تمتزج الأحلام أحياناً بالواقع.. ولا ندري متى يبدأ الحلم وتنتهي الحقيقة. حلمت البارحة بأنني أتسلق جبل قاسيون المطل على دمشق وأنني أنا التي حفرت على صخرتها عند المنعطف الذاهب إلى بيروت عبارة «اذكريني»، حين استيقظت تذكرت أن هذه العبارة المحفورة على صخرة حقيقية. في الحلم كنت أنا التي أحفرها، وقبلها كنت أظن شاباً عاشقاً هو الذي حفرها!
أين يبدأ الحلم وتنتهي الحقيقة أو العكس، هل هذه الصخرة موجودة حقاً الآن؟ أم أن الحلم زرعها في ذاكرتي؟ في الحلم أعود إلى بيتي الدمشقي وأقرر عدم السفر. ولم يحدث ذلك لي. ترى، هل بيننا من يرى أين يبدأ الحلم؟
هل هذه الصخرة موجودة وثمة من حفر عليها «اذكريني»؟ لن أدري يوماً.. وحتى إذا ذهبت ولم أجدها سأعتقد أن ثمة من أزالها. إن ذلك حدث في أحد كوابيسي الكثيرة التي استوحيت منها بعض رواياتي، والكاتب لا يدري كيف يفصل بين الحلم والحقيقة والكابوس أحياناً. لذا، أكتب الكثير من الكوابيس كما في روايتي «كوابيس بيروت».
الأصوات كالوجوه
في زيارتي الأخيرة إلى بيروت، التقيت في إحدى الصيدليات بشقيق صديقة عزيزة لي رحلت. وعرفني، وبصوت مرتفع (أو هكذا خيل إليّ) قال اسمي ليعرفني الجميع، وبين الزبائن لاحظت وجود كهل خيل إليّ أنني أعرفه طويل القامة يميل إلى البدانة ولم أذكره… فقط وأنا أغادر المكان، سألني: هل عرفتني أم نيست؟ وحين سمعت صوته عرفته جيداً، كان أخاً وصديقاً في عالم الصحافة حين كنت أعمل فيها في بيروت، ولولا صوته ما عرفته. الأصوات كالوجوه، بل أكثر دلالة على الناس، لكنني لم أقل له شيئاً وأنا أغادر المكان.
باريس ليست جنة المدن
صديقة اتصلت بي من بيروت هاتفياً وقالت بسعادة، إن ابنتها في طريقها إلى باريس لقضاء شهر العسل. لم أقل لها إن باريس ليست فقط شارع الشانزيليزيه (يدعوه الفرنسيون أجمل جادة في العالم) وليست فقط منطقة الحي اللاتيني التي طالما تغنى بها الشعراء والمطربون، ولا منطقة مرتفع مونمارتر ومتحف اللوفر والمراكب التي (تبحر) في نهر السين الذي يتوسط المدينة بينما يتناول العشاق والناس طعام الغداء ويتأملون ضفاف النهر حتى الكاتدرائية (نوتردام)… فباريس مدينة أخرى، وكالمدن كلها لها متاعبها وليست جنة الخلد!
باريس الحقيقية والتظاهرات
باريس كأي مدينة أخرى في العالم، لها متاعبها ومشاكلها.. منها التظاهرات التي قطعت بعض الطرق ضد قانون التقاعد في سن 64 وليس في الستين. وثمة تظاهرات كل أسبوع لسبب ما، وآخرها ضد رجال الشرطة؛ لأن أحدهم أطلق رصاصة على شاب يدعى نائل مرزوق (من أصل عربي؟) لأنه كان يقود سيارة ولم يتوقف حين أمره الشرطي بالتوقف، ولم يفعل. وبعد مصرعه، تبين أنه لم يذعن لأمر الشرطي لأنه يعمل ليلاً ويقود سيارة العمل دون رخصة سير تبيح له ذلك بسبب صغر سنه (17 سنة)!
وصار رجال الشرطة يضطرون لتهدئة الاحتجاجات التي تسبب بها الهياج الشعبي ضد مقتل نائل مرزوق.. أي أن باريس لم تعد مثالاً يحتذى في أوروبا كما جاء في مقال في جريدة كبرى الصحف الفرنسية (لوفيغارو).
شهر العسل في لبنان، ولكن..
كدت أقول ذلك كله لصديقتي السعيدة، لأن ابنتها قادمة إلى باريس لقضاء شهر العسل، لكنني اكتفيت بالصمت.. ولم أقل لها إنه حتى نائل مرزوق، عامل التوصيل بسيارة يقودها، كان سبباً جديداً للتظاهرات. ولم أقل لها إن في لبنان أماكن رائعة لقضاء شهر العسل.
كان يا ما كان لبنان
قبل أن يدمر لبنان نفسه وتنهار عملته وبنوكه ومؤسساته ولم تعد له وزارة ولا رئيس لجمهوريتها، كان لبنان المكان الصالح لقضاء شهر العسل؛ لجماله الطبيعي. وكان الكثير من المشاهير العرب والأثرياء يملكون قصوراً في جبال لبنان لقضاء الصيف فيه.. وبوسعهم فيه التحدث باللغة العربية، فلبنان وطن عربي، وحين كنت أعيش في دمشق كنا نحلم بيوم إجازة نقضيه على شاطئ البحر في أحد المطاعم.. ولا أريد إثارة أحزان اللبناني على ما حدث لوطنه، بما في ذلك موت الكهرباء والأرصدة في البنوك.. بل إن بعض الناس صاروا يذهبون بأسلحتهم إلى بعض البنوك ويطالبون بأموالهم التي أودعوها فيها ويريدون استعادتها. ثم إن الكهرباء (مقطوعة) وعليك شراء محرك خاص بالمبنى، حيث تقيم، وشراء المازوت لتغذيته، لذا، فإن قضاء شهر العسل في باريس خير من قضائه في بيروت!
وهذه الجملة وأنا أخطها شعرت أنها من البديهيات!
وخروج تظاهرة ليست كانهيار وطن..
شهران في البحر
أغادر هذه الحكايات المحزنة كلها إلى حكاية سارة.. أوروبية..
هذا رجل خرج بمركبه للنزهة في البحر وبرفقته كلبه، ولكن الطقس تبدل وصار عاصفاً وتحطمت وسائل الاتصال مع الشاطئ وشرطة السواحل، وظل طوال شهرين حياً يأكل الأسماك النيئة ويجمع مياه المطر ليشربها، ويتحدث مع رفيقه الوحيد كلبه، ولكن الله أنعم عليه بالسلامة حين جاء من ينقذه وكاد لا يصدق أنه مازال حياً.
ولا أظنه سيذهب للنزهة في مركب بعد اليوم.
وأعتقد أن كلبه على الأقل سيرفض ذلك!