كورس كرنفاليٌّ…
هذا الذي عنَّ لي من طاقة البيت الصغير، الممتد بين الأشـُنـَّة والغياض على طول العريش الضليل. عُبَابٌ من غبار يشق العنان، ويحفر في الذاكرة تاريخا مليئا بحفر لا تكف عن الامتلاء. صاحت أمي نانا المجدليّة بصوت أجش، رفرفت له أسراب القطا من وُكناتها فوق أشجار الصنوبر المنتشرة على حوافي الوادي.. قائلة:
ـ «آيت عبو عزيزة، هي، برجالاتها»
ـ آيت عبو عزيزة، وفي مأمن من لسعات العقرب»
كانت الشمس تزورُّ على اليمين وعلى اليسار، مرسلة أطيافا من أجنحة أرجوانية دامعة، كأنها تفارق هذا الكون الفسيح إلى الأبد. خرجت المجدليّة من البيت الصغير ملسوعة ومخبولة، تزنر جسدها النحيف بدثار أرقط َمُحَجَّلٍ، كأنها تطارد الرَّدى والسَّقم… ها هو قد حل على الأعتاب. أريج موت على الأبواب، إنه أريج موت. ركنت ناقلة جُنـْد على الضفة الغربية من آيت عبو، خرج منها رجلٌ أمردُ وأشمط ُ، خالط السواد والبياض فوديه، حمل مكبر صوت، ونادى بلهفة غامت فيها لـُثغة العقرب:
ـ «العمورية تريد أصواتا كالعرين، الوغى موحش ومُقفر من دون أسود.
ـ قوموا لبوا النداء… العمورية تريدكم»
ارتمت نانا المجدليّة على نجم آفل قاص، وهي تتعلق بمناكبَ وأرداف تتدافع وتتكاثف كأدغال من غابات الصنوبر، تتشرب نقعا مسحوقا كالطين، صخرا مُرتويا بدم القتلى، منحوتا بأظافر الشهداء… وقالت بصوت مهيض:
ـ باتت آيت عبو بيتا صغيرا، باتت آيت عبو يبابا وخرابا.
كانت أمي نانا المجدليّة تنظر، بعيون مائية وحسيرة، إلى ناقلة الجُند، وقد اهتزت وربت وأتـْرَعت بشباب في عنفوان الربيع؛ عناقيدُ عنب كأطياف الظهيرة مسفرة تسري في ارتواء آفل؛ كمُزنة مقرورة، كصهوة غيم في مهب رَوامس الخريف. دنت أمّي المجدليّة من الناقلة، وئيدة كما غدرها الزمن، وتحلـَّبها ألما دفينا؛ سنوات عجاف. وبفم أثـْرمَ تغني لحنا علـَّه يُسعفها على صبر مفقود:
ـ «يا عقة يا صهوة عمري، لا تغادر حنيني،
ـ يا كبدي يا وَثء السنين أعطيتكَ فجرا من وجدي،
ـ بين الجوى والجوانح مهبطك الحامي،
ـ يا عقة الأسد، وتبقى الأسودُ أسود ا»
بأصابعَ عَجْرَاءَ تستند إلى عكاز معقوف القـُنة، اقتربت ودنت دنوا وئيدا؛ لتتحسس عن قرب شبان القرية، الذين سيغادرون آيت عبو إلى ساحة حرب مستعرة. بوجه ممتقع غالبه الحزن والأسى، وبعينين حسيرتين تتفرس وجوها، ينط منهما نزق حامي الوطيس، فبدأوا يتزربعون فوق حاوية الناقلة بحركات بهلوانية؛ بغية إخفاء الوالد وما ولد.
تعرفهم نانا المجدليَّة واحدا واحدا، تجيل الطرف علـَّها تعثر على فلذة كبدها المجوفة بالحرقة والكمد. كان «عقة» مسجَّى فوق مصطبة قصبيَّة متشابكة السَّدى، ملفوفا في خرقة بيضاءَ كالقطن، تكوَّفوا وصعدوا جميعا على جسده المنهوك من التعب، حابسا أنفاسه كان، بدون أن يحدث أنينا أو تأوها. أجالت المجدليَّة النظر، وحوَّطت المكان بعينيها المائيتين من جديد، ليتخطـَّفها صوت محرك ناقلة الجنود.
رسم الرجل الرَّبعة الأشمط على صفحة وجهه ابتسامة ماكرة، فظلت أمي نانا المجدلية مشدودة إلى هدير المركبة، حتى ابتلعه صمت المكان. عادت أدراجها، كما يعود الهجير إلى تلك الربوع، وهي تنشد لازمتها:
ـ «يا عَقة يا وَثء السنين يا صهوة عمري، لا تغادر حنيني،
ـ يا كبدي أعطيتكَ فجرا من وجدي»
٭ كاتب مغربي