الولايات المتحدة الممزقة داخليا، أصبحت أقل استعدادا وقدرة على القيادة على المسرح الدولي. ومن الصعب أن تعيد ترميم صورتها في الشرق الأوسط خاصة، بعد دعمها لحرب الإبادة والتهجير ضد سكان غزة. وإن كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أحدثت هزة كبيرة في مستوى وعي الأمريكيين، ودفعتهم باتجاه الاقتراب أكثر من متابعة سياسات حكومة الولايات المتحدة في العالم، ورصد أثرها على أوضاعهم الداخلية. فأحداث غزة ومجازر الاحتلال البشعة تثير هي الأخرى الرأي العام والحركة الطلابية في الداخل الأمريكي، رغم حملات القمع التي تقوم بها قطعان الصهيونية وحراس المعبد. بالمحصلة، الأحداث والتوترات في الشرق الأوسط، تجعل من غزة اليوم عقدة التوتر الإقليمي الأكثر وضوحا.
يقدر تشومسكي أنّ سؤال لماذا يكرهوننا، لم يطرحه الرئيس جورج بوش، بل طرحه منذ ما يزيد عن أربعة عقود خلت الرئيس الأمريكي أيزنهاور مع معاونيه، عندما تساءل عن سبب حملة كراهية الشعوب العربية للولايات المتحدة. وقد وجد الرئيس آنذاك الإجابة من مجلسه للأمن القومي، الذي أخبره أن معارضة الولايات المتحدة الأمريكية للتقدم الاقتصادي للدول العربية، حماية لمصالحها الاقتصادية هو السبب. نضيف إلى ذلك دعم أمريكا المطلق للكيان الصهيوني وأعماله الإجرامية في فلسطين والمنطقة. في علاقة بما يجري في غزة اليوم من حرب همجية متواصلة، الاعتداءات الكبرى على القطاع، والتصاعد في استعمال وسائل الإبادة، بل زيادة حجم الدعم الأمريكي بالخصوص، قد تزامنت كل مؤشرات بدايتها منذ ما يقارب عقدين، تحديدا مع انتصار حماس في انتخابات 2006 بعد فك ارتباط إسرائيل بالقطاع وانسحابها منه. لقد كان ذلك الانتصار تحولا مفصليا في الساحة الفلسطينية هذا مؤكد، حيث لم تكن الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل مستعدة لرؤية فتح تخسر على الميدان إزاء حماس، بعد أن بذل كل شيء من أجل جعلها، عبر منظمة التحرير، الطرف المقابل الذي يمسك بالقرار الفلسطيني ويمثل بمفرده وإلى الأبد، ودون مراعاة أي اعتبارات أخرى، الفلسطينيين.
إسرائيل كما وصفها تشومسكي، قاعدة للقوة الأمريكية عبر البحار، وهي أقوى قاعدة وأكثرها موثوقية بالنسبة لأمريكا، فإن توقّفت عن كونها كذلك، فسوف تتخلّى عنها كغيرها
قد يتفاجأ البعض من حجم قمع أصوات الاحتجاج الطلابية في الداخل الأمريكي هذه الأيام، ولكن الدفاع عن إسرائيل بتعلات مختلفة منها اللازمة المعهودة، وهي تهمة معاداة السامية، وهي الشجرة التي تخفي وراءها غابة من مصالح مشتركة، يجري الدفاع عنها من قبل اليهود الموالين لإسرائيل في أمريكا، حيث يعملون على جر السياسة الأمريكية باتجاه مصالح إسرائيل دون قيد أو شرط. يأتي ذلك عبر مسار تأثير اللوبي الصهيوني الذي تمثله بالأساس منظمة «أيباك» التي تستفيد من ترسانة معقدة وفعالة من أدوات التأثير في المؤسسات كافة، وحتى مراكز القرار. وعبر دور الصهيونية المسيحية التي نجحت في تثبيت وسائل دعاية وتأثير بالغة القوة على الرأي العام. وهو المسار الثاني الذي أطلقه المبشرون الطهوريون منذ نهاية القرن التاسع عشر. والنتيجة أن عشرات الملايين من الأمريكيين أصبحوا على امتداد العقود الماضية يساندون إسرائيل من دون تحفظ، ويتوقعون منها مواصلة سياستها المتطرفة ضد العالم العربي وضد الفلسطينيين. يعلم الجميع أن إسرائيل تمتلك ترسانة نووية تجعل من العسير على الولايات المتحدة إقناع دُول المنطقة بالكفِّ عن طموحاتها النووية. ستيفان والت أكثر من فنّد حجَّـة أنه يتعيّـن مساندة أمريكا لإسرائيل، باعتبار أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، إذ لم تحظَ أي دولة ديمقراطية أخرى في العالم بمثل ما تحظى به إسرائيل من دعم بالمال والسلاح الأمريكي، كما أن ديمقراطية إسرائيل تتعارض مع القيم الأمريكية، لأنها تأسّست كدولة يهودية، ولذلك، تتعامل مع مواطنيها من غير اليهود على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وتحرِم ملايين الفلسطينيين الواقعين تحت سيـطرتها من حقوقهم السياسية. وقد رأى العالم بوضوح طبيعة هذه الديمقراطية، التي يدعونها بعد نازيتهم وحجم إرهابهم المتواصل ضد المدنيين في غزة.
