-ماذا تعرف عن الملل؟
-إنه شعورٌ رديءٌ جداً…
-صحيح، ولهذا السبب خدَمني الملَل عندما بدأت الدِّراسة في جامعة تل أبيب قبل عامين!
-كيف؟
-عشتُ في سكن مؤقت، وبحثت عن شريكات لاستئجار شقة، خلال بحثي رأيتُ أن هناك من يبحث عن طالبة جامعية لتسكنَ مع سيِّدة تشعر بالملل، هي قادرة على خدمة نفسِها بنفسها، ولا تريد ممن تسكن معها سوى إعانتها على تحدّي الملل ومحاربته.
تواصلت على الخاص مع صاحب الإعلان، فاتفقنا على اللقاء على مدخل حرم الجامعة، وبعد يومين جاء الرجل وزوجته وشقيقته.
الشقة المقترحة ممتازة، فهي لا تبعد سوى بضع مئات من الأمتار، فلا حاجة للتنقل في الحافلات، أمشي منها إلى حرم الجامعة.
ذهبنا إلى العمارة، وصعدنا إلى الطابق الثالث، فاستقبلتنا سيِّدة تبدو في الستين أو أقل، ترتدي لباساً رياضياً، جسدها متناسق، حتى أنني فكَّرت، رُبَّما أنها كانت يوماً من راقصات الباليه، أو ممن يمارسن الجمباز. ودُهشت جداً، بل لم أصدّق، عندما علمت بأنها دخلت في الثمانين من عمرها، يعني أكبر من جدّتي، ولكن كأن الأعوام مرّت عليها، فصَقلت جسدها إلى الأفضل.
استرسلت محدّثتي الصبيّةُ فقالت: ما يُميِّز الأجنبيات هو اهتمامهن بمظهرهن ورشاقة أجسادهن حتى في سنِ متقدمة، أكثرهن يمارسن نشاطاً ما، بينما في مجتمعنا، ما إن تبلغ السيدة السِّتين حتى تبدو وكأنها تعشق الشيخوخة، وترحِّبُ وتفرحُ بها قبل أوانها.
أخبرتها بأنني من قرية عربية من الجليل، وذكرت لها اسم قريتنا.
ابتسمتْ وقالت إن هذا مثير للاهتمام، فهي زارت بلدة عربية منذ زمن بعيد، عندما كانت في شبابها الأول، وكانت القرية في تلك الأيام عبارة عين ماء وقطيع ماعز ورعاة، أحضرتُ أغراضي وبدأت العيش معها.
في الثامنة مساءً، تدخل إلى فراشها استعداداً للنوم، كل ما تطلبه هو الهدوء، ويطمئنها وجودي في الشّقة، دَعتني إذا ما كنتُ أرغب بمرافقتها للمشي في الخامسة صباحاً حتى شاطئ البحر.
الحقيقة أنني أعشق النوم، ولكنني وافقتُ على سبيل التّجريب، فهي فرصة بأن أغيّر شيئاً من منهاج حياتي الفوضوي، إلى نهج حياة صحِّي.
شعرتُ بالخجل، سيِّدة في الثمانين تهتم بلياقتها البدنية أكثر مني أنا ابنة السادسة والعشرين، كذلك فهي تمارس اليوغا.
كنت قد أحضرت معي علبة من الكعك بالتَّمر من صنع والدتي، عرضتُ عليها واحدةً منها، توقَّعت أن تلتهمها، ولكنها اعتذرت بأن نظامها الغذائي خالٍ تماماً من السُّكر والخُبز، ولا تدخلُ الحلوى فمَها إلا من خلال الفاكهة الطازجة، المحسوبة بعناية، فهي حريصة جداً على نوعية طعامها الذي يحمل الحدَّ الأدنى من السُّعرات الحرارية، كذلك فهي تذهب في كل يوم جمعة إلى عيادة لتدليك جسدها والعناية بأظافرها.
أثارت إعجابي أكثر وأكثر، بأنها تقرأ كتاباً واحداً في كل أسبوع، في العبرية أو الإيطالية أوالإنكليزية، قد تكون رواية، أو بحثاً علمياً أو قصصاً وشعراً، وفي التنمية البشرية وغيرها.
يوماً بعد يوم، صارت تحكي لي عن بعض التفاصيل من حياتها الخاصة، عرضَت عليّ ألبومات صور من أيام شبابها، كانت حسناءَ بالفعل، أرتني صورة لزوجها الأول الذي أنجبت منه بكرَها، ثم صورَها مع عشيقها الذي تركت زوجها لأجله، وهو والد ابنها وابنتها اللذين عرّفاني عليها، ثم عرضت صوراً لها في مناسبات كثيرة، وفي رحلات إلى مناطق مختلفة من العالم، في أوروبا والشرق الأقصى وكندا وأمريكا.
