الصورة التي تداولتها وسائل الإعلام للقاء السداسي الذي عقد في أبو ظبي كانت تعتبر أمراً مستبعداً منذ سنوات، ومثل أي حدث سياسي، فإن طبيعته وتوقيته لا بد وأن يطرحا التساؤلات، وأن يصبحا مدخلاً لقراءته، خاصة أن التغطيات الإخبارية، التي تناقلتها وسائل الإعلام عن المصادر الرسمية أتت مقتضبة وتقليدية تحمل المعطيات نفسها التي تصدر في المناسبات المماثلة.
قراءة الحاضرين والغائبين أخذت تلفت الانتباه، وبطبيعة الحال، كانت السعودية في بؤرة الاهتمام، والقمة إذا كانت ذات طبيعة خليجية، بحضور عمان والبحرين مع الإمارات وقطر، فالتساؤل أيضاً سيشمل الكويت أيضاً، وفي التفسير الاقتصادي، فإن تصريحات وزير المالية السعودي وحديثه عن انتهاء زمن المساعدات غير المشروطة، والنقاشات الساخنة في مجلس النواب الكويتي التي تقف ضد تقديم الدعم المالي لمصر، يمكن أن يصبحا مدخلاً لتفهم التغيب مع افتراض الجانب الاقتصادي للقاء أبو ظبي، وهو ما ليس كافياً، فالمواقف بخصوص تقديم الدعم الاقتصادي لم تتم إدارتها من خلال اللقاءات على هذا المستوى. من اللافت أيضاً، تغيب المغرب، خاصة أن الكثير من الأحاديث أثير، في وقت سابق عن مقترح انضمام الأردن والمغرب إلى مجلس التعاون الخليجي، ويمكن فهم التغيب المغربي في إطار العلاقات المضطربة مع الجزائر، وتجنب أن تظهر دعوة المغرب بوصفها تنحية للجزائر جانباً، خاصة بعد القمة العربية الأخيرة التي أظهرت بعض الانزعاج الجزائري من مستوى التمثيل الذي لقيته بين القيادات العربية. الحضور العماني في حد ذاته، يؤشر إلى أمور كثيرة حول طبيعة اللقاء، فالسلطنة اعتادت أن تحتفظ بمسافة معقولة من العمل العربي المشترك، وتفضل أن تدير علاقاتها في الإطار الثنائي، ولم يحدث سوى تغير محدود بعد رحيل السلطان قابوس، لا يمكن أن يعتبر انفتاحاً كاملاً. في إطار السياقات، يصعب تجاهل اللقاء الثلاثي في القاهرة بين الملك عبد الله الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي، من حاضري اللقاء، والرئيس محمود عباس المتغيب، بما يعكس وجود قناعة سلبية تجاه السلطة الفلسطينية، وأن الأردن ومصر سيبقيان المدخل للتعامل مع أسابيع ساخنة مقبلة مع الحكومة الإسرائيلية المنتخبة مؤخراً، وصبغتها اليمينية الفاقعة، ولكن غياب عباس لا يعني غياب الشأن الفلسطيني الذي استعاد بعضاً من زخمه على المستوى الشعبي في التمثلات التي شهدها مونديال قطر. وتبقى إيران، ويمكن تفسير حضورها بصورة استثنائية بوصفها موضوعاً محركاً للقاء، بتغيب العراق الأمر الذي ينفي الطبيعة الاقتصادية للتشاور في أبو ظبي، وعلى الأقل يدفعه لمرتبة تالية في الاهتمام، ويبدو أنه توجد تخوفات من مغامرة (إسرائيلية) تجاه إيران، التي لم تستطع أن تحتوي أزمة الاحتجاجات التي رافقت مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق قبل أشهر. الدول العربية ليست متحمسة بأي شكل لحرب مباغتة من الجانب الإسرائيلي على إيران، فالتكلفة في الخليج ستكون أعلى من أي مكان، والأمريكيون أرسلوا مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ليتحدث في الملف الإيراني، وهو ما يبدو متوازياً مع تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأنه لن ينجر إلى حرب غير ضرورية مع إيران، مع الحديث التقليدي عن الجاهزية الإسرائيلية لمختلف الاحتمالات. بربط بقية الأحداث، والمفاجآت السياسية الأخرى، والقمة السعودية ـ الصينية، وقبلها المواقف السعودية في ملف النفط، وقمة بغداد 2 في عمان ومخرجاتها، ولقاء السيسي وأردوغان على هامش افتتاح مونديال قطر، والانفتاح التركي المتواصل مع الدول العربية، وزيارة وزير خارجية الإمارات إلى سوريا، فالوضع يؤشر إلى وجود ترتيبات إقليمية واسعة تصل إلى مرتبة التحولات المشابهة لما أسفرت عنه مرحلة انهيار الإمبراطورية العثمانية، وحقبة الاستقلال في المنطقة العربية، ولا يعني ذلك، أن الأمر يمكن أن يصل إلى خرائط جديدة.
يتغير العالم اليوم، وتوجد مشكلات في علاقات الإنتاج والاستهلاك، ومديونية مفرطة وجزء منها مستجد في الاقتصادات النامية، ما يشكل تهديداً لاستقرار صناديق التقاعد والاستثمار في الدول المتقدمة، مع تغيرات تجاه التجارة المفتوحة والمعولمة بعد أزمة كورونا، وكذلك حالة من الغموض في المسارات السياسية في الولايات المتحدة بعد فشل الجمهوريين في حصد تعثرات الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الانتخابات النصفية في مجلس النواب والشيوخ، ومراجعة واسعة في أوروبا، وحرب أخذت مسارات خارج المتوقع في أوكرانيا، وهذه الأمور تستدعي بطبيعة الحال فرصة واسعة لالتقاط الأنفاس، وبتحليل الصورة التي جمعت القادة في لقاء أبو ظبي وجلوسهم في فضاء مفتوح، يظهر الحرص على تجنب وضعية المواجهة المبطنة مع أي طرف، ولكنه يتجاوز كثيراً فكرة العصف الذهني لأن التحركات المتواصلة التي سبقته تجعل بعضاً من الأفكار صارت واضحة وقطعت طريقها أصلاً نحو مرحلة معقولة من البلورة والاكتمال.
لقاء أبو ظبي ليس منفصلاً عن السياقات العامة المتفاعلة مؤخراً، وحقيقةً لا يوجد غائبين بالمعنى المتعارف عليه، ولكن توجد دول متحمسة أكثر من الأخرى من أجل التحرك في ملفات معلقة، ودول أخرى تتمهل وتراقب وتحمل مواقف تميل إلى التشاؤم، بخصوص بعض الملفات، أو منشغلة بملفات تراها أكثر إلحاحاً، ولأن التكهنات حول التشاور لا تترك فرصة سوى محاولة تركيب وتفكيك الصورة، وربطها بمجريات الأحداث، فإن نتائج الاجتماع التشاوري في أبو ظبي ستفسر نفسها خلال فترة وجيزة، وكل ما يمكن قوله إنها ليست نهاية لمرحلة الما- قبل ولا تنفصل عنها، ولكنها ستبقى عاملاً مؤثراً في الما- بعد وجميع ما سيحدث من لقاءات ثنائية أو ثلاثية، والمواقف التي ستتخذ من دول اللقاء من ملفات ثلاثة، وهي إيران وإسرائيل، والأوضاع الاقتصادية في أكثر من بلد عربي.
كاتب أردني