لذة السعادة

الحياة السعيدة حياة لذيذة، ذلك أن السعادة مرتبطة باللذة، فلا سعادة بدون الاستمتاع بلذات الأكل والشراب والجماع وتكديس الأموال، حتى أن اللذات تختصر في هذا الفهم البسيط: «فإن الصبيان والحيوانات تطلب اللذات» كما يطلبها العامة ولو كانت ضارة ويعقبها الحزن، لكن هل هذه اللذات التي تشغل عن العقل رديئة عند الحكماء؟ وكيف استطاعوا أن يطلبوا تلك اللذات التي تخلو من الألم مثل لذة العقل؟ وهل اللذات الحسية ليست لذات، بل تظهر كذلك لغير العقلاء؟
ما دام أن بعض اللذات خير وأن معظمها رديء، فإن النظر في اللذة والحزن، واللذة والفرح فلصاحب الفلسفة المدنية، أما الرجل الشرير فيشبه مدينة تستخدم قوانينها، لكن هذه القوانين عند الاستعمال لا تساوي شيئا، فهو يجهل أن الرداءة داء متصل مثل داء السل ويصدق عليه قول الحكيم: «إن أهل ميليسوس ليس هم بجهال وإنما يفعلون فعل الجهال لقلة التجربة». وبما أن القياس الصحيح للذات ينبغي أن يكون هو العقل، فإن الذين انهارت عقولهم يستعملون اللذات الجسمية بالإفراط، ولا ينتظرون النطق لأنهم يميلون إلى الحزن والألم، فالأشياء اللذيذة ضارة بالصحة. لأنه إذا كانت المعرفة لا تتميز إلا بضدها، أي الجهل، فإن تفكيك اللذة ككون محسوس، سيفسح المجال أمامنا لمعرفة قيمة لذة العقل في مقاومة اللذات الحسية، وكل ذلك من أجل وضع تلك الصداقة المبنية على اللذات الحسية موضوع تساؤل، لأن ضررها لا يظهر، إلا عندما يكون أصحابها دولة لا تحركهم سوى مهنة الطبخ والعطر والنبيذ، باعتبارها صانعة للذات، هكذا يختفي فيهم العقل، وكما قال الحكيم ساخرا: «كانت المدينة ترجوه، وهي التي لا تهتم بالقوانين، لها قوانين حكيمة لكنها لا تستخدمها، منتظرة هذا الرئيس الرديء».
مهما تكن اللذة الحكيمة مفرحة للكينونة وطاردة للأحزان، فإن العفيف يهرب من اللذة، والعاقل يطلب اللذة التي تخلو من الألم، فللعفيف لذات أيضا، كما أن للعاقل لذات، وبعبارة أخرى فمضطر أن تكون اللذة خيرا ما، وأن الحياة السعيدة لذيذة بطبيعتها، ولا تكون رديئة إلا عند الأشقياء: «إذ السعادة مع الأفعال الكاملة، ولهذا يحتاج السعيد أيضا إلى اللذة في الجسم، التي من خارج والتي للنفس، لكيلا تكون أفعاله ممتنعة بهذه» لأن من هو سعيد سيختار تلك اللذات الخيرة، ويترك تلك الرديئة. ينبغي للإنسان العاقل أن يتمتع باللذات الجميلة، كلذة الموسيقى والقراءة والتأمل والنزهة، ذلك أن ضد الشر خير: «ولعل الصواب هو أن اللذات الضرورية خير، بمعنى أن ما ليس شرا فهو خير، أو هي خير إلى أن ينتهي الخير» بمعنى أن الاعتدال في استعمال اللذة أجمل من الإفراط.

لذة التعقل هي أعظم اللذات، لأنها تكون بالطبع وغير ضارة، ولا يأتي منها إلا الخير، ذلك أن اللذة في السكون أكثر منها في الحركة، وما بالذات أفضل مما بالعرض، فالنظر والسمع علاج للنفس.

