الإمامة في الإسلام، واحدة من عقد التاريخ السياسي الإسلامي التي جرت بسببها دماء كثيرة. ومع أن المعنى اللغوي البسيط والمباشر للكلمة في المعاجم هو، «مَن يأْتَمُّ به الناسُ من رئيس أو غيره، ومنه إمام الصلاة». إلا أن المصطلح تطور تاريخيا وسياسيا، ليصبح أحد أعقد مشاكل الصراع بين الطوائف الإسلامية في تاريخها القديم، حتى اعتبره بعض الباحثين النقطة الفاصلة في الانشقاق الأكبر في الإسلام، إلى الإسلام السني والإسلام الشيعي، اذ يستعمل أهل السنة لفظ الإمام بما يرادف معنى الخلافة، في كتبهم الكلامية عند ما يتناولون مسألة البحث في الخلافة (التي تقابل معنى الإمامة عند الشيعة) فيشترطون في الإمام ما يشترطونه في الخليفة وينفون عنه ما ينفون عن الخليفة، ولا تعتبر المذاهب السنية مسألة الإمامة أصلا من أصول الدين، بل هي من الفروع.
مصطلح الإمام تطور تاريخيا وسياسيا، ليصبح أحد أعقد مشاكل الصراع بين الطوائف الإسلامية، واعتبره البعض النقطة الفاصلة في الانشقاق إلى الإسلام السني والإسلام الشيعي
بينما يعتبرها الإسلام الشيعي: زعامة ورئاسة إلهية عامة على جميع الناس، وهي أصل من أصول الدين، لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا بد من أن يكون لكل عصر إمام وهاد للناس، يخلف النبي (صلى الله عليه وسلم) في وظائفه ومسؤولياته، ويتمكن الناس من الرجوع إليه في أمور دينهم ودنياهم، بغية إرشادهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم.
لذلك بقي لقب الإمام محصورا بالقيادة الدينية، وأحيانا تم الجمع بين السلطات الدينية والدنيوية في مركز الخليفة الذي هو الإمام في الوقت نفسه. وقد تجلى ذلك في أوضح صوره تاريخيا في الخلافة الفاطمية، القائمة على أسس الفقه الشيعي الإسماعيلي، إذ جمع الإمام الإسماعيلي بيده السلطات الدينية باعتباره إمام الزمان، والسلطات الدنيوية باعتباره خليفة رسول الله وحاكم الدولة. وفي التاريخ الحديث في دولة الإمامة الزيدية في اليمن، ودولة الإمامة الأباضية في عُمان. تغيرت الألقاب الدينية تاريخيا، ولم يكن المشتغلون في المؤسسات الدينية من فقهاء ومحدثين ومفسرين، يحملون ألقابًا تبجيلية تسبق أسماءهم طوال القرون الاربعة الأولى من عمر الدول الإسلامية، بل كانت اسماؤهم وألقابهم تعود إلى نسبهم أو مدنهم أو مهنهم. وفي العصر العباسي المتأخر ظهرت ألقاب حملها بعض الفقهاء، وقد تم تمييزهم بهذ الألقاب، مثال ذلك لقب (حجّة الإسلام) التي اختصّ بها أبو حامد الغزالي (505هـ) واستمرّ مختصّاً به لقرون في الإسلام السنّي، ويبدو أنّه لم يتم استخدام هذا اللقب قبل الغزالي إطلاقاً. كما حمل الجويني لقب (إمام الحرمين)، ولقب (المحقّق) الذي اشتهر به نجم الدين الحلّي بين الإماميّة، لكن على أيّة حال ظلّ هذا الوضع محدوداً للغاية. وقد بقي الوضع على ما هو عليه في محدودية الرتب والألقاب الدينية طوال العهد الصفوي، مع بعض الاستثناءات هنا وهناك. لكن في العقود الأخيرة من العهد القاجاري ظهرت فجأة سلسلة التوصيفات التي لم تكن مسبوقة بهذه الطريقة من قبل، حيث