تنفّست محدثتي الشابة الصعداء وتساءلت: لماذا تهمل أمهاتنا وجداتنا أجسادهن، فمعظمهن بعيدات عن الرِّياضة والرشاقة والمطالعة والسَّفر ومختلف الفنون الجميلة؟
– يا عزيزتي، هذا الملل الذي تحدّثتِ عنه اسمه «مشاكل أغنياء»، العيش في نظام غذائي ورياضي ورحلات وعيادات تدليك، هذا ترفٌ يعيشه الميسورون، صحيح أن الأجنبيات يهتممن أكثر من أمهاتنا وجدّاتنا بأجسامهن وصحتهن، ولكن ليس لأنهن يحببن أن يكنَّ جميلات أكثر من جداتنا وأمهاتنا، فكل امرأة تحب أن تكون جميلة ورشيقة، ولكن هذا الاهتمام يأتي بعد رخاء اقتصادي واستقرار سياسي وليس صُدفة.
أمهاتنا وجدّاتنا مثل ملايين الأمَّهات العربيات ونساء العالم الثالث، كافحن لأجل بقاء أسرهن، أمهاتنا بطلات حقيقيات، وقعت عليهن مسؤوليات وأعباء كبيرة، معظمهن أهملن العناية بأنفسهن وجمالهن ورشاقتهن ولياقتهن البدنية وحتى صحتهن، إلا ما منحته لهن الطبيعة، اقتصدن في كل شيء لضمان بعض السَّعادة لأبنائهن وأزواجهن وأحفادهن وأبناء أسرهن.
أذكر هؤلاء النسوة، ليس فقط في يوم الأم، أذكر أولئك اللاتي حَرمن أنفسهن من ترف الحفاظ على الرّشاقة والنعومة، لم يمارسن رياضة على شاطئ البحر، ولا يوغا على صخرة في غابة، لم يدخلن يوماً معهداً للتدليك على أنغام موسيقى هادئة وشموع وروائح طيّبة، لم يقتنين أدوات أو موادّ للتجميل، واكتفين بالكُحل ورائحة طيّبة وحنّاء وزيت زيتون وبعض الكريمات الرخيصة، معظمهن لم يصلن مطاراً أو ميناءً، لم يكن لديهن وقت ولا إمكانيات، إنهن أولئك اللاتي حملن حملات الحطب من الوعور إلى بيوتهن، وجمعن بقول الأرض، وعشن مع أزواجهن شظف العيش والقلّة، واجترحن معجزة إنجاب وتربية أجيال من الرجال والنساء والأحفاد الّذين يملأون الأرض صخباً وحياة، في الجامعات وغيرها من مرافق الحياة في الوطن وخارجه، لم يواجهن مللاً قط، فقد كُنَّ مشغولات في صراع شرسٍ مع قسوة الحياة والقمع السياسي الذي تعرض له شعبهن وأسرهن، والقمع الاجتماعي الذي لا يقل قسوةً عن القمع السياسي، ولكلٍ منهن قصتها، وقد انتصرن، نعم انتصرن في معاركهن، وها هي ثمارهن الجميلة، تنتشر بذاراً يملأ أرض الوطن، وتنتشر في كل جهات الرِّيح.
مقاله قيمه جدا تدفعنا للتفكير والتحليل في موضوع المقالة المطروح ، الام حيث يقول شاعرنا الكبير محمود درويش في حنينه إلى أمه وكل ما يتعلق بها من الذكريات والتفاصيل:
أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبر فيَّ الطفولة
يومًا على صدر يومِ
وأعشق عمري لأني
إذا متُّ، أخجل من دمع أمي.
فالحنين إلى الأم وذلك الدفء المتفرد الذي نلمسه في احتوائها لنا وحنانها علينا، لا يشبهه شيء، ومع أن الأم هي الأم منذ قديم الأزل وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
تميز أمهاتنا وجداتنا السابقات ببعض المزايا العجيبة جدًا، والتي تكمن في التضحية المطلقة التي لا تعرف الحدود ولا تعترف بها، التضحية بالوقت والجهد والعمر كله، والتضحية بالذات في سبيل استمرار بقاء كيان الأسرة( يتبع )
( تكمله ثانيه ) والتضحية بالسعادة والراحة الفردية في سبيل راحة الأبناء، والتضحية بكل الطموحات والأحلام في سبيلهم، بل لو أنصفنا القول وأمعنا النظر قليلا لوجدنا أن أمهاتنا لم يكن لهن أي طموحات شخصية تذكر، فبمجرد الزواج وإنجاب الأبناء تتحول كافة الطموحات الشخصية إلى مسارٍ واحدٍ وتصب في مركزٍ واحدٍ، هو الزوج والأبناء.