وفساد الإنسان إنما هو بطلبه الإفراط: «لا بطلبه الأشياء المضطرة (الضرورية) فإن الجميع يحبون تذوق ألوان الطبيخ والخمور والجماع، ولكن ليس على ما ينبغي» ولعل فوكو صاغ هذه الحكمة صياغة جميلة، حيث قال في كتابه «استعمال اللذات»: الحق في اللذة دون الإفراط في الاستعمال، مستشهدا بأبوقراط الذي يقول: الحمية هي فن «الحياة» لأن ما كان يهم فوكو هو استيطيقا اللذة، من خلال فن الاستعمال، ذلك أن الاستعمال غير الجيد يقود إلى نسيان الذات، لأن: «النفس، كما يقول سقراط، تعيش صراعا بين تلك اللذات التي تجعلها تنسى ذاتها، وتلك التي تذكرها بحقيقتها» فحسب محاورة فيدار: إن النفس تأتي إلى هذا العالم وهي ممتلئة بالمعرفة، عالمة وفيلسوفة، بيد أن إقامتها الطويلة في اللذة ترغمها على نسيان كل ما تعلمته في عالم المثل، وتنتقل من المعرفة إلى الجهل، بواسطة النسيان، ومن الجهل إلى المعرفة من خلال التذكر.
لم يتردد فوكو في الاعتراف بأن ميتافيزيقا اللذة غامضة على ميتافيزيقا الوجود في نظرية المثل الأفلاطونية، لأن تحرير مجموعة من الفلاسفة من الكهف، وترك اللذة تنام في غسق الظلام، معناه احتراق اللذة، مقابل وضع الحقيقة مكانها، فلذة الحقيقة أعظم من اللذة الحسية. هكذا توجهت الفلسفة الأفلاطونية إلى قمع اللذات واحتقار الجسد، بل تعظيم النفس، وجعلها تتذكر ما كانت تعرفه، لكن كيف انتقل إخضاع اللذة من الفلسفة إلى هيرمونيطقا الأخلاق؟ وما الذي جعل الأخلاق تتجه نحو قمع اللذة؟ فتاريخ المتع كتجربة وجودية، هو السر في استمرار الحياة على الأرض، فالنوع الإنساني حافظ على وجوده باللذة: «النفس تبرهن على وجودها وقدرتها على التهام اللذة، بموازاة مع حركتها في اتجاه الإحساس بالانتصار» ذلك أن حقيقة اللذة هي الانتصار حسب فوكو، لأنها تحقق سعادتها عندما تتخلص من الإحباط، بيد أن اللذة تقتل إذا استعملت بشكل مفرط.
من الأجود أن يكون الإنسان في حالة جيدة من أن يكون في سبيل البرء، لأنه كلما كان معتدلا في استعمال تلك اللذات الحسية، حافظ على نفسه، ولذلك يتساءل أرسطو قائلا: لماذا الإنسان الفاضل يحتاج إلى اللذة إذا كانت اللذة ليست خيرا؟ ربما لأنها تدفع الحزن: «ولما كانت اللذة برءا من إفراط الحزن، طلبوا اللذات البريئة» ولكن ليس على ما ينبغي، بمعنى اللذة مع فن الحمية.
وبالجملة فإن لذة التعقل هي أعظم اللذات، لأنها تكون بالطبع وغير ضارة، ولا يأتي منها إلا الخير، ذلك أن اللذة في السكون أكثر منها في الحركة، وما بالذات أفضل مما بالعرض، فالنظر والسمع علاج للنفس، ولكن لأصحاب المزاج المعتدل: «أما الذين هم بالطبيعة ذو مزاج حاد، فإنهم في حاجة مستمرة إلى علاج، لأن جسمهم يلذع لذعا كثيرا وهم أبدا في شهوة شديدة.. ولهذه العلة يكون ذو المزاج الحاد غير عفيف». والعاقل هو العفيف، وهو الفاضل، والخير، والمخلص للصداقة.
٭ كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية