لكي لا نظلم «الباءات الثلاث» الأصلية

في الأسابيع الأخيرة شاعت داخل الجزائر وخارجها عبارة «الباءات الثلاث»، حتى نُسب إلى وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أنه استعملها في وصف مثيري المشاكل لبلاده في المنطقة، وبينهم مِحمد بن سلمان ومحمد بن زايد.
المقصود بها في الجزائر، عبد القادر بن صالح، رئيس الدولة المؤقت، والطيب بلعيز، رئيس المجلس الدستوري ونور الدين بدوي رئيس الحكومة. القاسم المشترك بين الثلاثة أنهم ينتسبون إلى نظام بوتفليقة الفاسد، والرأي العام يرفضهم ويصر على تنحيهم. سقطت «باء» وبقي اثنتان.
سألتُ جزائريين من أبناء الاستقلال عن مصدرها فعجزوا عن الإجابة. عجزهم أثناني عن سؤال مَن أعرف من غير الجزائريين.
عبارة «الباءات الثلاث» انتشرت أثناء ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي (1954 ـ 1962). وهي منتشرة إلى اليوم في كتب تاريخ تلك الثورة. كانت آنذاك تحيل إلى ثلاثة من أبرز قادة الثورة: عبد الحفيظ بوصوف وكريم بلقاسم والأخضر بن طوبال. ثلاثي جمعته الأقدار وسط انقسامات عميقة كانت تعيشها القيادة، ففرض نفسه وحاول إدارة الكثير من التفاصيل بمنطق القوة والعناد. يُنسب لهذا الثلاثي الكثير من القرارات الجريئة، أخطرها، إن صحَّ، قرار اغتيال القيادي التاريخي الآخر، عبّان رمضان، في شمال المغرب يوم 26 كانون الأول (ديسمبر) 1957.
بوصوف هو مؤسس المخابرات الجزائرية تحت مسمى وزارة التسليح والاتصالات العامة. عُرف بأنه رجل صلب وعنيد يخشاه حتى قادة الثورة البارزون. يحكي عنه الوزير الأول السابق، عبد الحميد الإبراهيمي، الذي كان من المقاتلين الميدانيين، أنه كان صاحب شخصية قوية جداً. يقول إنه كان يستقبل ضيوفه من القادة والمسؤولين، وعلى المكتب ساعة «كرونو» تعدّ ثواني ودقائق الاجتماع. عندما ينتهي الوقت المخصص للضيف، تصدر منه حركة هي بمثابة أمر صامت بالانصراف. اعتزل بوصوف (الشهير بالسي مبروك) العمل السياسي غداة الاستقلال إلى أن توفيَّ في بيته في اليوم الأخير من سنة 1980. يُروى أنه عندما سُئل عن وصيته الأخيرة قبل الوفاة، قال: أرجوكم لا تثقوا في فرنسا.

في 1992 انحدرت الجزائر إلى حضيض خطير بسبب سياسات رعناء وطيش سياسي وفشل متعدد الأوجه. وفي 1999 واصل من قادوها إلى ذلك الحضيض مسعاهم

كريم بلقاسم هو الآخر من الرعيل الأول لزعماء الحركة الوطنية. تقلد في المناصب والمسؤوليات بدءاً من منطقة القبائل التي ينحدر منها، إلى أن انتهى به المطاف قائدا عسكريا وسياسيا منذ الأيام الأولى لثورة التحرير. كان وزيرا للخارجية في الحكومة المؤقتة وقاد وفد جبهة التحرير في مفاوضات إيفيان التي أسفرت عن وقف إطلاق النار في 19 مارس (أذار) 1962، ثم الاستقلال لاحقا. اختلف مع نظام الرئيس أحمد بن بلة والعقيد هواري بومدين في السنوات الأولى للاستقلال. فرَّ إلى الخارج وأصبح معارضا من المنفى، لكنه وُجد مقتولا في غرفته بأحد فنادق فرانكفورت الألمانية في خريف 1970. تقول إحدى الروايات إن قاتله خنقه بربطة العنق التي كان يرتديها. كانت الجريمة تحمل بصمات نظام بومدين الذي كانت له سوابق مماثلة أبرزها جريمة اغتيال القيادي محمد خيضر في مدريد يوم 4 كانون الثاني (يناير) 1967.
مثل بلقاسم وبوصوف، يعتبر سليمان (اشتهر باسم الأخضر) بن طوبال من أبرز وجوه الحركة الوطنية، لكن نجمه سطع أكثر خلال ثورة التحرير. هو أحد مؤسسي جهاز المخابرات برفقة بوصوف وآخرين، ثم تولى وزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة التي قادت مفاوضات الاستقلال. كان قصير القامة ومكوَّر الجسد، عيناه صغيرتان غائرتان، فاشتهر بين أقرانه بـ«الصيني الصغير». لكنه كان من الدهاء والذكاء الحاد، وفق من عرفوه، ما حيّر أصدقاءه وأعداءه. اعتزل بن طوبال السياسة بعد الاستقلال ليتقلد وظائف أقل من مقامه منها رئيس مجلس إدارة شركة الحديد والصلب. ثم توارى عن الأنظار في فيلا ساحرة بحي حيدرة في أعالي العاصمة. عندما زرته في بيته سنة 1991، بدا لي زاهدا في كل شيء بشكل جعلني أتساءل هل هذا هو حقا الزعيم الذي قيلت فيه الأساطير. توفي «سي الأخضر» في صيف 2010 بالجزائر عن 87 عاما بعد معاناة طويلة مع المرض.
وبعد، هل من العدل والعقل الميل إلى مقارنة «الباءات» التاريخية بـ«باءات» اليوم، ولو باستعارة العبارة التي تحيل إليهم؟ العقل البشري لا يتقبل بدوي في حذاء بلقاسم وبلعيز في حذاء بن طوبال وبن صالح في حذاء بوصوف، لأنها مناقضة للطبيعة. شتان بين هؤلاء وهؤلاء.
في 1992 انحدرت الجزائر إلى حضيض خطير بسبب سياسات رعناء وطيش سياسي وفشل متعدد الأوجه. وفي 1999 واصل من قادوها إلى ذلك الحضيض مسعاهم بأن اختاروا لها رئيسا وصل إلى الكرسي محمَّلا بالأحقاد والأمراض النفسية. هذا الرجل، اسمه عبد العزيز بوتفليقة، هو الذي صنع «الباءات الثلاث» الجديدة، المزيفة، ليعبث من خلالها بالجزائر والجزائريين، بينما كانت «الباءات الأصلية»، صنيعة كفاح وطني ومدرسة ثورية وإخلاص سياسي وقومي، تتقلب في قبورها ـ أو تعاني في صمت.
كان على بوتفليقة أن يأخذ «باءاته» معه. وعندما لم يفعل كان على أحمد قايد صالح أن يدفعها إلى الباب الضيق مثلما دفع عرَّابها. وطالما لم يفعل، بقي أن يعوِّل الجزائريون على قليل من الحياء لدى من تبقى من «باءات» لتخرج إلى غير رجعة. الجزائر ستكون أفضل من دونهم.

