذه المبادئ دستورياً وتعزيز الضمانات المطلوبة لنزاهة الانتخابات، وهي أمور يسهل حسمها إذا صدقت النوايا.ويحضرني في هذا الأمر سجالان حول أبعاد هذا الاستقطاب ومخاطره دار كلاهما في عام 1985، وكنت طرفاً في كليهما. دار السجال الأول في السودان عقب سقوط نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري في أبريل من ذلك العام، وإنشاء حزب الجبهة الإسلامية كوعاء جديد للعمل الإسلامي خلفاً لتنظيم الإخوان المسلمين. وقد كان أول التحديات التي واجهت التنظيم الجديد هي الموقف من ‘التجمع الوطني لإنقاذ الوطن’، المظلة السياسية التي انضوت في إطارها كل الأحزاب والقوى المدنية التي شاركت في الثورة أو دعمتها. وكانت تهيمن على التجمع قوى يسارية تناصب الإسلاميين العداء، خاصة حركة الإخوان المسلمين بزعامة الشيخ الترابي، على خلفية دعم تلك الجماعة لنظام النميري. ولكن هذا لم يمنع قوى إسلامية، مثل جناح حركة الإخوان المسلمين بزعامة صادق عبدالله عبدالماجد، من الانضمام إلى التجمع.وقد دار الحوار داخل الجبهة الوليدة حول ما إذا كان من الأجدى الانضمام إلى التجمع، مع ما يتطلبه ذلك من تنازلات وتسويات، أو البقاء خارجه. وكان تعليق الشيخ الترابي وقتها، بعد أن استمع لكل الآراء هو أن مستقبل الحزب وحظه السياسي لن يتأثرا بالانضمام إلى التجمع أو البقاء خارجه، وإنما ينبغي تقييم الأمر على أساس مؤشرات أخرى. وكانت النتيجة أن بقيت الجبهة خارج التجمع، مما عزز الاستقطاب على الساحة السياسية السودانية. في نفس ذلك العام، أجرت مجلة ‘آرابيا’ التي كنت أتولى إدارة تحريرها مقابلة مع الشيخ الترابي (أجراها مراسل المجلة في الخرطوم وقتها الاستاذ نزار ضو النعيم)، أكد فيها الشيخ على مواقف الحركة المتشددة تجاه كل القوى السياسية الأخرى، وإصرارها على المضي قدماً في الدفاع عن برنامج الحد الأقصى. وقد كتبت وقتها تعليقاً بعنوان: ‘التكتيك لا يمكن أن يصبح استراتيجية’، حذرت فيها من التمادي في هذا الخط المتشدد، وقلت فيها إن السودان ليس إيران، وإن أي محاولات لفرض خط أحادي فيه سيؤدي إلى خنقه اقتصادياً وانهيار الدولة فيه. وعليه لا بد من توخي الاعتدال وتحري الإجماع والتدرج في كل الأمور.في نفس تلك الفترة، كنت طرفاً في حوار في نطاق أضيق مع بعض قيادات الإخوان في مصر، كان بعض شهوده الاخ الصديق حازم غراب وإخوة آخرين. وقد استمعت فيه وقتها من القيادات مخاوف من أن تتعرض مصر للخنق والاستهداف إذا تولى الإخوان الحكم فيها (وهو بالمناسبة نفس ما كرره المرشد العام الحالي الدكتور محمد بديع، الذي برر رفض الجماعة في أول الأمر تقديم مرشح للرئاسة بأنه لا يريد أن تواجه مصر محنة غزة). وكان ردي وقتها أن اقترحت على القيادة اتباع النموذج التركي (قبل أن يكون هناك نموذج تركي)، وذلك باتخاذ خط وفاقي معتدل تجاه القوى السياسية في مصر وواقعها الاجتماعي والتزاماتها الدولية. وهذا هو بالضبط ما تفعله الجماعة الآن، وإن كان ذلك متأخراً بأكثر من ربع قرن.