سؤال ينبثق من جوهر الأهمية، التي تكتسيها القراءة كفعل تأملي يربط الصلة بين النص المقروء والقارئ، وهي صلة ينبغي أن يكون أساسها التفاعل، فَبِدونِ تحقيق التأثير يستحيل الحديث عن فعل قرائي مثْمِرٍ وَبَناءٍ. لكن الأمر هنا ينطوي على دعوة مبطنة لممارسة القارئ دَوْرَه في هذا الفعل بالشكل الإيجابي، من خلال إعطاء للنص نَفَساً جديداً يضيف ويضْفي عليه طابعا تأويليا، يجعله أكثر انفتاحا على مقاومة التكلس، إذا كانت القراءة مختلة، يَعتورهَا الوعي الناقص بقيمة المحمول النصي.
فإذا كانت الخطابة غايتها الإقناع والتأثير، فإن القراءة عملية تبحث عما هو استطيقي يثير الإشباع الجمالي، كإضافة نوعية تميز القراءة الفاعلة، وهذا يقودنا إلى الاتكاء على أن لغة الخطابة تتسم بالوضوح والبرهان، في الوقت الذي توسم به لغة الإبداع بالطابع الانزياحي والغامض، وهنا تكمن مظاهر الابتداع والاختراق. وطبيعي أن نقول إن الكتابة الإبداعية تتجدد وتحيا بوساطة عملية التلقيح القرائي، أي أن القارئ بمجرد ما يشرع في القراءة فهو في الوقت ذاته يَبث في النص روحا مفعمة بالحياة، تمنحه كينونته النصية، وتضعه في خانة الخلود والديمومة. بعبارة أخرى إن القراءة تنقل النص من حالة الكمون إلى حالة التحقق. بمعنى تخرجه من وضع الجمود إلى وضع الوجود.
وعليه فقراءتي للشعر العربي، ينبغي أن لا تكون الغاية منها الاحتذاء واقتفاء أثر الأسلاف، على مستوى الفهم والوعي، فلكل قراءة السياق المنتج لها، بل يجب التحلي برؤية مختلفة تنأى بنفسها عن التكرار والاجترار، وتؤسس لمشروعية قرائية تنتمي لسياقها الآني، ووفق تصورات مستحدثة ترى أن الإبداع الشعري، بطابعه التقليدي، كانت استجابة منطقية للعصر الذي ينتمي إليه، وبالتالي لابد أثناء قراءته أن نسعى إلى تناوله بآليات تضيء ما اعتراه من لبس والتباس، والكشف عن الإضافات المغيبَة في القراءات السالفة. هكذا تستدعي القراءة التي أومن بها ضرورة امتلاك القارئ شرط الوعي أولا. وثانيا الاختيار السليم للأدوات الموظفة في قراءة المنْتَج الشعري، وثالثا اكتساب رؤية واضحة في المناولة. ثمة مقصدية مبتغاة من القراءة تتمثل في تجسير العلاقة بينهما، أي بين القارئ والنص، هذه العلاقة التي تبقى في حكم الالتباس، إذا لم يتوفر القارئ على الذخائر المعرفية والنقدية، التي، من خلالها، يقوم بالعملية القرائية ذات الفعالية والقادرة على الحفر في طبقات المقروء، لاستنباط ما يزخر به من ثيمات وقيم وأبعاد استيطيقية وفنية. وتاريخ القراءة مشوب بالكثير من الالتباس، نظرا لغياب آليات بإمكانها مساعدة القارئ على الاقتراب من النص، ورعايته بالشكل المطلوب في فعل القراءة ، ولعل ما يشوب القراءة من فهم مبْتَسر وفيه الكثير من الخلل الناجم عن سوء التفاهم الحاصل في ثالوث القراءة: القارئ والمقروء والمحمول الثقافي (الذخائر المعرفية)، فبدون هذه الأسس لن تستقيم القراءة ولن تكون ذات جدوى. وبتعبير آخر إن العلاقة التي يجب أن تحْكم القارئ بالنص والثقافة هي علاقة التأثر والتأثير، التي تسلط الضوء على عتمات النص وتكشف عن الأطر المرجعية المتحكمة في نوع القراءة لدى القارئ.
وعَوْداً إلى قراءة النتاج الشعري العربي، نرى أن قراءته تعرضت للابتسار، نظرا لسوء الفهم، فهناك من ظل متشبثا بما أنتجه الأسلاف، من شِعْر، وهناك من يدعو إلى القطيعة، وفي هذا جهل بالسياقات الفاعلة والمؤثرة في إبداع تلك الفترة، وعدم الإدراك بأن الخلق الشعري نتاج تفاعلات ذاتية وموضوعية، وفق شروط وسياقات تاريخية وحضارية، تفعل فعلها في المبدِع. لكن القراءة، التي نراها جديرة، هي التي تستوعب كل ما يتفاعل من معطيات فكرية حضارية تاريخية ووجدانية، مع صيرورة الإبداع. هذا التفاعل ضروري لأي إتيان بالجديد، وتحقيق الجِدة الإبداعية. فكل قراءة لا تأخذ بعين الاعتبار شروط التلقي لا يمكنها أن تسهم في تثوير وتطوير الفعل القرائي.