كاتب صحافي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول المغربي-المغرب.:

    قبل قليل كنت أقرأ مقالا لشخص كان مقربا من بومدين. ..حاول من خلاله إسناد البطولات والانجازات إلى ولي نعمته بشكل يفوق قدرة العقل على التصديق. …ويتجاوز بكتير مالم به الزعماء الأفذاذ على مر التاريخ….وعندما حاول أحد المعلقين تصحيح معلومة تاريخية تتعلق بمرحلة السلطة العثمانية. …رد علي صاحبنا بألفاظ لاتقال إلا في مجالس المساطيل وما جاورها….!!!! حينئذ أدركت أن هذا الصنف الذي تربى في كنف الاستئصال وتصفية المجاهدين الحقيقيين…وتمرغ في نعيم الحزب الواحد…الذي كان من دهاقنته الرءيس المعزول المحنط…؛ يعيش في انفصام كلي عن الواقع…..وبلغت نسبة النرجسية والدونكشوتية في دمه درجة ميؤوس من إمكانية شفاءها. …ومن هنا فإن الرهان على المصالحة مع هؤلاء والماضي الكارثي الذي كرسوه في الداخل. ..وفي المنطقة كلها. …لن يؤدي إلا إلى المزيد من استفحال الكوارث بأنواعها. …ولاحول ولا قوة إلا بالله.

  2. يقول BOUMEDIENNE:

    لم نعرف ان الرئيس الجزائري المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة جاء للحكم محملا بالاحقاد والعقد النفسية،بل عرفناه انه جاء ليكمل القيم الراقية التي عاش في كنفها الشعب الجزائري، منذ فجر التاريخ وغلتي في اطارها، صنع امجاده، وحافظ علئ كرامته ووحدته وعلئ ارضه، لقد اتم سياسة الرحمة التي بتشرها الرئيس زروال، وطور ها الئ الوئام المدني ثم المصالحة الوطنية.
    ولقد فكك بذالك العقد النفسية التي غرسها الحاقدون في نفسية قلة من الجزائريين، الذين رفعوا السلاح في وجه شعبهم وادخلوا البلاد في حرب اهلية دامية.

  3. يقول BOUMEDIENNE:

    والفسغد الحقيقي الذي تعاني منه الجزائر اليوم جذوره نمت في عهد الشادلي بن جديد، وهذا الفساد كان غداريا واقتصادي وسياسي، وترعرع بفضل كل المحن التي مرت بها الجزائر، ولم تستطع التفرغ له،للقضاء عليه نظرا لما كانت تتعرض له من محن ومكائد خارجية وداخلية، مثلها مثل يوغوسلافيا وافغانستان والعراق…

  4. يقول BOUMEDIENNE:

    ورغم كل ذالك رجعت الجزائر الئ مكانتها الاقليمية والدولية.
    عكس الذين يتامرون علئ اشقائهم، مقابل ان يعيشوا في ظل اعدائهم واعدائ شعوبهم، الشعب الجزائري،قرائ الدرس وفهمه وحفظه، وهو يعي جيدا قيمة من خدموه ومن تامروا عليه وخانوه، ولكل زمان رجاله، واليوم لا ينكر احد ان الجزائر تتجدد،وتحافظ علئ قيمها ووحدة شعبها ومؤسساتها ودولتها وعلئ ترابها الوطني. وكل ذالك بفضل الله ثم الشعب الجزائري وابنائه في مؤسسة الجيش الوطني الشعبي.

إشترك في قائمتنا البريدية