بالنسبة للحركتين ظلت هناك إشكالية إضافية، تتمثل في ضعف الشفافية بسبب تعدد المستويات التنظيمية وعدم وضوح العلاقات بينها. على سبيل المثال كان من المفترض أن يكون إنشاء الجبهة الإسلامية قد أنهى وجود تنظيم الإخوان المسلمين في السودان، ولكن ذلك لم يحدث فعلاً، حيث بقي التنظيم قائماً في السر (وكان مجلس الشورى التابع له لا الجبهة الإسلامية هو الذي اتخذ قرار الانقلاب في عام 1989). وقد أدى هذا إلى نتائج كارثية أفضنا في غير هذا الموقع في تفصيلها. أما في مصر فإن جماعة الإخوان لم تعلن عن حل نفسها بعد أن شكلت حزب الحرية والعدالة، مما جعل الأمور أكثر تعقيداً. وهذه الازدواجية غير مقبولة في حزب حاكم، ولا بد من إنهائها فوراً بتوحيد قيادة الحزب والجماعة أو إلغاء أحدهما، مع تقديم بيانات واضحة وباستمرار عن المداولات التي تقع داخل الأطر التنظيمية. فليس هناك حق للسرية في حالة جماعة تتولى السلطة.مهما يكن فإن المرحلة الحالية هي ليست مرحلة حكم هذا الحزب أو ذاك، بل مرحلة إعادة تأسيس لكيان الدولة، وهي مهمة يجب أن يشارك فيها كل المصريين. وهناك سوء فهم مزدوج يسود حالياً، الأول هو أن هذه مرحلة ‘تحقيق أهداف الثورة’ (أياً تكون هذه الصفة الهلامية)، والثاني هو أن واجبات السلطة الحالية إصلاح الاقتصاد ومعالجة مشاكل مصر مزمنة. وأخيراً هناك الاعتقاد بأن الإخوان وحدهم المكلفون والقادرون على أداء هذه المهام. وكل هذا خطأ بين. فمصر لا تزال تعيش مرحلة انتقالية الأولوية فيها لسن دستور توافقي، وإرساء أسس الديمقراطية، وتهيئة الجو للانتخابات. وليس هناك كبير اختلاف على هذه المسائل بين الإخوان وخصومهم.من هذا المنطلق فإن العرض الذي قدمته المعارضة بالمشاركة في حكومة إنقاذ وطني تشارك الرئيس مرسي عبرها هذه الأعباء هو عرض سخي يجب على الرئاسة أن تسارع بقبوله. فالانفراد بالسلطة في ظل ظروف مصر الحالية، وتحمل أعباء الانفلات الأمني والانهيار الاقتصادي والضبابية السياسية، هي مغنم لا مغرم. فالمطلوب إذن هو أن يسارع الرئيس مرسي بعقد ‘لقاء قمة’ سياسي، تحضره قيادات المعارضة، وكذلك المرشد العام للإخوان ونوابه، لأن من الواضح حالياً أنه لا مرسي ولا قيادات حزب الحرية والعدالة تمثل قيادة الإخوان. ويجب أن يدرس هذا اللقاء كل المقترحات، بما في ذلك تشكيل حكومة وحدة وطنية وتحديد آليات وفاقية لحسم الخلافات حول الدستور والانتخابات والمؤسسات الإعلامية وغيرها. فالأولوية هي ليست في من يحكم ولا التصدي لهذه المشكلة أو تلك، ولكن خلق المناخ الذي لا يهم فيه من الذي يحكم، وذلك عبر إرساء وقواعد وضمانات دستورية وقانونية ومؤسسية تمنع أي حاكم من التعدي على حريات الناس الأساسية أو غمط حقهم.تحقيق هذه الغاية سينهي التوتر والاستقطاب، ويجعل الجميع في حالة اطمئنان، وبالتالي يفسح المجال لحوار بناء وعمل دؤوب لحل كل المشاكل الأخرى. وقد يقال إن هذا يمثل مكافأة لمن يمارس الابتزاز ويختار الإجرام سبيلاً لتحقيق أهداف سياسية، ولكن الحكمة تقتضي أحياناً التعامل مع المختطف حفاظاً للضحية. وليترك للشعب فيما بعد الحكم على تصرفات هذه المجموعات، وهو حكم فوق كل أحكام المحاكم.’ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندنqraqpt