الخرطوم ـ «القدس العربي»: في وقت تتواصل فيه ردود الأفعال على إعلان القائد العام للجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، خروج الجيش من المحادثات المباشرة التي تقوم بتيسيرها الآلية الثلاثية المشتركة لبعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان (يونيتامس) والاتحاد الأفريقي و«الإيغاد» أعلن منظمو الاعتصامات التي انطلقت قبل عشرة أيام في الخرطوم، لمطالبة الجيش بإعادة السلطة إلى المدنيين، الإثنين، أنهم فضّوا اثنين من اعتصاماتهم الأربعة في العاصمة السودانية.
في 30 حزيران/ يونيو الماضي، قتلت قوات الأمن تسعة متظاهرين مناهضين للانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش، وفق لجنة أطباء السودان المركزية. في اليوم التالي، وتحت صدمة القمع العنيف، أعلن المحتجون تنظيم اعتصامات مفتوحة وأقاموا أربعة مخيمات: اثنان في وسط الخرطوم وواحد في الضاحية الشمالية الغربية لأم درمان، وآخر في الضاحية الشمالية الشرقية للخرطوم شمالا.
وأكدت الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني أنها تنظم صفوفها لإخراج الجيش من السلطة. وقال المتظاهرون إنهم لن يغادروا إلى أن يتم الإعلان عن تشكيل حكومة مدنية بالكامل.
لكن في الوقت الذي احتفل فيه السودانيون بعيد الأضحى، أعلنت «لجان المقاومة» في أم درمان، أمس الإثنين، أنها ستزيل مخيم الاعتصام في منطقتها.
و«لجان المقاومة» هي مجموعات أحياء تنظم التظاهرات منذ انقلاب 2021 وهي القوى التي يستمع إليها الشارع، وسبق أن انتقدت الأحزاب لتنازلها عن مواقفها والقبول بسلطة انتقالية جنباً إلى جنب مع الجيش.
ويوم الجمعة، عشية الأضحى الذي يعود خلاله كثير من سكان العاصمة إلى الولايات لقضاء أيام العيد، رُفع الاعتصام من أمام مستشفى الجودة في الخرطوم، حسب ناشطين. في هذه الأثناء، يستمر الاعتصامان الآخران، حتى وإن انخفض عدد المشاركين بسبب العيد.
وأول أمس، رحب حزب «المؤتمر الوطني» المحلول، الحزب الحاكم السابق، بتحفظ على إعلان البرهان.
وعقب تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019، تم حل حزب المؤتمر الوطني الحاكم ـ سابقاً، وتكوين لجنة إزالة التمكين لملاحقة أعضائه. غير أنه، وبعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تم إطلاق سراح العديد من قياداته وإعادة بعضهم إلى مواقع رفيعة بالدولة.
وقال الحزب المحلول، في بيان، إن «القوات المسلحة أدركت ما وصفه بجسامة الخطأ الذي ارتكبته بالتوقيع على اتفاق الوثيقة الدستورية في أغسطس/ آب «2019.
وأضاف: «إذا كان الخروج من السياسة مطلوباً، فإن عدم تنازل القوات النظامية عما يدخل في اختصاصها مطلوب كذلك» مشددا على أن «قيادة الجيش لا يجوز أن تتنازل عما يتعلق بأمن البلاد أو ما يتطلبه دفاعها».
وتابع: «يجب ألا تستجيب القوات النظامية لمن يطالبونها بالتنازل عن واجبها الوطني المقدس، وأنه لا كلمة لعسكري على السياسة ولا كلمة لمدني بشأن العسكر».
وقال إن «غياب الإشارة لإبعاد حزب المؤتمر الوطني من الحوار، الذي دعا له البرهان، يتماشى مع انسحاب الجيش من السلطة» مشيراً إلى أن «غياب هذه العبارة من البيان هو أحد شروط إعلان القوات المسلحة بأنها تلتزم بالعمل مع جميع مكونات الشعب السوداني من أجل الوصول إلى توافق وتراض وطني».
وأعتاد البرهان التشدد في خطاباته السابقة، على أن حزب «المؤتمر الوطني» لن يكون ضمن أي عملية سياسية، وأنه حزب محلول. وطالب «المؤتمر» في بيانه، بإطلاق سراح قادته الموجودين في المعتقلات، مؤكدة أن الحوار لا يمكن أن يتم والقادة السياسيون في السجون.
محلل يتحدث عن خلاف بين قادة الجيش و«الدعم السريع» وآخر يشير لضغوط خارجية
وكان البرهان، قد جدد، مساء الجمعة، الدعوة للمكونات السياسية ولجان المقاومة وغيرها من التنظيمات إلى الجلوس للحوار والوصول إلى رؤية موحدة وبرنامج موحد، تعقبها انتخابات، مؤكدا أن ذلك سيحقق الاستقرار في البلاد.
والإثنين الماضي، أعلن البرهان خروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية التي أعلنتها الآلية الثلاثية المشتركة، مطالبا القوى المدنية بالتوافق على حكومة تنفيذية تدير البلاد وصولا للانتخابات.
وقال إنه سيقوم بحل المجلس السيادي وتكوين مجلس للأمن والدفاع، عقب تشكيل الحكومة، تتشاركه القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ويقوم بمهام الأمن والدفاع، على أن يتوافق مع الحكومة التنفيذية المقبلة على بقية المهام.
وبعدها بساعات، أعفى البرهان المدنيين الخمسة في المجلس السيادي، بينما أبقى على القادة العسكريين وممثلي الحركات المسلحة في المجلس.
وفي وقت اعتبر المجلس المركزي للحرية والتغيير قرارات البرهان مناورة مكشوفة، أوضح أن حل الأزمة الراهنة في البلاد يبدأ بتنحي السلطة الانقلابية عن سدة الحكم وتشكيل قوى الثورة لسلطة مدنية انتقالية كاملة وفق إعلان دستوري يحدد هياكل الانتقال وقضاياه بما فيها قضية دور المؤسسة العسكرية ومهامها.
رفض الحوار
وأكدت تنسيقيات لجان المقاومة، وتجمع المهنيين السودانيين، تمسكهم برفض الحوار والشراكة ومنح الشرعية لقادة الانقلاب، وبمحاسبة قادة الانقلاب على الانتهاكات التي تمت في البلاد، والانقلاب الذي راح ضحيته 113 سودانيا خلال قمع الأجهزة الأمنية للتظاهرات، معظمهم بالرصاص وفقا للجنة أطباء السودان المركزية، بالإضافة إلى نحو 6000 جريح.لكن مجموعة من الأحزاب الموالية للعسكر، أعلنت تأييدها للحوار، معتبرة إياه الحل الوحيد للأزمة الراهنة في البلاد.
وفي الأثناء، تجددت الخلافات بين مكونات الآلية الثلاثية، حيث أعلنت بعثة الأمم المتحدة انتهاء المحادثات المباشرة بعد انسحاب الجيش منها، بينما لم يعلق مبعوثو الاتحاد الافريقي و«إيغاد» على الأمر.
وبينما تتوالى تداعيات خطابي البرهان الأخيرين، رأى المحلل السياسي، عبد الله رزق، أن الجيش يسعى من خلالهما لمزيد من التمكين.
وقال لـ«القدس العربي»: إن «البرهان خلال أقل من أسبوع قدم خطابين غامضين، وهما لا يخلوان من فجوات، ومن أطروحات عامة، وقد لا يؤديان إلا لمزيد من الإرباك السياسي».
وأضاف: «تجديد الدعوة للحوار بين كل فئات وشرائح المجتمع، خاصة السياسية وإسقاط استثناء المؤتمر الوطني من الدعوة، فضلا عن إغفال تقديم تفسير لقرار إعفاء مدنيي مجلس السيادة، كل ذلك يطرح تساؤلات واسعة وسط الرأي العام، خاصة فيما يتصل بخلفيات القرار، وما يمهد له من خطوات تالية».