المعضلة الحقيقية التي تفصح عن ثقافة سياسية مرتبكة، تجعلنا نعيش في عصر تعمل فيه السوق الفوضوية والموارد الطبيعية المتناقصة على الزج بالدول في تنافسات تزداد خطورة. في الأثناء، بقيت الأجهزة الأممية غير فاعلة في ضمان حق تقرير المصير، أو الدفاع عن الشعوب المضطهدة، ولجم الدول المولعة بالحروب والتوسّع الخارجي، أو التصدّي لقضايا الارهاب والانتهاكات، خاصة تلك التي تمارسها الدول أو الكيانات المصطنعة، وأكبر دليل تجاوز إسرائيل لتوصيات محكمة العدل الدولية بلا اكتراث. مشاركة أمريكا، الداعم الرئيسي لكيان الاحتلال، في تعطيل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أصبح أمرا واقعا في مواجهة معظم دول العالم. وآخر دليل منعها انضمام فلسطين كعضو دائم في الأمم المتحدة، ما زالت الإدارة الأمريكية تراهن على لعبة الإدارة بالأزمات وخلق الفوضى التي اعتمدتها كمنهج جيوستراتيجي، حتى إنّ إسرائيل اندمجت في الاقتصاد العسكري الأمريكي، ولم يعد بالإمكان التمييز بينهما.
إسرائيل هي فعلا كما وصفها تشومسكي، قاعدة للقوة الأمريكية عبر البحار، وهي أقوى قاعدة وأكثرها موثوقية بالنسبة للولايات المتحدة، فإن توقّفت عن كونها كذلك، فسوف تتخلّى عنها الولايات المتحدة كغيرها. ولكن ما داموا يشكلون قاعدة أمامية للقوة الأمريكية، فيمكنهم عمل ما يشاؤون. يمارسون الغطرسة والهيمنة بكل وسائلها ومضامينها في سبيل مصالحهم، غير عابئين بحق الشعوب في العيش الكريم خارج أطر الخنق الاقتصادي والمالي، وممارسة الوصاية على المقدّرات. سياقات مخيبة لآمال البشرية، فعلت فيها المنظمة التكنوقراطية الدولية ما تريد، ورفضت خلالها أمريكا، على وجه التحديد، إبقاء العلاقات الأممية منصفة، على قاعدة التشارك في حفظ السلم والأمن الدوليين. وتزايد التعارض في المصالح بين القوى الكبرى، وبحث قادتها عن الأسباب التي تجعل كل منهم يتبع سياسة الهروب إلى الأمام، تزيد من إرباك العلاقات الدولية وتجعل الشعوب تدفع الثمن. واقع حال أمريكا اليوم، يتلخص في مزاج اجتماعي وسياسي عام، يتميز بإحباط شعبي واسع، بسبب الانقسامات العميقة في البلاد، ومع ذلك يرغب كل من بايدن وترامب في الترشح لولاية رئاسية ثانية. يؤكد عمق الانقسام داخل المؤسسات السياسية الأمريكية حدة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي. وحرب غزة المتواصلة التي تحرك الاحتجاجات في أمريكا، أنهت بدورها أي أمل للرئيس بايدن في مستقبل رئاسي بعد أن بارك الفاشية الصهيونية، ودعّم المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان. ومحاولات إدخال ملايين المكسيكيين عبر ولاية تكساس وإعطائهم وثائق رسمية لأهداف انتخابية لن تغير المعادلة، وهي أساليب تجارية قذرة ومكشوفة مضمونها شراء الذمم لمصالح وقتية.
تقسيم العالم إلى ديمقراطيّات خيّرة وأنظمة سلطويّة شريرة، كان سلوكا أمريكيا مخادعا وخبيثا حمل نتائج كارثية. وبالأساس على الدول التي استهدفت الولايات المتحدة تغيير أنظمتها، فقد كانت أكثر عرضة للحروب الأهلية، والقتل الجماعي، وانتهاكات حقوق الإنسان والتردّي الديمقراطي من الدول الأخرى، التي تمّ تجاهلها. وهو سياق يضيّق مساحة التعاون ويجعل كثيرين في مراوحة من إعادة الحسابات. بالنتيجة، سلوك أمريكا لا تتحقق بسببه الانفراجة السياسية الإقليمية ولا الدولية.
كاتب تونسي