لغة الشعر والنثر بين ضَبابية الغموض وشَفافية الوضوح

اللغة في الشعر غير اللغة في النثر، فبينهما فرق شاسع يدركه حتى الدارس العادي المتسرع بسهولةٍ ويُسر، اللغة في الشعر فياضة مموجة، متداخلة، متناوشة، رمزية، مُوحية، مُوفية، متكاثفة لا منطقية ولا محددة، واللغة في النثر عكس ذلك على الإطلاق، إنها لغة واضحة، مباشرة، صريحة مركبة، منطقية، ومحددة.

بين قمر ابن المُعتز ودمُوع تينيسُون

صحيح إن كل عملٍ أدبي سواء كان قصيدة، أو قصة تتعدد فيه المفاهيم والدلالات، ولكن هذا ينطبق على الشعر أكثر من انطباقه على النثر، إذ أن القصيدة – كما هو معلوم- أصعب إلى الفهم من القصة القصيرة على سبيل المثال، والمقصود هنا بطبيعة الحال قصيدة من الشعر الجيد الذي يعالج أموراً عظيمة ذات شأن ووزن كبيرين، وقد يشذ عن هذه القاعدة الشعر الغنائي والمقطوعات السريعة التي يتغنى أصحابها فيها بمنظر طبيعي كوصفٍ لقمرٍ ساطع، أو شجرةٍ باسقة، أو نهرٍ رقراق، فإذا سمعنا ابن المعتز يقول على سبيل المثال واصفاً القمر الذي تبدى له ذات ليلةٍ في كبد السماء:
أنظر إليه كزورقٍ من فضةٍ / قد أثقلته حمولةٌ من عنبرِ
فلا يخالجنا شك البتة في أن الشاعر لم يعنِ من وراء بيته هذا سوى أنه رأى القمر سابحاً في الفضاء فتخيله كزورقٍ من لُجَين وهو مثقلٌ بنسائم زكية عبقة فواحة من العنبر والمسك، وهذا عكس إذا سمعنا الشاعر الإنكليزي ألفريد لورد تينسُون يقول مثلاً:
الدموع، الدموع العقيمة لا أعلم ماذا تعني..
الدموع من أعماق يأسٍ مقدس تنبع من القلب..
وتجتمع في العين..
حين أنظر إلى حقول الخريف السعيدة..
وأفكر في الأيام التي ولت.
لا شك في أننا نلحظ بوناً كبيراً بين بيت ابن المعتز «الواضح» وأبيات تينيسون الأخيرة «الغامضة» ففي هذه الأبيات لا يتضح لنا المعنى جلياً من أول وهلة، بل علينا ان نبذل كبيرَ عناءٍ إذا ما أردنا التعرف على قصد الشاعر في الأبيات، ويسُوق أستاذنا في آداب جامعة عين شمس في القاهرة، الناقد مصطفى ناصف في كتابه القيم «مشكة المعنى في النقد الحديث» – يسوق تساؤلاً للناقد الأمريكي كلينث برُوكس عن مغزى هذه الأبيات بالذات فيقول الناقد: أهي دموع عقيمة حقاً؟ أليست من باب أولى أن تكون دموعاً ذات مغزىً كبير؟ إن وصف الدموع في البيت الأول بأنها عقيمة يشهد في نفسه على أنها تنبع من بواعث أعمق وأعم. الدموع عقيمة يعني أنها لا تصدر عن سبب مباشر معلوم، ولكنّ لها أسباباً أخرى أبعد غوراً، وأكثر شمولاً، في هذا المعنى يكمن التناقض الظاهري، ويدل البيت الثالث على أنه لا شك في أن يأساً مقدساً هو مصدر تلك الدموع، لقد افتتح الشاعر القصيدة بطريقة درامية جريئة، إن لم يكن قد ساوى بين العقم والنبوغ من أعماق يأسٍ مقدس.
ولكي يتضح لنا أكثر أن الأمر ليس بهذه السهولة أسوق تعليق مصطفى ناصف أيضاً في المصدر السابق نفسه فيقول: « الدموع تنبع من القلب حين ينظر المتكلم إلى مشهدٍ جميل هادئ، وهل تستدعي حقول الخريف السعيدة إلى الذهن الأيام التي ولّت؟ الشاعر لا يصرح بشيء من هذا بل إنه يقول: إن الدموع تصعد الى العين حين تنظر إلى حقول الخريف وحين تنظر إلى الأيام التي ولّت. وبعبارة أخرى ليس في القصيدة رابطة دقيقة موثقة بين هذه الأحداث». وقد يرغب معظم القراء في علاقة أكثر دقة وصراحة، إن الحقول، حقول الخريف، وهي تشير على الرغم مما فيها من سعادة أو بهجة إلى شيء انقضى فكأن الحقول – إذن- تربط المتكلم بالماضي وتوحي – بحق – بطائفةٍ من الأفكار عنه، وينبغي أن نلاحظ أن الوحدة في هذه المقطوعة لا تجد من منطق اللغة العادية سنداً واضحاً». والمقطوعة توحي بضربٍ من لعب الذهن، فالدموع تبدو غير متوقعة، الدموع التي لا يجد لها المتكلم سبباً كافياً، وحين يتحدث عن تفسيرها لا يملك إلا أن يسميها دموعاً عقيمة، ولكنه عندما يقول لا أعلم ماذا تعني يثق أو يؤكد انه لا بد لها من منبع آخر في أعماق وجوده، ومن ثم يربط بينها وبين يأسٍ مقدس. وفضلاً عن ذلك فإن سبب الدموع الحقيقي، ولو أن المتكلم لا يحققه إلا عند منتهى المقطوعة، وهو تذكر الماضي وعلى ذلك يمكن من الوجهة السيكولوجية والدرامية، أن نجد مجيء السبب الحقيقي في البيت الأخير من المقطوعة.