استخدم ولأوّل مرّة ـ بعد الحلّي وبحر العلوم ـ لقب (آية الله) ليصبح لقباً شائعاً وعاماً في تلك الفترة، ولمزيد من التمييز ظهرت ألقاب تبجيلية اخرى حملها بعض الفقهاء مثل (آية الله في الورى)، و(آية الله في الأنام)، و(آية الله الأعظم)، و(آية الله المعظّم). وإلى جانب هذه الألقاب ظهرت الألقاب الأخرى مثل: حجّة الإسلام والمسلمين، وشمس الواعظين، وإمام الملّة والدين. وهنا تجدر الإشارة إلى زاوية مهمة تتعلق بلقب ومنزلة ما يعرف اليوم بـ(المرجع الديني الأعلى) لدى الشيعة الإمامية، وارتباط هذه المكانة بما بات يعرف بـ(الإمام) مثل (الإمام السيستاني) في النجف. وبالاعتماد على مصدر مهم لمرجع شيعي مميز هو، الإمام محمد مهدي شمس الدين (1936-2001) الذي ترأس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، والذي قال في كتابه «الاجتهاد والتجديد» ما نصه: «نأتي هنا إلى مصطلح تم تداوله كثيرا في السنتين الأخيرتين، وهو مصطلح (المرجع الأعلى) هذا المصطلح خلق وهما مزعجا في أذهان الناس، بأن هناك في التنظيم المرجعي الشيعي عند المسلمين الشيعة منصبا أو مهمة مرجع أعلى. هذا المصطلح (مرجع أعلى) لا أساس له إطلاقاً بالشرع، ولا أساس له قبل الشرع الإسلامي في الفكر الإسلامي، أصلا لا يوجد في الفكر الإسلامي، ولا الشرع الإسلامي خارج نطاق المعصومين، وخارج نطاق النبي محمد، ولا المعصومين الأئمة (عليهم السلام)، مرجع أعلى على الإطلاق». ثم يبين شمس الدين نقطة خطيرة هي: «وأقول للتاريخ إننا في عهد الإمام السيد محمد باقر الصدر نحن مجموعة من الناس، وأنا واحد منهم رحم الله من توفاه، وحفظ الله من بقي حياً. نحن اخترعنا هذا المصطلح. في النجف اخترعنا مصطلح مرجع أعلى، وقبل مرحلة الستينيات لا يوجد في أدبيات الفكر الإسلامي الشيعي هذا المصطلح على الإطلاق». ثم يشرح شمس الدين سبب ذلك بقوله، «هذا المصطلح أوجدناه حيث كنا مجموعة نعمل في مواجهة نظام عبد الكريم قاسم المؤيد للشيوعية، في نطاق جماعة العلماء، وفي نطاق مجلة «الأضواء»، وأردنا أن نوجه خطاباً سياسياً للخارج، سواء كانت مرجعية السيد الحكيم هي المرجعية البارزة وليست الوحيدة، أو كانت مرجعية السيد البروجردي في إيران هي المرجعية البارزة. اخترعنا هذا المصطلح واستعملناه، وآسف إذا أصبح مصطلحاً رائجاً، وهو لا أساس له على الإطلاق، استخدمناه وأفادنا كثيراً، ولكن نحن استخدمناه كآلية، ولم نكن، مؤقتا نريده غلاً، ولا نريده عائقاً».
إذن الالقاب والرتب الدينية لها دوافع سياسية تؤطرها وتبلورها اجتماعيا، وهنا نصل إلى اللقب الاخطر في هذا المضمار «الإمام». هنا يمكننا أن نذكر أن في التاريخ العربي الحديث برز رجل دين سني نهضوي حمل هذا اللقب متفردا وهو الإمام محمد عبده، الذي عينه الخديوي عباس حلمي مفتيا للديار المصرية عام 1899، وبقي في المنصب حتى وفاته بسرطان الكلى عام 1905 عن عمر 56 عاما. وكان محمد عبده يعرف بلقب الأستاذ الإمام، بينما لم يكن لا أستاذه جمال الدين الأفغاني يحمل لقب الإمام، ولا أي من طلبة محمد عبده حمل لقب الإمام.