وتابع: «تضمن الخطاب الثاني، والذي قدمه مساء الجمعة، فقرة تمت صياغتها بعناية، يتضح أن المقصود بها إضفاء المزيد من الإبهام الناتج من التعميم، حول عودة الجيش لمهامه الوطنية في حماية البلاد والاضطلاع بدوره كاملا في مهامه الأمنية والدفاعية، والذي قد يتضمن إسقاط على أي دور سياسي للجيش في الحوار والعملية السياسية التي ترعاها الآلية الثلاثية، أو فيما يلي تنظيم الانتخابات حال فشل الحوار، أو أي مهام سياسية أخرى».
«فخ محكم»
وأكمل: «يبدو حديث البرهان وكأنه يستجيب بوضوح أكبر للمطالبة المشددة بخروج الجيش من السياسة وعودته للثكنات، مثل فخ محكم لاستدراج الأطراف الاخرى، للعودة لطاولة الحوار والتفاوض حول هذه المسألة، والتي تعتبر مفتاحية، من وجهة نظر المعارضة، وتتطلب التوافق على تفاصيلها، بما في ذلك تنحي البرهان وفريق انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي من الحكم».
وأشار إلى «نص قول البرهان في خطاب الجمعة الماضية: (إننا نؤكد وقوفنا معهم من أجل بناء المستقبل والمحافظة على سلامة الانتقال وعدم الزج بقضايا الانتقال في الصراع السياسي، فلتنصرف القوى السياسية لبناء أحزابها والتحضير للانتخابات مما يمهد الطريق للجيش للعودة إلى مهامه الوطنية في حماية البلاد والاضطلاع بدوره كاملاً في مهامه الأمنية والدفاعية وهو ما أكدناه مؤخراً بقرار عدم مشاركة القوات المسلحة في حوار المدنيين والتزامنا بهذا النهج)».
ولفت رزق إلى أن «البرهان يحاول كذلك تسويق نفسه للأطراف الداخلية والخارجية، في شكل أكثر مرونة، وأكثر قابلية للمساومة».
واستبعد أن يفضي أي شكل من أشكال الحوار بين المدنيين لتنازل البرهان عن سلطته المطلقة، والتي تعتبر أحد مكاسبه من انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لصالح المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بحيث تتخذ كل القرارات المتعلقة بسياسات البلاد بأغلبية أعضاء المجلس، مرجحا أن يكون المجلس حال تكوينه مجرد ديكور ومحاولة لتضليل المجتمع المحلي والدولي.
وأضاف: يبدو أن البرهان في الغالب لم يقم باستشارة الأعضاء العسكريين في المجلس السيادي ونائبه «حميدتي» في قراراته الأخيرة التي يمهد من خلالها لخطوات مقبلة، لافتا إلى وجود مؤشرات عديدة لجفوة بينه وبين نائبه «حميدتي».
وتابع: أن ابتعاد «حميدتي» عن مركز صناعة القرار في العاصمة، والذهاب لدارفور يعد من المظاهر الجلية لتلك الخلافات.
أما المحلل السياسي حاج حمد، فقد رأى أن قرارات البرهان الأخيرة «نتجت عن الضغوط الخارجية للعسكر والتي من أبرزها فرض واشنطن نفسها كوسيط، وإلغاء محادثات الآلية الثلاثية التي تضمنت أحزابا وكيانات ارتبطت بالعسكر».
وقال لـ« القدس العربي»: «مع استمرار الحراك الشعبي والاعتصامات المناهضة للانقلاب، بدأ العد التنازلي لخروج العسكر وتفكيك دولة الانقلاب» مشيرا إلى أن «الخطوات التي يبدو أن البرهان يسعى من خلالها لإدارة المرحلة الانتقال بصفته قائدا للجيش، محاولة لكسب الزمن، وفرض ضبابية على المشهد الراهن في البلاد، في وقت يرجح أن البرهان ينتظر الحصول على ضمانات بخروج آمن من البلاد».