«الأرض الخراب» ومتاهات الغموض

ربما رأينا ـ حتى الآن- أن لغة الشعر الحق لغة متداخلة يبدو فيها تناقض ظاهري واضح، أو ربما هو كذلك بالفعل، وقد دافع النقاد الجدد أمثال كولاريدج وريتشاردز ورانسُوم وأوغدن وغيرهم ممن وقفوا عند هذا التناقض الظاهري، أو التناقض الصحيح وقالوا إن التفكير الذي يكشفه الشاعر يصلح كثيراً في اختبار تعقيدات الحياة واختبار حقائقها وما فيها من تباين كثير. ومن هنا يرى بعض النقاد أن الغموض في الشعر كان هو المرمىَ البعيد الذي يتوق إليه كل شاعر يريد أن يحقق لنفسه نبوغاً أو تفرداً في عالم الإبداع الشعري، ومن ثم تعد قصيدة «الأرض الخراب» أو «الأرض اليباب» أو «الأرض الضياع» للشاعر البريطاني – الأمريكي ت. س. إليوت، المثل الواضح لما نذهب إليه، ففي هذه القصيدة من المتناقضات ما لا تستطيع معها المتابعة والتنقيب عن دلالاتها البعيدة، ويعترف إليوت نفسه حين يرد على الناقد ريتشاردز متهماً إياه عدم فهمه لقصيدته فيقول: «وبهذا فإني حين أطلع على تقرير المستر ريتشاردز بأن «الأرض الخراب» تستحدث فصماً تاماً بين الشعر وجميع المعتقدات» لا أجدني أحق من غيري من قرائها بأن أقول كلا! ولكن أعترف بأنني أعتقد أن المستر ريتشاردز إما أن يكون مُخطئاً أو أنني لا أفهم معناه». بينما يري الناقد ناصف في هذه القصيدة أنها: «استجابةً مناسبة لحالة الخواء الوجداني والعقائدي في عالمنا الراهن».
وهكذا نرى أن عالم الشعر عالمٌ سحيق لا يرتاده إلا من أوتي الشجاعة الكافية والموهبة الفذة سواء في عملية الخلق فيه، أو الخوض في الحديث عنه. ولا أستطيع – بطبيعة الحال- أن أجحد عن النثر مع ذلك مشاركته الكبرى للشعر في هذا الصدد، فالتراث الخالد الذي خلفه لنا عباقرة العالم يشهد على علو كعب وسمو مقام هذا اللون من التعبير، الذي يندرج مع غيره من الألوان التعبيرية الأخرى تحت اسم الفن.

المازني وخيوط عنكبوته!

وأخالني نأيتُ قليلاً عن الموضوع الذي افتتحتُ به هذا المقال، لذا أعود لأقول بأنني إنما توخيت من جراء ذلك أن أوضح مدى الفرق الشاسع الذي يوجد بين أسرار لغة الشعر الضبابية الغامضة، وخصائص لغة النثر الواضحة الشفافة. سيتبين لنا بعد قليل كيف أن للشعر أسراراً ومقاييس، وللنثر خصائص ومعايير كذلك بعد أن نضرب مثلاً للغة النثراليومية العادية. الكاتب المصري الساخر إبراهيم عبد القادر المازني في كتابه «خيوط العنكبوت» تحت عنوان «في سبيل كتاب» يقول: «زلت قدمُهُ في الطين، وأمطره السكان بما بقي في السلطانية من مرق الفول النابت، وكان الطريق ضيقاً، صده جدار، وألقاه في أحضان جدار آخر، ورمى به هذا على صدر رجل: فاكر نفسك إيه؟ سكران حضرتك؟ ثم لم يكد يقطع ثلاثة أمتار حتى صك ظهرَه حجرٌ، فالتفت إلى الولد الذي ضربه ليؤدبه، فتبعه شاب آخر أكبر منه يصيح: عمل إيه الولد حتى تضربه؟ واختفى المازني في بيتٍ خوفاً من سفه هذا الشاب، ودخل صاحبُ البيت وراءه، فتعجب من جرأة هذا اللص الذي قعد يدخن سيجارة، وعرف صاحب الدار أن شاباً يتعقب المازني بعد أن قذف النافذة بحجرة» إلخ. ولعلك ترى وليس من المتعذر عليك أن تدرك بسهولة ويُسر فهم ما كان يعنيه ويقصده المازني من هذه القصة الطريفة.. خاصة أن المازني، رحمه الله، معروف بسخرياته اللاذعة حتى سماه الشاعر المعروف صلاح عبد الصبور في كتابه «ماذا بقي منهم للتاريخ؟» سلطان السخرية في مصر.
وهكذا يتضح لنا أننا في لغة النثر لا نحتاج إلى كبير عناءٍ أو جهدٍ أو تأويل ٍ لإدراك فحوىَ العمل الذي نحن بصدده.. هذا على عكس لغة الشعر على آخر الخط .

كاتب ومترجم من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية