سرعة الأحداث وتداخل الجبهات منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر واضطراب اللاعبين تجعل من الصعب الاتكاء على قراءة للمشهد أو تحليله لمدى زمني بعيد. كانت المنطقة تنام على تطوّر وتصحو على آخر. اليوم باتت الصورة رهن التحوُّل بين ساعة وأخرى، من غزة إلى سوريا والعراق ولبنان والبحر الأحمر، ما يرفع المخاوف من الوقوع في خطأ حسابات تدفع المنطقة إلى حرب شاملة تُعلن أمريكا وإيران أنهما لا تريدان الوصول إليها.
أتى إلى بيروت الجمعة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في جولة مُقابلة لجولة نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن التي قام بها في المنطقة. تستخدم طهران بيروت كــ»منصة» لتأكيد حضورها في قلب المشهد كلما جاء رأس الدبلوماسية الأمريكية إلى الشرق الأوسط. هذا كان يحصل قبل حرب غزة وبعده، وسيبقى يحصل. يريد في كل مرة أن يقول: «نحن هنا أيضاً. لستم وحدكم أسياد المنطقة، لكم نفوذكم ولنا نفوذنا».
أطلَّ عبد اللهيان من بيروت ليُشير إلى أنّ «مقاومة النصر» في فلسطين قد وضعت على الطاولة مشروعاً سياسياً بحضور «حماس». ما يقضُّ مضاجع طهران أنها رغم ما استثمرته لسنوات في المنطقة واختراقها لدولها من بوابة فلسطين، فإن هذه القضية عربية في المقام الأول، وأن مسار الحلول القديمة – الجديدة واضحة في عنوانها: «حل الدولتين». والمطالب التي خرج بها «اجتماع الرياض» تضمنت اتخاذ خطوات لا رجعة عنها حول «حل الدولتين» والاعتراف بدولة فلسطين على خطوط الرابع من حزيران/يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
حتى إنه في مقترحات «حماس» للضامنين على الاتفاق الإطاري الذي توصلت إليه محادثات باريس، لا أثر لإيران، رغم مطالبة «الحركة» بوجود روسيا وتركيا في عداد الضامنين غير العرب. يقول منظرو «المحور» إنّ إيران تَعتبر استمرار وجود «حماس» على الطاولة انتصار لها، وهذا ربما ما أراد عبد اللهيان الإشارة إليه، ولا سيما أنّ من أهداف إسرائيل المُعلنة القضاء على «حماس» ومنعها من العودة إلى حكم القطاع. غير أن موقف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية كان قبل أيام ينتقد الدول الإسلامية الداعمة لوقف إطلاق النار في غزة وتهدئة التصعيد في المنطقة، مطالباً بضرورة استمرار هجمات الحوثيين في اليمن على السفن التجارية في البحر الأحمر، ومعتبراً أنّ «الفلسطينيين قادرون وحدهم على إدارة الميدان، وهم لم يتلقّوا ضربة شديدة حتى اليوم».
يعمد الدبلوماسي الإيراني الأرفع أن يُعلن من بيروت «أنّ أمن لبنان من أمن إيران والمنطقة، وأنّ «حزب الله» والمقاومة في لبنان قامت بكل شجاعة وحكمة بإيفاء دورها الرادع والمؤثر، وسنستمر بدعمها ودعم لبنان». يندرج ذلك في إطار التأكيد على أن طهران هي راعية «حزب الله» وبيدها إدارة سياسة لبنان من الصراع مع إسرائيل، تماماً كما تُدير أمريكا سياسة إسرائيل. إنها المحاولة الدؤوبة لإيران لترسيخ معادلة «اللاعبَين الإيراني والأمريكي» في المنطقة. تعتبر طهران أن «حزب الله» هو «درة الأذرع العسكرية الإيرانية الإقليمية»، وهو جزء لا يتجزأ من الحرس الثوري الإيراني بارتباطه العقائدي الديني، وهو الذراع الأقوى من بين أذرعها، وعلى تماس مباشر مع إسرائيل، وليس في الداخل اللبناني أي قوة قادرة على مواجهة «الحزب» أو الحدّ من قدراته أو أن تُشكّل عوامل تهديد له. هو فصيل صافٍ في حساباته وولاءاته لمشروع ولاية الفقيه، يحفظ لطهران موطئ قدم ونفوذ على المتوسط وعلى حدود إسرائيل «درة أمريكا» ما يجعلها لاعباً ومرجعاً ومؤثراً وضامناً، خصوصاً إذا كان الحديث يدور حول جبهة جنوب لبنان والمساعي الإسرائيلية والدولية لتهدئة جبهة الشمال الإسرائيلي بما يُتيح للمستوطنين أن يعودوا إلى بيوتهم.
لعبة عضّ الأصابع تمرُّ بأيام حرجة وقاسية، ولا سيما مع إعلان عزم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دخول الجيش الإسرائيلي إلى رفح استكمالاً للهجوم البري على القطاع. ثمّة رهان على أن نتنياهو يستخدم ورقة الهجوم على رفح – الملاذ الأخير للغزاويين الذين تهجّروا من الشمال والوسط إلى الجنوب – للضغط على «حماس» التي رفعت سقف مطالبها في ردّها على الاتفاق الإطاري. ولكن هذا الرهان قد لا يكون في محله مع نتنياهو، ومع حكومة اليمين المتطرّف، ومع وجود 60 في المائة من الإسرائيليين المؤيدين لاستمرار الحرب بغض النظر عن موضوع الأسرى. ويصبح الأمر أشبه بـ«الرقص على حافة الهاوية».
فالإيرانيون الذين يبنون حساباتهم على أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن لا يريد الدخول في حرب كبرى، ويرون أن نتنياهو يُريد جرّهم إلى مستنقع الحرب في الشرق الأوسط متفاجئون في الوقت عينه من ردَّات الفعل الأمريكية. هم يعتبرون أن بيان «حزب الله العراقي بتعليق هجماته ضد القواعد الأمريكية كان من شأنه أن يلجمَ الردّ الأمريكي على مقتل الجنود الأمريكيين في القاعدة الأمريكية في الأردن، وأن يكتفوا بالضربات التي شنّوها على قواعد الأذرع الإيرانية على الحدود السورية والعراقية. أما أن يترافق ذلك مع عمليات اغتيال في قلب بغداد، فذلك تصعيد كبير وضرب للاتفاقيات الموقّعة مع الحكومة العراقية. كما أنهم يتساءلون عن الهجمات الأمريكية – البريطانية على الحوثيين وتصعيدهم في البحر الأحمر. فكل الحسابات الإيرانية وأذرعها مبنية على رؤية إدارة بايدن الكامنة في تمتين الجسور مع الجمهورية الإسلامية.
ما يبحث عنه الإيرانيون، ومعهم أذرعهم من اليمن إلى العراق ولبنان، عما إذا كان الضربات الأمريكية التي تقول واشنطن أنها لم تنتهِ تأتي في سياق رد الفعل على مقتل جنودها أم أنها تعبير عن وجود استراتيجية مترابطة. هؤلاء يرون أن أمريكا تُثوِّر الأرض، ولا سيما المحافظات الشيعية في العراق ضدها وكذلك تستثير الحوثيين، لكن رغم ذلك لا يزال المسار في الفعل وردّات الفعل بين أمريكا وأذرع إيران مضبوط الإيقاع حتى الآن. وهذا ينطبق أيضاً على جبهة جنوب لبنان.