في اعتقادي، كانت أخطر واقعة جمالية، وبالنتيجة سياسية وثقافية، واجهت الشاعر العربي بعد ميلاد حركة الشعر الحديث في أواسط القرن العشرين، هو ما سُمي بـ«جدار اللغة». لم تكن المشكلة في حقيقة الأمر تتعلق ـ ظاهرياً- بـ«الازدواجية اللغوية» كما فُهم من أحاديث يوسف الخال ومن بيانه العلني عام 1964، وإلا لما فشلت دعواه وعجزه عن المحاججة بها إبداعياً، في الجمع بين ما يُنظر له وما يكتب شعراً، ولما أدى ذلك في ما بعد إلى توقف مجلة «شعر» وانفراط عقد أصحابها المؤسسين بين سنتي 1962 و1968، وإنما المشكلة تتعلق بدرجة أولى بحساسية اللغة الجديدة ونظامها الداخلي عبر «ترميم» المسافة الضرورية بين الكتابة والكلام حتى تتخلص من قواعديتها وتعكس وعيها الفني والنفسي في التعبير عن الذات والأشياء وروح العصر؛ أي أن تقترب لغة الشعر من الحياة وتقيم ـ في ـ العالم الجديد.
ابتداءً من هذه اللحظة المفصلية وما صاحبها من سجال فكري وأخلاقي متعدد الأطراف (التاريخ، الدين، القومية) يمكن لنا أن نتحدث عن مغامرة اللغة، حيث أخذ التجريب فيها منحىً أكثر وعياً وتعقيداً، بعد سلسلة من «القطائع» المعزولة، التي بدأها جبران خليل جبران: لكم لغتكم ولي لغتي. ومن جهة أخرى، يمكن القول إن التفكير في اللغة انتقل من ورشة الجماعة التبشيرية والمسحورة بأساطير البعث والخلاص، في سياق المد القومي العربي، إلى ورشة الأفراد الذين تفرقوا أيادي سبأ، تبعاً لتجاربهم في الحياة والكتابة، ومهاجرهم السحيقة في المرض والمنفى، والشعور بالاقتلاع والضياع؛ أي انتقلنا من فضاء الحداثة التواصلية التي تطالب اللغة بغاياتٍ خارجها أيديولوجياً وجماهيرياً، إلى فضاء الحداثة البديلة التي اعتكفت على ما هو داخلي ومكبوت وهامشي، وقطعت مع المقدس ومع كل غائية إلا أن تكون اللغة نفسها غايةُ في حد ذاتها.
وعلى هذا الاعتبار، كانت كل صياغة نظرية «تجريبية» للغة الشعر، سواء في علاقتها بالتراث والأيديولوجيا والآخر، تُعرض نفسها لامتحان قاسٍ، وأحياناً لفشل ذريع، في ما كانت الاستعمال اللغوي الذي يستولد مقترحاته النصية على محك التجربة الداخيلة، بما تنطوي عليه من رؤيا وترميز وكشف ومفارقة وهدم وتشكيك، هو الذي أنقذ المسألة اللغوية من حساسيتها الأيديولوجية وفتحها عمودياً على ممكنات الخطاب الشعري.
تعميد النظام
ورثت القصيدة العربية المعاصرة هذه المشكلات وبقيت تعتمل في داخلها في شكل صراع أضداد ما زال مستمرا إلى اليوم، لكنها كانت مع الوقت تفهم أن حداثتها الدائمة والناشئة باستمرار، تمرّ من طريق التجريب في اللغة كإشكالية تعبير وتحويل وخلق وتنسيب، بما هي ذات صلة جوهرية بالذات والعالم وأخلاقيات الكتابة بشكل متعاضد، بعد أن خفت التجريب العروضي – الإيقاعي أو هُمش تماماً بعد هيمنة قصيدة النثر في الواقع الشعري الراهن. إن اللغة هي عصب الشعر ومِحك التجربة الوجودية للإنسان وفضاء التفاوض مع «آثار الواقعي» وطرق تلفيظها جماليا؛ هذه الفكرة بمعناها «الهيدغري» صارت أكثر تجسيداً في نصوص التجارب الشعرية المخضرمة والجديدة منذ تسعينيات القرن العشرين، وترتبَ عليها وعيٌ حاد لدى الذات الكاتبة بالشكل وبالعلاقات الأجرومية المغايرة، والتي فرضها عمودياً في نظام اللغة؛ فلم تعد مسألة التعبير مجرد انفعال آني، ولا مسألة رصف تخص شكل المفردات وعلاقات بعضها ببعض، أو حاملٍ صادر عن معرفة ما كمعطى قبلي، بل تجربة في الوجود تتشكل عبر وجوهها الحية والمتوترة حساسيةُ الشاعر بالعالم من حوله، ورغبته في أن يعيد صياغته باستمرار، ثُم رؤيته له بما تنطوي عليه من خوف وشك وغموض، وقد تَحول كل ذلك إلى ما يشبه مختبراً من النبرات والاستعارات والرؤى الشخصية، يتأسس عليه الوجود ويعكس في أبرز وجوهه الرئيسية مطلب الفرادة الشعرية، وتحرير طاقاتها المكبوتة باللغة وعبرها، بل قاد ذلك إلى ثلاث عمليات «تحرير» طموحة وشاقة:
تحرير الشكل من أحاديته ووجوه انتظامه القبلي.
