أحيانا، وبفعل التملك الرمزي الذي تمارسه اللغة على الكائن، تصبح أكثر أهمية منه، لأنه – شاء أم أبى – نتاج مستويين من مستويات تفاعلاتها، الأول عام، ذو طبيعة مألوفة تعتمد من قبل كل أعضاء المجتمع. والثاني خاص، ذو طبيعة شخصية، به تنفتح الذات على مسالك ودروب المستوى الأول، الذي هو في الأصل مزيج مشترك من حيوات ولغات الآخرين، فضلا عن كونه خزانا مجتمعيا، تغرف منه الذات مياهها التعبيرية، التي تعتمدها في تواصلها مع ساكنة الخزان ذاته. وهي عملية على درجة عالية من التعقيد، حيث يظل تحققها مشروطا بالكفاية اللغوية التي تتميز بها الذات، في تكامل مع رصيدها المعرفي، ومع نوعية الاستراتيجية التي توظفها في تعبيدها للسياقات الاعتبارية، التي تكون ملزمة بالتواجد فيها، حيث يتعلق الأمر هنا، برصيد الكفاءات والخبرات، التي تستند إليها في بنائها للأنساق التعبيرية، المشروطة بمبدأ تطابقها النسبي مع مقتضيات السياق. إذ بالنظر إلى السلطة التي تمتلكها اللغة في ذاتها، أي بوصفها حاضنة فعلية لذاكرة الشعوب، فإنها تأخذ شكل أرضية، يستطيع الفرد أن يرسم في رحابها المتحركة، محتمل خطاطات، لما هو مقبل على الانخراط أو التورط فيه، من علاقات، ومصائر وأحداث.
لذا والحالة هذه، سيكون من الطبيعي أن تخوض الذات اللغوية صراعها الدائم مع المادة التعبيرية، المتأججة في تنور ذلك الخزان اللغوي العام، بحثا عن أنساقها اللغوية الخاصة بها، التي تتيح لها إمكانية تيسير تفاعلها مع مكونات واقعها، وترسيم حضورها فيه، ذلك أن أهمية الخصوصية اللغوية هنا، تكمن في دمجها حركية الذات ضمن حركية المجتمع، وليس باعتبارها عاملا سلبيا يفصل الذات عن محيطها، حيث يكون للتنوع والتعدد التعبيري والتواصلي، دورهما الفعال في تحقيق شرط التفاهم.
وبالنظر إلى الحاجة الملحة، التي تحفز الذات على الظفر بحظوة اندماجها في الفضاءات العامة، فإنها ستكون معنية بتوخي منهجيات مرنة وعملية، في تعايشها مع منطق اشتغال الخزان اللغوي، تلافيا لأي قطيعة من شأنها حرمان الذات، من ممارسة حقها الطبيعي في الوجود داخل فضاءات الحياة العامة. ذلك أن هذه الفضاءات، وبقوة ما تحفل به من تناقضات، تشبه إلى حد ما، ممرا محفوفا بمختلف أصناف الاختلالات، الذي لا مناص للذات من عبوره، كي تبرهن على فعاليتها التواصلية خارج فضاءاتها الخاصة. وكما هو معلوم، فإن دلالة العبور، تفيد في هذا السياق، الآلية التدبيرية والتوجيهية لمقتضيات الدينامية اللغوية. علما أن تواجد الذات في غمار، وفي عباب اليومي، لا يكون دائما تحت ضغط الضرورة أو الإلزام، بل يعود أيضا، إلى الرغبة في الاستمتاع بـ»لعبة» التشارك اللغوي، من أجل إرضاء الطبائع التواصلية المقيمة في الدواخل.
إنه نوع من الاستجابة لنداءاتها المقبلة من عمق الحاجة التشاركية، ومن أعراض السأم والرتابة، المتوزعة على تضاعيف الواجب. وكلها ملابسات موضوعية، تحفز الذات على تفعيل آلية ما يمكن توصيفه بالتواصل الظرفي، بالعمل على تبسيط مسطرة انفتاحها على محيطها، بدون أن تظل مقيدة بهالاتِ خصوصيتها الثقافية والمعرفية.
