هل بلغ السيل الزبى ونفض الليبيون أيديهم باكرا عن فكرة الاتحاد المغاربي الثلاثي؟ لكن هل يمكن أن يحدث ذلك حقا؟ أليس مفترضا أن تحتضن العاصمة الليبية وبعد ثلاثة شهور ثاني اجتماع من الاجتماعات الدورية، التي تم الاتفاق في مارس الماضي في الجزائر على هامش قمة الغاز، على عقدها دوريا بين الدول المغاربية الثلاث؟ ثم هل تأسس ذلك الاتحاد أصلا حتى يختار أي عضو منه، إما البقاء فيه أو تركه؟ ألا يبدو الأمر، إلى الآن على الأقل، أقرب للتخمينات أو التأويلات التي لم يثبتها الدليل؟ ربما قد يقول قائل. لكن من يعرف حقيقة ما دار من حوارات ونقاشات بين الأطراف التي اجتمعت في قصر قرطاج في أول اللقاءات الدورية؟ وما الذي قد يكون كل واحد منهم قد طرحه على الآخر، أو خرج به من خلاصات واستنتاجات.
لقد أشاد الليبيون وفي كثير من المناسبات بالمساعي والجهود الدبلوماسية التي بذلها المغاربة والجزائريون لتحقيق المصالحة بين مختلف فصائلهم وتياراتهم. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو، هل سيكون بمقدورهم، رغم حالة الغموض التامة والضبابية الشديدة التي باتت تكتنف المشهد السياسي في بلدهم، أن يلعبوا دورا ما لتقريب الشقة بين الجارتين المغاربيتين المتنازعتين؟ وهل كونهم كانوا ضلعا من أضلاع الاجتماع الثلاثي الذي عقد الاثنين قبل الماضي في العاصمة التونسية من خلال رئيس مجلسهم الرئاسي محمد المنفي، الذي حضر إلى جانب الرئيسين التونسي قيس سعيد، والجزائري عبد المجيد تبون سيكون عاملا مساعدا لهم على تحقيق ذلك أم لا؟ ربما كانت النقطة المفصلية بالنسبة لهم هي أن ذلك اللقاء لم يفض إلى أي إعلان، أو قرار بإنشاء كيان إقليمي جديد في المنطقة، بدلا عن الاتحاد المغاربي.
وليس معروفا إن كان السبب في ذلك هو أن الموضوع لم يطرح أصلا على طاولة المجتمعين، ولم يدرج على جدول أعمالهم؟ أم لأن الاطراف الثلاثة لم تتوصل بعد إلى صياغة تصور واضح ودقيق حول الفكرة يسمح بالتوصل لاتفاق نهائي على ترتيبات تنزيلها وتنفيذها على الارض؟ لكن كان من الواضح أن الحاضرين تجنبوا الإشارة، من قريب أو بعيد إلى تلك المسألة، وحرصوا في البيان الختامي الذي أصدروه في ختام أعمالهم على الحديث فقط عن مسائل تتعلق بالتعاون بين أقطارهم في جوانب معينة تشمل أمن حدودهم، وبعض المشاريع المشتركة وتهم أيضا «توحيد المواقف والخطاب في التعامل مع مختلف الدول المعنية بالهجرة غير النظامية في شمال المتوسط ودول الصحراء».