وفي الجانب الشيعي نرى أن مطلع القرن العشرين وما حمله من تغيرات سياسية تمثلت بالثورات الدستورية في الدولة القاجارية عام (1906)، والدولة العثمانية (1908) اللتين لعب فيهما الفقهاء أدوارا مركزية، لكنهم لم يحملوا ألقابا تبجيلية مثال ذلك الشيخ النائيني المعروف بالميرزا. وكان فقهاء الحوزات الشيعية في العراق وإيران ولبنان في ذلك الوقت يذيلون رسائلهم العلمية ومخاطباتهم وفتاواهم بألقاب تضمر مبالغة في التواضع، فتراهم يوقعون على سبيل المثال بـ(الحقير لله الأصفهاني)، فيجيبه المخاطب بصيغة: (الأحقر اليزدي) تواضعا، علما إنهم كانوا زعماء الطائفة الشيعية.
الوضع في مصر تغير بحلول منتصف القرن العشرين عندما دخلت الجمهورية الناصرية بثقلها على المؤسسات الدينية وغيرتها، إذ صدرت القوانين والمراسيم المنظمة لعمل المؤسسات الدينية وفي مقدمتها الجامع الأزهر ودار الإفتاء، إذ صدر القانون رقم 103 لسنة 1961 الخاص بتطوير الأزهر. ووفقاً لهذا القانون أصبح شيخ الأزهر يحمل لقب (الإمام الأكبر) وهو صاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية وفي كل ما يتعلق بالقرآن وعلوم الإسلام، ويتم تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية، بعد أن يتم اختياره من بين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية. وكان الشيخ محمود شلتوت هو أول من حمل لقب (الإمام الأكبر). ونحن نعلم دور الشيخ شلتوت في ما عرف بتقريب المذاهب وفتواه الشهيرة بجواز التعبد وفق المذهب الجعفري، بل إدخاله دراسة الفقة الشيعي الجعفري إلى الدراسات الفقهية في جامعة الأزهر. وتأثرا بذلك، وخرقا لأعراف وتقاليد ومفاهيم الإمامة لدى الشيعة ظهر استخدام لقب (الإمام) يطلق على فقهاء ومجتهدين. ففي النصف الثاني من القرن العشرين ابتدأ، وإن على استحياء، إطلاق لقب (الإمام) على اكبر مجتهدين شيعيين: الإمام البروجردي في إيران، والإمام الحكيم في العراق. وربما حمل هذا اللقب لأسباب سياسية بعض المجتهدين ممن لم يكن قد وصل إلى مرحلة الاجتهاد، مثال ذلك السيد موسى الصدر، الذي لم يكن عام 1957 قد تصدى للمرجعية في إيران، لكنه عندما انتقل إلى لبنان ونتيجة الادوار المميزة التي لعبها في بلورة الوجود الشيعي اللبناني، وتأسيس المجلس الشيعي الاعلى أصبح يحمل لقبا رسميا هو (الإمام موسى الصدر).
وبعد ذلك شهدت الأدبيات الشيعية توصيفات للعديد من الفقهاء حملوا لقب (الإمام) قبل أسمائهم، وبشكل خاص بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران مطلع عام 1979. حين أصبح المسمى الرسمي للخميني، هو (الإمام الخميني)، الذي كان أحد الفقهاء من متوسطي المكانة والنفوذ في النجف طوال عقدي الستينيات والسبعينيات، لكنه ومع ترسيخ نظرية ولاية الفقيه التي طبقها في إيران أصبح نائبا للإمام الغائب، الحائز على صلاحياته وفق مبدأ الولاية العامة ليصبح المرشد الأعلى ويحمل لقب (الإمام)، الذي فتح الباب واسعا أمام الكثير من أئمة الشيعة المعاصرين.
كاتب عراقي