وبالنظر إلى الأهمية الكبرى التي تكتسيها الأهداف المنتظرة من هذا الانفتاح، فإن البنيات التعبيرية الموظفة فيه، معنية بأن تكون من جنسه، بصرف النظر عن جماليتها أو قبحها. ما دامت العبرة تكمن في تحقيقها لمهمة ما سميناه بالتواصل الظرفي. باعتباره شرطا أساسيا من شروط الاندماج في مجريات الفضاءات العامة، التي يتحدد بموجبها موقع الفرد في قلب النسيج المجتمعي.
«الفكرة من وراء الأسطورة، هي قرع باب القوة اللازمنية الرافعة للوجود الإنساني، لقد كان الغرض من الأسطورة مع ما يرافقها من طقوس، هو التذكير بأن الأشياء ستصير إلى الأسوأ قبل أن تتحسن، وأن الاستمرار والإبداع يتطلبان كفاحاً مكرساً».
واستنادا إلى المكانة المتميزة التي يحتلها التواصل الظرفي ضمن هذا الإطار، فسيكون الفرد ذاته، مطالبا بإيلائه ما يستحقه من الاهتمام، سواء من حيث انخراطه الفعلي في علاقات القرب، أو من حيث امتلاكه للقوانين التعبيرية، الكفيلة بتدبير حيثيات هذه العلاقة، حيث أن قدرا كبيرا من المهام المجتمعية المنوطة بالفرد، يستند إلى مدى كفاءته في توفيقه بين طرفي هذه المعادلة، أي امتلاك القدرة على تحقيق القرب من الفاعلين المجتمعين، إلى جانب امتلاكه لآليات تدبيرية، تؤهله للتكيف مع متطلبات اللحظة، على المدى البعيد.
والشرطان معا مقيدان بما يتوفر عليه الفرد من كفاءات، سواء من حيث استيعابه لمنهجيات تلقي خطابات الآخرين، أو من حيث تصريفه لمنهجية بثه لخطاباته. ولعل مرد التوترات الكبرى التي تحدث في كثير من الأحيان، بين المتواصلين، خاصة في الإطار السياسي، أو الفكري، تعود إلى الاختلالات التدبيرية التي يمكن أن تطال هذا الطرف أو ذاك، أو هما معا. وضمن سياق الأهمية الكبرى التي نوليها للبنيات التعبيرية المشتركة، والمتداولة على مستوى التواصل اليومي، نؤكد على وظيفتها المحايثة، باعتبارها ورشة دلالية يستفيد الباحثون، والفاعلون الثقافيون، من علماء اللغة وعلماء الاجتماع، وفلاسفة ومبدعين، في مقاربتهم لمختلف الأنساق الذهنية والثقافية التي تتميز بها اللحظة الثقافية. باعتبار أن هذه الأنساق، تتشكل في صلب تلك التفاعلات اللغوية، المتدفقة في مختلف القنوات التواصلية، التي تغطي الفضاءات العامة والخاصة. بمعنى، أن العلوم الإنسانية ككل، تستقي خطاباتها ومنهجيات عملها من قراءاتها الدقيقة والعميقة، لمجموع البنيات التعبيرية المتداولة في الحياة المجتمعية، التي على أساسها يتم استخلاص الحقائق المتعلقة بالراهن، كما بالمستقبل.
والمثير في الأمر، أن البنيات اللغوية التي تتم بها صياغة الخطابات المتمحورة حول هذه الحقائق، تبدو منفصلة تماما أو تكاد، عن القوالب اللغوية الشائعة، الحاملة لتفاصيل الحقائق ذاتها. وهذا الانفصال، هو الذي يحول دون تعرف عامة الناس على هويتهم، بعد أن تم تحويلها من نسقها الخام، إلى آخر مؤطر بمرجعياته النظرية والمعرفية. وذلك بالنظر لمحدودية قدراتهم التحليلية، المحصورة عادة في دائرة البنيات اللغوية المعنية بالإنجاز العملي، والفوري للمهام اليومية.