غموض حقيقي بات يلف مصير الاجتماع المرتقب في العاصمة الليبية بعد ثلاثة شهور ويتعلق لا فقط بإمكان عقده في موعده، أم لا، بل حتى بالأطراف التي قد تحضره
غير أن ما فاجأ كثيرين هو إيفاد رئيس مجلس الرئاسة الليبي ساعات قليلة بعد انتهاء ذلك الاجتماع لمبعوثين شخصيين إلى كل من العاهل المغربي محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، محملين برسالتين منه. ولم يكن ذلك يخلو من دلالات. لقد كانت طرابلس العاصمة الوحيدة من بين العواصم الثلاث التي حضرت لقاء تونس وبقيت تحتفظ بعلاقات جيدة بكلا العاصمتين الأخريين، أي الجزائرية والمغربية في وقت واحد، في ظل استمرار القطيعة الدبلوماسية بين الرباط والجزائر، وتواصل حالة الفتور والبرود بينها وبين تونس. ولم يكن تصريح القائم بأعمال السفارة الليبية في الرباط في أعقاب تسليم سامي المنفي للرسالة الموجهة إلى ملك المغرب إلى وزير خارجيته ناصر بوريطة الثلاثاء قبل الماضي، الذي شدد فيه على أن «الزيارة تندرج في إطار الجهود الرامية إلى تعزيز اتحاد المغرب العربي، من أجل تحقيق تطلعات شعوب المنطقة لمزيد الاستقرار والازدهار»، وأنها تؤكد «تميز العلاقات الأخوية التي تربط بين البلدين، وتبرز الدور الفعال الذي يضطلع به المغرب لصالح الاندماج المغاربي»، على حد تعبيره، يحتمل أكثر من تأويل، إذ أعطى إشارة واضحة وصريحة إلى أن أكبر هاجس ظل يشغل بال الليبيين في علاقتهم بجيرانهم هو، الابتعاد أكثر ما يمكن عن المشروع الذي لوح به كثيرون بإنشاء كيان إقليمي جديد في الشمال الافريقي يكون بديلا عن الاتحاد المغاربي، الذي لا يزال معطلا ومجمدا، والبقاء بالتالي على مسافة واحدة من الجارتين الجزائرية والمغربية، لكن ما لم يتضح على الفور هو، ما إذا كانت تلك الخطوة قد تمت بالتنسيق التام والمسبق مع الجزائر وتونس وبمباركة منهما؟ أم أنها اتخذت بشكل منفرد من جانب رئيس المجلس الرئاسي، ومن دون إعلام الدولتين، أو أخذ رأيهما حولها. كما أنه لم يعرف بعد كيف تفاعل المغاربة معها، بعد اكتفائهم بعدم التعليق عليها رسميا.
ولم يتضح أيضا ما الذي قصده القائم بالأعمال الليبي حين ذكر في تصريحه، أن الزيارة «تندرج في إطار الجهود الرامية إلى تعزيز اتحاد المغرب العربي». فهل قدّم رئيس المجلس الرئاسي الليبي إلى العاهل المغربي مقترحات محددة لكسر الجمود الذي يعيشه ذلك الاتحاد منذ عقود؟ أم قد يكون عرض عليه مثلا أن تكون بلاده حاضرة في الاجتماع المقبل في طرابلس؟ من المؤكد في كل الأحوال أن هناك تطمينات ما قدمت ليس للمغاربة فحسب، بل للموريتانيين أيضا. ويبدو أن الجانب الموريتاني، على عكس المغربي، قدّم ردا فوريا على ما قد يكون عرض عليه. فقد أكد المبعوث الخاص لرئيس المجلس الرئاسي الليبي عماد الفلاح، حسب ما نقلته وكالة الأنباء الموريتانية الرسمية في أعقاب تسليمه الأربعاء الماضي رسالة إلى الرئيس ولد الغزواني على «التأكيد على عمق العلاقات التاريخية بين موريتانيا وليبيا وعلى التشاور المستمر والوثيق في المجالات كافة، التي تهم البلدين الشقيقين، ومن ضمنها تفعيل دور اتحاد المغرب العربي»، مضيفا أنه «تلقى ردودا إيجابية من فخامة رئيس الجمهورية»، وفق ما أوردته الوكالة، من دون أن تحدد لا ما عرضه الليبيون «لتفعيل دول الاتحاد المغاربي» ولا طبيعة «الردود الإيجابية» عليها من جانب الرئيس ولد الغزواني. وهذا ما يطرح بدوره أكثر من فرضية.
فإن كان الليبيون قد تصرفوا باتفاق تام مع الجزائريين والتونسيين، وإن كان هؤلاء قد طلبوا منهم مثلا أن يختبروا موقف، أو ردة فعل الدولتين الغائبتين أو المغيبتين عن الاجتماعات الثلاثية الأخيرة، أي المغرب وموريتانيا، فهل تتطلع الدول الثلاث فعلا لأن تكلل تلك المهمة بعقد قمة مغاربية خماسية في وقت لاحق من هذا العام؟ وإن كان الليبيون قد تحركوا من تلقاء أنفسهم ودون علم أو مباركة الدولتين الجارتين أي الجزائر وتونس، فإن ذلك سوف يعني شيئا واحدا لا غير وهو، أنهم قد نفضوا أيديهم باكرا من فكرة الاتحاد الثلاثي، وأنهم باتوا يبحثون عن مخرج ما مما وصفناه الاسبوع الماضي بالمأزق الذي وجد التونسيون والليبيون أنفسهم فيه بعد اجتماع تونس. وسواء رجحت الفرضية الأولى أم الثانية، فإن غموضا حقيقيا بات يلف مصير الاجتماع المرتقب في العاصمة الليبية بعد ثلاثة شهور من الآن ويتعلق لا فقط بإمكان عقده في موعده، أم لا، بل حتى بالأطراف التي قد تحضره.
كاتب وصحافي من تونس