تحرير المعنى من أسبقيته في بناء الخطاب، ودمجه في شبكة تأويلات لا تنتهي، فيما هي تنزلق من دال إلى دال.
تحرير القارئ من مسبقاته «الشفاهية» وفُهومه المتعينة، على نحو ساهم في تعدد القراءات.
اللغة بوصفها تجربة كيانية
من الصعب، إن لم يكن من شبه المستحيل، أن نُجْري مسحاً طوبوغرافياً وإحصائياً دقيقاً لأشكال أو صيغ الاستخدام اللغوي في الشعر العربي المعاصر؛ بسبب ترامي المتون النصية وتنوعها، وتعدد فاعليها من الجنسين على اختلاف أعمارهم وحساسياتهم ورؤاهم للعالم، لكن بوسعنا أن نعرض تقييماً أولياً يأخذ بعين الاعتبار ما تُقيمه اللغة في نظام الشعر من ترتيب علاقات جديدة؛ شكلية وتركيبية وتخييلية، أي ربط اللغة كنظام بالتجربة الكيانية كأسلوب حياة وموقف وحساسية ورؤية مختلفة للذات والعالم.
في هذا السياق، أزعم أن اللغة تُجدد نفسها وتثمر المسألة الشعرية برُمتها، من خلال هذه التجارب الكتابية التي تنزاح للفردي على حساب الجماعي، ولليومي والمعيش بدل التاريخي والأيديولوجي، وللمختلف والصادم بدل السائد والمجمع عليه:
التجربة الشخصية؛ وهي تنفتح على ذاكرة أنا الشاعر وطفولته وتكوينه، فيما هي تسائل جذور الوجود الفردي وتعيد تأويله ذاتياً؛ إنها تقتفي حياة لازمنية عبر سيرورة تستضيء عمودياً بآليات اللاوعي والحدس والحلم، بدلًا من أن تكون اندفاعا أو توجها أفقيا من الحاضر إلى الماضي. فالحياة المستعادة ضمن هذه التجربة هي سيرورة أكثر من أن نعتبرها ترتيبا زمنيا خطيا وجامدا لأحداث الماضي. تتكئ اللغة ـ هنا- على طاقة الإيجاز والتكثيف، التي تجعل من الكلمات «بروقاً» خاطفة وإيحائية تلتمع في جسد القصيدة كما في ذهن القارئ، وتحاول أن تكشف تفاصيل هذه التجربة في علاقتها بمفردات الألم واللذة والاغتراب والفراغ والموت، في ما يمكن وفي ما يستحيل على حد سواء. ومن خلال شذراتها الاستعادية المتشظية، تفاوض من أجل المغزى الأخلاقي لكينونة الفرد، بقدر ما تسعى عبر اشتغالٍ صَبورٍ ومُضْنٍ على اللغة لكي تتحرر من الذاكرة وتبتكر تاريخاً جديداً للأنا المتلفظ في اللغة وعبرها، كما في نصوص حسب الشيخ جعفر، وعباس بيضون، ووديع سعادة، وقاسم حداد، وسيف الرحبي، ومحمد بنطلحة، وهاشم شفيق، والمهدي وأخريف، وفتحي آدم وغيرهم.
التجربة الميتاشعرية؛ وهي نتاجٌ عن أزمة هوية لدى ذات الكتابة، أو مأزق جمالي تنتهي إليه في مرحلة متطورة من مشروعها الكتابي، وتريد أن تواجهه في كل لحظة وتُنبه قراءها إليه، فتتولى القصيدة بلغتها الواصفة الخاصة، الكلام ليس عن الشعر وما يتعلق به وحسب، بل كذلك عن وعي اختلافي حاد ينذر نفسه لمقاومة مواضعات عالمٍ مادي شرِهٍ يرفض الذات وفعل كتابتها، ويُبخس رسالة فنها والتزامها الجمالي. إنها تقع في صميم كُل مغامرة شعرية ناشئة باستمرار، لا تحجب ميل لغتها النقدي الذي تخترقه استبطانات ذاتية وحدوساتٌ تأملية، لكن قد تتحول لدى البعض إلى تمارين ذهنية، أو منبتة من سياقها الفني، كما لا تحجب ميلها الحداثي لصوغ هُويتها المتجددة باستمرار؛ كما في نصوص صلاح فائق، وشربل داغر، ومحمد بنيس، وشوقي بزيع، ومحمد الغزي، وعبد الله زريقة، ونوري الجراح وغيرهم.
التجربة الأنثوية؛ ليس على أساس الاختلاف الجنسي، بل على محك القيمة التي تتأتى من وظيفة تدبيرها في فضاء اللغة، وتضفي عليه هُوية أنثوية ملموسة تحتفي بالجسداني، وتنظر إلى العلاقات بينه وبين الأشياء من خلال زوايا مبتكرة وحميمية تثري لوحات العالم الشعري، وتبعث الهمهمات المطمورة في أعماق سحيقة من اللاوعي.
التجربة العرفانية؛ هي امتدادٌ للتوظيف الصوفي الذي شغل شعراء الحداثة خلال عقودٍ خلتْ، غير أنها تَطورتْ عنها من حيث القيمة والوظيفة؛ فمن جهة، تخففت اللغة من الرموز والأقنعة الصوفية التي كانت تجسيداً لغياب الذات في التاريخ وعَجْزاً عن مواجهة الواقع، ولم يعد أنا الشاعر يصطنعها في حالة السلب والتلاشي للنفاذ بوعيه إلى عالم المُثل والمطلق، بحثاً عن ملاذ روحي يُعوض به عن إحباطه وإخفاقاته في الواقع، بل التجربة ـ هنا- تريد أن تبني لغوياً على أنقاض الواقع ومفرداته المبتذلة شكل الحقيقة الأكثر إمكاناً في الوجود العياني، وإرواءً لعطش الذات الروحي وأشواقها وحدوساتها، بلا مطلق ولا متعاليات. وتريد أن توقظ لدى المتلقي قدرة تأويلية لفهم العالم ومواجهته، وتُشْركه نشوة الحلم الخارج ولذة الاكتشاف. فهي ليست ذات جذر ديني صرف يُكرس لاهوت اللغة ويُسلم بمعطياته، ولا هي اتجاهٌ ينزع إلى «قَدْسَنة» الرؤية الشعرية للعالم، وتغدو اللغة عبرها حقلاً إشارياً مبتكراً، يمكننا من تجاوز السطحي إلى الجوهري، ويسمح لنا أن نرى العالم، كما نحلم به بِكْراً وطازجاً، وننسج معه جسراً داخل التجربة لا بالانفصال عنها، كما في نصوص محمد السرغيني، ومحمد علي شمس الدين، وأحمد الشهاوي، وأحمد بلحاج آية وارهام، ومحمد آدم، وأديب كمال الدين، ولطيفة المسكيني وغيرهم.
تجربة الحياة السيميولوجية؛ وهي تتقصدُ إعادة تمثيل ذاتي لما في المعيش الإنساني المعاصر من تفاصيل ومشهديات والتقاطات ومباذل حياتية، ومن تحولات المجال العياني المتسارع، بواسطة لغة سردية وأليغورية تستمد مفرداتها من القاموس اليومي، دون أن تبقى أسيرةً له، أو تبقى عالة على «نثرية الحياة» كأنها غاية في حد ذاتها؛ فهي تعيد شَخْصَنة هذا اليومي وتنقذه من تكراريته إلى أن يتجلى في اللغة كحياة موازية بما تنبض به من مفارقات وصور غرائبية، وشذرات حكمية تتحرك ضمن بلاغة متقشفة ولعبية، وقياسا إلى الأثر الذي تُحدثه في الكلمات وتوسع به مدلولات اللغة أو تنقله إلى فضاء تأويلي مختلف، كما في نصوص حسن نجمي، وغسان زقطان، ومنصف الوهايبي، ومبارك وساط، وأسعد الجبوري، ومحمد القليني، وعبد الهادي السعيد وغيرهم.
التجربة الأنثوية؛ ليس على أساس الاختلاف الجنسي، بل على محك القيمة التي تتأتى من وظيفة تدبيرها في فضاء اللغة، وتضفي عليه هُوية أنثوية ملموسة تحتفي بالجسداني، وتنظر إلى العلاقات بينه وبين الأشياء من خلال زوايا مبتكرة وحميمية تثري لوحات العالم الشعري، وتبعث الهمهمات المطمورة في أعماق سحيقة من اللاوعي. ولم يعمل ذلك على كشف الممرات المعتمة والمكبوتة، أو القوى الكامنة داخل تلك الكتابة، بوصفها كتابة اختلاف، وتفجير قيمها في نسقٍ من العلامات يختص باستخدام الشاعرة للغة، بل يعمل ـ بالنتيجة- على تحرير جسدها من أساليب التصوير ذوات المنزع السنتمنتالي المتمحل، وتحرير كلامها من الحبسة التي عانت منها وسط تمثيلات السنن الشعري التي استقرتْ لقرون طويلة.