لكي أعِي الذات والعالم وعيا مَحْتده العقل، والمعرفة كأفق لارتياد المغايرة والمغامرة إبداعا وتفكيرا وتجديدا، أفقا يضيء العتمات ويسلط الضوء على الكوامن الخفية من الذات والعالم
لماذ أقرأ؟
إن القراءة التي لا تنتج معرفة جديدة لا يعول عليها، لأنها لن تسهم إلا في تكريس الثابت من تقليد ومحاكاة ووقع الحافر على الحافر – كما يقول القدامى- وإعادة إنتاج معرفة لا تحقق وجودها إلا بالعودة إلى الماضي، وهي عودة ارتكاسية، تتناقض مع سيرورة الإبداع وصيرورة، إنها كتابة ضد التاريخ ومجرياته، ولأن القارئ لا يمتلك الآليات القرائية، التي تمكنه من تخطي هذا الماضي بعد الوعي بشروطه وحيثياته، وهضمه الهضم المتريث، لابتلاع ما ينبغي ابتلاعه، بالقيام بعملية التنخيل/ الغربلة، لتشكيل رؤية تختلف اختلافا جذريا عما تم إنتاجه سابقا، وعليه فعلى القارئ اختيار الطرق الكفيلة أثناء القراءة، حتى يستطيع ابتداع نتاج جديد ينجم عنه تصور جديد، والتاريخ الأدبي العربي حافل بأنواع القراءات التي سادت منظومة التفكير العربي، والتي لم تعمل إلا على إقامة الحجْر على العقل العربي، وتحويله إلى آلة تعيد مَا تَم إنتاجه، لأن القراءة درجات تختلف من قارئ إلى آخر، وبها نؤسس لمعرفة مقبلة من المستقبل، ولا علاقة لها مع الماضي، بدون إغفال الحاضر باعتباره السبيل المؤدي إلى المستقبل. وما يمكن ملاحظته، في سياق القراءة والإبداع، هو أن القارئ العربي استطاب الركون إلى منجز الماضي، ميالا إلى ما هو اتباعي، لأن ذهنية الشيخ والمريد قائمة، وتسعى جاهدة إلى تكريس وترسيخ ثقافة الماضي كواقع لا يعلى عليه، وبالتالي من واجب القارئ أن يدرك أن الحل الوحيد للخروج من حالة الاتباع إلى حالة الخلق، هو النظر إلى القراءة نظرة تستشرف الآتي/ المستقبل، وهذا لا يعني بتاتا أن إبداع الحاضر أفضل من إبداع الماضي، فكل جديد في مرحلة ما قديم في لاحقها، وهنا مكمن ماهية الإبداع وجوهره. فالإبداع الخلاق لا يحقق ديمومته إلا بقدرته على تجاوز الإبداع الكائن بخلق كينونة جديدة أساسها الاختلاف والإضافة، فالمغايرة مطلوبة في الممارسة الإبداعية، لأنها تحفز المبدع على العمل على اكتشاف المناطق المدهشة والمحيرة والمربكة للقارئ.
لماذا أقرأ؟
إن المجتمع الحي بالقراءة يحقق حضوره في التاريخ، ويكون أكثر فاعلية في الحضارة الإنسانية، ويصون وجوده من الإمحاق والزوال ويبني كينونته بناء قوامه الوعي بسيرورة الإبداع، انطلاقا من الماضي مرورا بالحاضر وصولا إلى المستقبل، وذلك عبْر عملية الإدراك بالصيرورة والتحولات، التي يشهدها الإنسان والطبيعة والأشياء، وباستيعاب دوره/ القارئ في تثوير الفكر الإنساني، من خلال، القراءة التي تبقى المنقذ من ضلال التبعية والاتباعية تفكيرا وحياة. فالمجتمع الذي يظل متشبثا باللاقراءة، وبمحاربة التفكير، وبالعمل على جعل العقل عدوا له، وبالانتصار لثقافة التكرار والاتباع، سيكون مصيره الشللية في الإنتاج والجمود في التفكير، ولا دور له في حركية التاريخ، سيظل في هامشه، غير فاعل، وهنا مكمن العطل الحضاري الذي تعاني منه شعوب كرستْ الماضي كحمولة فكرية وقيمية فيها الكثير من التشويه، والادعاءات والاختلاقات، ومشوبة بشوائب الفهم / الوعي القاصر.
لماذا أقرأ؟
لكي أعِي الذات والعالم وعيا مَحْتده العقل، والمعرفة كأفق لارتياد المغايرة والمغامرة إبداعا وتفكيرا وتجديدا، أفقا يضيء العتمات ويسلط الضوء على الكوامن الخفية من الذات والعالم، فالوعي بالذات يقود إلى فهم الآخر، باعتباره الصورة العكسية للذات، ويمثل النقيض، ولا غرابة في ذلك مادامت القراءة النافذة التي يطل منها القارئ على العالم. وتغييب القراءة تغييب للإنسان وكينونته.
٭ شاعر من المغرب
استفدت كثيرا كان نافعا ومختلفا ووجدتُ فيه إجابة لأسألتي