هل يكمن السبب في وجود تغير ما في الموقف المغربي التقليدي من القضية الفلسطينية؟ إن صحت الأنباء التي نشرتها قبل أيام بعض المواقع الإخبارية الإسرائيلية، حول إبرام المغرب صفقة ضخمة مع شركة لصناعات الطيران الإسرائيلية لاقتناء قمر صناعي استخباراتي بقيمة تصل إلى مليار دولار، فإن الأمر لن يرتبط تلقائيا وبالضرورة بذلك، لكن هل بات تكريم طالب أو طالبة في المغرب ترتدي الكوفية الفلسطينية متعارضا مع «الموقف الرسمي للبلاد ازاء القضية الفلسطينية»، مثلما قال مؤخرا عميد كلية العلوم في الدار البيضاء وهو يبرر رفضه منح جائزة لإحدى الطالبات المتفوقات في تلك الكلية؟
لئن لم تحسم السلطات المغربية بعد في الجدل الواسع الذي أثارته تلك الحادثة، فإنه سيكون من المستبعد جدا أن تكون قد أعطت تعليمات كتابية، أو حتى شفوية في ذلك الاتجاه. وربما قد لا يتعلق الأمر هنا بواقعة استثنائية، أو حتى بتصرف فردي ومعزول، ناتج في الأساس عن سوء فهم، أو عن تأويل خاطئ وغير موفق للموقف المغربي الرسمي، بل بوجود تيار فكري وأكاديمي وإعلامي نافذ وقوي، يدفع وبشدة عكس الخيارات والتوجهات الحكومية والشعبية المعروفة في علاقة تلك القضية. ولعل اللافت، أنه وفي خضم استمرار المظاهرات في عدة مدن مغربية وللأسبوع الأربعين على التوالي، للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة والمطالبة بقطع العلاقات مع الكيان المحتل، أعلن «المرصد المغربي لمناهضة التطبيع»، وهو هيئة غير حكومية في المغرب أوائل الشهر الجاري عن قيام وفد شبابي مغربي بزيارة إلى القدس المحتلة واستقباله من طرف مسؤولين إسرائيليين. ولم يكن الغرض من تلك الزيارة على ما يبدو سوى محاولة طمس مظاهر الرفض الشعبي القوي لأي تقارب مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال الايحاء بوجود ما يطلق عليه تطبيعا لا على المستوى الرسمي فحسب، بل الشعبي أيضا. وهذا ما جعل المغرب اليوم يواجه مسألتين تبدوان على طرفي نقيض وهما انتماؤه العربي والإسلامي، الذي يجعله منخرطا بشكل دائم ومباشر بالتطورات التي تجري في الأراضي المحتلة، ومهتما بالاعتداءات والانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون ما يحمله بالتالي مسؤولية الدفاع عن القضية الفلسطينية، باعتبارها القضية العربية والإسلامية الأولى من جهة، ثم حرصه على الدفاع وبكل السبل عن مسألة جوهرية وهي، تحقيق أمنه وتأمين استقراره وتحقيق وحدته الترابية من الجهة الأخرى.
استمرار العلاقات المغربية مع تل أبيب قد يكون خيارا قابلا للتأويلات، لكن تواصل انقطاعها مع الجار هو وبالتأكيد خيار غير مقبول بكل المقاييس
المؤكد هو أن الوضع الحالي يثير قدرا واسعا من الالتباس، ففيما خرجت في هذا البلد أضخم المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، بقيت العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب، بمنأى عن أي تداعيات محتملة لغضب الشارع المغربي من الانتهاكات والجرائم الفظيعة، التي يرتكبها الإسرائيليون في حقهم. وربما سيقول البعض هنا وعلى الفور ولماذا ينحصر السؤال فقط حول علاقة المغرب بالكيان الإسرائيلي المحتل، في الوقت الذي تحتفظ فيه عدة دول عربية أخرى وإلى اليوم بعلاقات علنية وسرية مع ذلك الكيان، ولم تعلن أي واحدة منها، ولو على سبيل الوعيد والتهديد لاغير، عزمها الشروع في وقت قريب في مراجعتها، خصوصا في ظل تفاقم الجرائم والانتهاكات المريعة التي يرتكبها الإسرائيليون في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصاعدها بنسق جنوني منذ السابع من أكتوبر الماضي؟ وقد يبدو مثل ذلك الكلام منطقيا ومعقولا، إلى حد ما، خصوصا أن المغرب يرأس ومنذ عقود لجنة القدس، كما أنه ليس دولة قريبة جغرافيا من فلسطين، أي ما تعرف بدول الطوق، وهذا ما يجعل آخرين يتساءلون في تلك الحالة عن الأسباب والدوافع وراء الإبقاء على تلك العلاقات، وربما يستغربون ايضا من عدم إقدام الرباط، حتى الآن، بالقيام ولو بخطوة رمزية اتجاه التعبير عن غضبها مما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من قبيل ما أقدمت عليه مثلا دولتان عربيتان تقيمان علاقات دبلوماسية مع تل أبيب وهما، الأردن والبحرين حين سحبتا سفيريهما المعتمدين هناك للتشاور. لكن وجهة النظر المغربية قد تبدو مختلفة بعض الشيء، فالمغاربة يفرقون جيدا بين التعاطف الأخوي والدعم الطبيعي والتلقائي للفلسطينيين، الذي لا يمكن المساس به، أو التراجع عنه في كل الأحوال، وما قد يعتبرونها ظروفا موضوعية تدفعهم للإبقاء على علاقتهم بتل أبيب. إنهم يرون أن عدم المساس بتلك العلاقات لا يعني أنهم لا يحتجون ولا ينددون بالممارسات، ولا السياسات والانتهاكات الإسرائيلية اليومية إزاء الفلسطينيين، ولا يقفون بوضوح مع حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس. وربما قد يلخص كلام وزير خارجيتهم ناصر بوريطة، أواخر مايو الماضي، في بكين أمام الدورة العاشرة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي الصيني، الذي قال فيه «إن ما يقع في غزة لا يمكن قبوله أو السكوت عنه»، ذلك الموقف الثابت إلى حد كبير. ولعل هناك من سيقول بعدها وكيف ذلك؟ أليس الاستمرار في ما يعرف بالتطبيع هو قبول واضح بالاحتلال الإسرائيلي وسكوت تام عن جرائمه في حق أبناء الشعب الفلسطيني؟
لكن لنعد شهورا قليلة فقط إلى الوراء.. فتحت أي سقف أعادت الرباط كما يفضل المسؤولون المغاربة القول علاقتها مع تل أبيب، التي ظلت مقطوعة رسميا على مدى عشرين عاما؟ لقد تم الأمر بواسطة أمريكية، وضمن اتفاق شمل إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن إصدار مرسوم رئاسي يعترف بسيادة المغرب على كامل منطقة الصحراء، تم ذلك بالموازاة مع اتصال هاتفي أجراه العاهل المغربي مع رئيس السلطة الفلسطينية لإطلاعه على فحوى الاتفاق والتأكيد على «موقف المملكة الداعم للقضية الفلسطينية الثابت بلا تغيير، والقاضي بحل الدولتين وفق المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي كسبيل وحيد للوصول إلى حل نهائي ودائم وشامل لهذا الصراع»، مثلما جاء حينها في بيان للديوان الملكي المغربي. وبالنسبة للبعض قد يبدو التأكيد على ذلك الأمر رمزيا لا غير، وقد يراه آخرون مناقضا أصلا لوجود علاقات مع الكيان المحتل. لكن هل كان بوسع المغرب الذي يخوض ومنذ أكثر من خمسة عقود حربا مفتوحة لاستعادة ما يعتبرها وحدته الترابية أن يتردد في رفض العرض الأمريكي بالاعتراف بحقه في الصحراء، وأن لا يحاول البحث من خلال إعادة علاقاته بتل أبيب عن تعزيز وجهة نظره حول ذلك النزاع على المستوى الدولي؟
إن المشكل الأساسي هو أن من يعيبون على المغاربة إبقاءهم على علاقاتهم مع الاسرائيليين يضعون في الاعتبار، أن هناك حربا وحشية في غزة، لكنهم يتجاهلون تماما أن هناك أخرى تتواصل منذ عشرات السنوات حول الصحراء. وقد لا يرى البعض في ذلك مبررا مقنعا ووجيها لما يعرف بالتطبيع. لكن هل يبدو مقنعا ووجيها بالمقابل أن يفرض بلد مغاربي حصارا وقطيعة على بلد مغاربي آخر بدعوى ان له اتصالات، أو علاقات مع الإسرائيليين؟ إن استمرار العلاقات المغربية مع تل أبيب قد يكون خيارا قابلا للتأويلات، لكن تواصل انقطاعها مع الجار هو وبالتأكيد خيار غير مقبول بكل المقاييس.
كاتب وصحافي من تونس