وفي هذا السياق تحديدا، سنلح من جديد على طرح تساؤلنا الذي لا يخلو في نظر البعض من غرابته. وهو كالتالي: ماذا لو ضربنا صفحا عن الخطابات العالمة ككل، واعتبرناها غير ذات جدوى، بالنسبة للتلقي العام الذي يفتقر، بفعل تفشي عدوى الأمية، إلى الحد الأدنى من الإمكانيات المعرفية التي تسعفه في استيعابها؟
كما أن سؤال الجدوى، يمكن أن يشمل أيضا مردودية هذه المقاربات العالمة، التي تعيش – عربيا – على أوهام ثقتها برعاية النخب لها. ما دام الأمر، يتعلق أساسا بهيمنة حياة تعبيرية /لغوية، مفرطة في تبسيطيتها واختزاليتها، والتي تتهيأ تدريجيا لاكتساح المزيد من مساحات التلقي. على أساس أن تفاقم حدة الصخب الكوني، تؤثر سلبا في إمكانية الحديث عن أي قابلية سيكولوجية ومعرفية لاستهلاك الخطابات، التي يستدعي التفاعل معها، نسبة عالية من التركيز، وإعمال الفكر.
فالانهيار الكبير الذي طال الأيديولوجيات العملاقة بترسيماتها ومفاهيمها، وآليات توصيلها، هو الآن يكتسح بنية الخطاب ككل، من حيث هو وسيط محتمل بين فضاء الحياة اليومية، وفضاء الحياة الفكرية. وأيضا من حيث هو إطار معرفي لمساءلة ومقاربة المعيش، بكل مستوياته الاجتماعية، الثقافية والحضارية. ولربما مرد ذلك، تطلع المعيش إلى التخلص التام والمطلق من مختلف أنواع الرقابات الممارسة عليه، سواء من قبل السلط الإدارية أو المعرفية. وهو بعض من توجهات الحداثة المتوحشة، التي تستمتع برؤية الكائنات، وقد أتى العمى على أجسادها وأرواحها، كي تستسلم طائعة لحراك استهلاكي، أبدا لا يترك صغيرة أو كبيرة إلا وافترسها.
شاعر وكاتب من المغرب
نحن نختلف عن غيرنا، لأن لدينا مفهوم الكلام، أو اللسان، يختلف عن لغة التدوين، وأقصد بثقافة النحن هنا هي لغة القرآن وإسلام الشهادتين، يا د رشيد المومني،
تعليقاً على عنوان (لغات بأكثر من هوية)، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!
زاوية الرؤية لمفهوم وهيكل أي لغة، يختلف، بين أهل اللغة الأبجدية (بداية من اللغة المسمارية/السومرية)، عن أهل اللغة الصورية (بداية من اللغة الهيروغليفية/الفرعونية)، عن أهل لغة الأشكال ( بداية من لغة الماندرين، التقليدية/تايوان، أو المبسطة/الصين)،
الحضارة الانسانية، عرفناها بسبب مفهوم التدوين،
إمبراطور الفرس (كورش)، بعد إطلاق اليهود من السبي البابلي، والتي بسبب هذا السبي، تم اقتباس مفهوم التدوين، في كتابة كتاب العهد القديم (التوراة) من كتاب (الإنجيل)، نقل عاصمته إلى وادي الرافدين،
كذلك فعل إمبراطور الروم (الاسكندر المقدوني)، بعده، نقل عاصمته إلى وادي الرافدين،
كذلك فعل بعده (علي بن أبي طالب)، نقل عاصمته إلى وادي الرافدين، وليس إلى وادي النيل، لماذا؟؛
ما الفرق بين اللغة الأبجدية، عن اللغة الصورية، عن غيرها من الهياكل والتصاميم، في موضوع إدارة وحوكمة أي دولة، على مر العصور، إذن؟!