ونلاحظ في حكايات الأمهات السابقات أنهن كن يقبلن مالا يقبله أحد، ويتحملن ما لا يطيقه أحد من شظف العيش ومشقات الحياة، وطبيعة الحياة الزوجية القاسية التي طالما جارت على الأمهات وأتت على حقوقهن في السعادة والإشباع النفسي والمادي، فكم من الأمهات كن يقبلن استمرار الحياة التي لا تناسبهن إطلاقًا ويتحملن الظلم والجور والإهانات أيضا فقط من أجل الأبناء، وفي سبيل الوصول بهم إلى بر الأمان، لم يكن من السهل أن تترك الأم بيتها أو تفارق زوجها إلا في أضيق الحدود، فكانت نسب الطلاق أقل بكثير مما صارت إليه الآن.
لم تكن الزوجة الأم تسعى لتحقيق متعها الشخصية، بل كانت تضحي بأهم الحقوق لأجل أبنائها،، كن أمهات لا يعرفن للتضحية حدودا.( يتبع )
( تكمله ثالثه )واذا ما قمنا بمقارنة هؤلاء بأمهات العصر الحالي نجد أن الفتاة اليوم اخذت حقها من التعليم وتبوأت المناصب الوظيفية، وتذوقت لذة الاستقلال وحرية القرار، فارتفع سقف طموحاتها وأحلامها، واختلفت معايير اختيارها للحياة الزوجية، فراحت تنتقي من المتقدمين لها أفضلهم وأكثرهم ثقافةً ووعيًا، وهي على يقين بأنها تستحق الأفضل،، فإذا بدا لها منه ما تكره من طبعٍ أو سجيةٍ أو فكرٍ، تمردت وأقامت الدنيا ولم تقعدها، تطلب الطلاق بصوت جهوري، فإن تعذر الطلاق لجأت للخلع، وإذا نصحها ناصحٌ بأن تتحمل وتصبر لأجل الأبناء، أغراها ما صلت إليه من العلم أو العمل وتوهمت أنها ستكون الأم والأب معًا، فتظلم أبنائها أو ما تظلمهم بالحرمان من وجود الأب، وإذا انهت حياتها وهي في زهرة شبابها شق عليها أن تكمل الحياة وحدها وأن تُحرم متعة الزاج والأسرة، فتبحث لها عن زوج آخر، وهي واهمة أنها ستعوض أبنائها عن كل شيء، وهلم جر من صور التمرد والأنانية –المشروعة- التي عرفناها نحن ولم تكن أمهاتنا أو جداتنا يعرفنها ولا يطالبن بها.( يتبع)
( تكمله اخيره ) فقد اصبحت الأمهات غير مستعدات للتضحية بطموحهن العملي والوظيفي، فكم من أم اختارت الانفصال حين خيرت بين البيت وبين العمل، وكم من أم سمحت لكل مؤثرات التربية الخارجية أن تحل محلها في تربية أبنائها بسب انشغالها عن الأبناء بعملها ،والتزاماتها الوظيفية،وكم من أم لا تتورع أن تطلب الطلاق وبين يديها اثنين أو ثلاث من الأبناء، فأصبحت أروقة المحاكم تزدحم بدعاوى الطلاق والخلخ بمعدلات لو سمع عنها أمهاتنا لتصورن أنها درب من الكذب والخيال.
واخيرا فهذا ليس اتهام ولا ذم ولكنه إقرار بالفرق الشاسع في التفكير والأوليات بين أمهات الأمس وأمهات اليوم،، فسلام إلى كل امهاتنا وجداتنا اللائي لم يقصرن ولا يبخلن بأغلى ما يملكن، سلامٌ على أمهات اليوم الذين تتنازعهن التحديات والطموحات ومع ذلك يواصلن العطاء والدعم ويسعين لصناعة أجيال واعية متألقة، سلامٌ الف سلام إلى كل أم، تخير بين أحلامها وصلاح أبنائها فتختار صالح أبنائها، وسلام إلى كل أم تسعى لتحقيق كل ما تمنته في أبنائها وتنتظر العوض فيهم وبهم.
المتميز سهيل كيوان أبدعت بهذه السطور .. وتميزت بكل حرف خطه قلمك دمت .. ودام نبضك واختيارك اشكرك جداً لانـك…. هنـا