إن مثل هذه التجربة، كما تقترحها نصوص مليكة العاصمي، وزليخة أبو ريشة، وإيمان مرسال، ولينا الطيبي، ومرام المصري، ووفاء العمراني، وسعدية مفرح، وفوزية السندي، وربيعة جلطي، وفاطمة الشيدي، وثريا ماجدولين، وبروين حبيب، وغادة خليفة وغيرهن، توسع في وعي اللغة الشعرية كتابةً أُنثويةً، تنهل سماتها من هُوية الذات، وتتجلى وظيفتها في قدرتها على تمثيل تجاربها والتعبير عنها في ضوء شروط الأنوثة الذي يتحرك داخل تراكيب وصور وتوريات وأمشاج مُتخيلة، توحي باللين والهشاشة وحيناً، وبالجاذبية المُشعة بالرغبة والشغف والألم والذكرى، وبالتالي تعيد تثمين واكتشاف مجموع الكلمات التي تعبر النسيج الشعري وتٌحررها من عمود الفحولة.
ثراء العالم
كل تجربة من هذه التجارب الخمس، ورُبما غيرها، تكشف طريقة تفكيرها في اللغة واستخدامها لها، وتشف عن تفاوت في فهم علاقة الشعر باللغة، وعلاقتهما معاً بالعالم؛ وهذا يستدعي في كل مرة أسلوباً خاصاً. عدا الأساليب التي استقرأها الناقد المصري صلاح فضل، والتي كانت نتاج مرحلة ثقافية مضت (الدرامي، الرؤيوي، الغنائي، التجريدي..) ثَمة أساليب جديدة ومتحولة (العرفاني، السيرذاتي، النسوي، الشذري والإبيجرامي.)؛ بعضها تململ من مكانه، وبعضها برز بقوة بعدما كان محتجباً، وبعضها الآخر وُلِد من رحم تجارب الحساسية الجديدة. بموازاةٍ مع ذلك، كانت هذه التجربة أو تلك تنقل، تبعا لشرائط ودوال خاصة، موادها البانية وأسئلتها من الذات التي تُشيد لغتها ورؤيتها للعالم على ملحمية التاريخ وهتافات الجماعة إلى الذات الفردية، التي تشي بتصدعها وهشاشتها، ولا تُؤسس شرعيتها إلا من صميم الكتابة ومنطقها الداخلي، ومن الأبنية الطويلة والمركبة ذات النفس الملحمي، إلى الأبنية الشذرية الكثيفة والمتقطعة، ومن الرؤى المشدودة بقوس الأيديولوجيا المُعممة دلالياً في بعديها القومي والإنساني، إلى الرؤى المتراخية التي تنظر للعالم بتأس وانوجاد حيناً، وبعراء ولامبالاة حيناً آخر.
إن تعدد هذه التجارب تبعاً لِتعدد التعبيرات ووسائط تداولها، يتيح لنا اليوم فهم علاقتنا باللغة العربية التي يقترحها علينا الشعر المعاصر، بل يستدعي عوالم شعرية ومُتخيلة بديلة صار من الممكن أن نسكنها، ونلتقي فيها ونتلقى الإنساني فينا بصورة مدهشة وغير متوقعة؛ وإذن، فإن هذه التجارب ليست شأناً خاصاً من ذات إلى ذات، بل هي تضع نفسها داخل محافل القراءة، التي ما يزال هامش حضورها وفاعليتها محدوداً للغاية، في مواجهة ثلاثة مخاطر أساسية ومتعاظمة تتهدد مستقبل اللغة في الشعر ومشروعها الجمالي: الرقمنة، والنمطية السائدة، والشعر المترجم كيفما اتفق. وهذا يضيف إلى أعباء الشاعر المعاصر عبئاُ إضافياً آخر؛ أن يكون مسؤولاً على اللغة من خلال إثراء معجمها عاطفياً وفكرياً، وتثمين خواصها الجمالية وحماية عمقها الإنساني.
كاتب مغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقالات هذا الكاتب المتمكن الوراري يجب ان تدرس في الجامعات
حبذاالتواصل كصديق
[email protected]
مقال ممتاز حاول الاحاطة بمعظم تجارب الكتابة الشعرية منذ بدايات الانزياح الاولى نحو قصيدة أكثر تجريبا وتحررا ما تحتاجه الكتابات الحالية بعد التصفية هو هذه المتابعة النقدية ليس فقط للشعر بل الى منزع اللغة العربية التي لن تتحرر بالمعنى الجمالي الا بتحرير الانسان والرؤى من ربقة ماض لا يتوقف عن التأثير