جلب العام 2019 للسوق المالية عدة اكتتابات كبرى، ولكن أكبرها جاء الأربعاء الماضي عندما أصبحت شركة النفط السعودية أرامكو شركة عامة.
حدد الاكتتاب للشركة شارة ثمن بقيمة 1.7 تريليون دولار، وجند للعائلة المالكة السعودية 25.6 مليار دولار مقابل 1.5 في المئة من أسهم أرامكو. وفضلاً عن التفاصيل الجافة والأموال التي ضخت لجيوب العائلة المالكة السعودية -التي بطبيعة الحال لم تقف في الطابور أمام التكية– فإن لهذا الاكتتاب إمكانية كامنة لأن يغير بشكل جوهري سوق النفط بل وربما السعودية أيضاً.
بخلاف الخطة السابقة لاكتتاب أسهم أرامكو في واحدة من البورصات الكبرى في العالم مثل نيويورك ولندن وطوكيو أو هونغ كونغ، حصل الاكتتاب في تداول بورصة الرياض التي أصبحت دفعة واحدة البورصة التاسعة في العالم من ناحية القيمة السوقية للشركات التي يتم التداول بها فيها. مكان الاكتتاب يجسد كم هو غير عادي هذا الاكتتاب، الذي كان الهدف منه تجنيد المال للمالكين الخاصين والسماح للشركة بأن تتوفر لها قدرة سهلة للوصول إلى المال في المستقبل. فتوفر المال لبورصة الرياض أدنى بكثير من بورصة نيويورك مثلاً، ولكن هذا لم يكن هو الهدف.
بالأصل، في 2016، استهدف الاكتتاب تثبيت سعر 2 تريليون دولار للشركة كلها واكتتاب 5 في المئة منها لمستثمرين غربيين مقابل 100 مليار دولار. في الزمن الذي انقضى منذئذ تبينت لأصحاب القرار في السعودية –وتحديداً لولي العهد محمد بن سلمان– مشكلتان أساسيتان في الخطة. الأولى، هي أن مستثمرين الغرب لا يقبلون هذه التسعيرة المرغوب فيها من السعوديين. وفي الأشهر التسعة الأولى من العام 2019 سجلت أرامكو ربحاً نقياً من 68 مليار دولار، غير أن ربحيتها في ميل هبوط ومخاطر، مثل الاحتباس الحراري العالمي، وعدم الاستقرار الجغرافي السياسي في الخليج تثقل على تسعيرتها، على الأقل في نظر المستثمرين الغربيين. ثانياً، أوضحت عملية الاكتتاب كم هي بعيدة أرامكو عن المقاييس الحالية للإدارة السليمة، والمسؤولية العامة، وتقارير المستثمرين والشفافية المطلوبة من الشركات العامة التي يتم تداول أسهمها في نيويورك أو في لندن.
خطة من مرحلتين تبدأ من البيت
في ضوء هذا الواقع، قرر السعوديون تغيير النهج والانتقال إلى خطة من مرحلتين. في المرحلة الأولى قلصوا عدد الأسهم المعروضة للبيع، وقلصوا دور “وول ستريت” وبنوك الاستثمار فيها في أثناء الاكتتاب، وتوجهوا أساساً إلى مستثمرين سعوديين لتجنيد المبلغ الأعلى الممكن.
في المرحلة الثانية، بعد أن ترتفع قيمة الشركة، يأملون في تسجيل الأسهم التي سبق أن اكتتبت بتسجيل مواز في بورصة غربية (أو في آسيا) والبيع هناك –بسعر عال– لأسهم أخرى حتى معدل 5 في المئة من الشركة.
المرحلة الأولى من الخطة نفذت بنجاح بالغ. 1.5 في المئة من أسهم الشركة اكتتبت وفقاً لقيمة سوقية بمبلغ 1.7 تريليون دولار. ومنذ الاكتتاب ارتفع مرتين سعر السهم بـ 10 في المئة، وهكذا تم التداول به يوم الجمعة بسعر حدد لأرامكو كلها قيمة سوقية من 2 تريليون دولار، أكثر بضعفين من القيمة السوقية لشركات الطاقة الخمس التالية في القائمة. ليس في هذا النجاح مفاجأة كبرى: فقد طلبت العائلة المالكة من عائلات غنية ومن مستثمرين مؤسساتيين في السعودية أن يشتروا الأسهم في البورصة بعد الاكتتاب، على سبيل الموقف الوطني.
تتطلب المرحلة التالية من الخطة ان تستمر أسعار النفط في الارتفاع. في 2019 ارتفع سعر برميل النفط بنحو 15 في المئة، وذلك بقدر غير قليل بسبب سياسة الدول الأعضاء في كارتل النفط اوبك وشريكته روسيا، الذين قلصوا من إنتاجهم. ولم يجئ التقليص الأخير، نحو 0.5 في المئة، صدفة في اليوم الذي سعر فيه اكتتاب أسهم أرامكو. يمكن القول إن الكارتل يحاول الآن مساعدة الشركة القوية فيه، ولكن الحقيقة هي أنه يرد على تغييرات السوق التي ليست تحت تحكمه في معظمها. فالولايات المتحدة مثلاً هي اليوم منتجة النفط الأكبر في العالم، مع 12 مليون برميل في اليوم مقابل نحو 10.3 مليون في السعودية ونحو 10 مليون في روسيا. للسعوديين سيطرة أقل على جانب الطلب على النفط المتعلق بوضع الاقتصاد العالمي والاستخدام المتزايد للطاقة البديلة؛ مثلاً، ونتيجة للتطورات في الهند التي قلصت طلبها على النفط كنتيجة للركود والاستناد المتزايد إلى السيارات الكهربائية.
من ناحية أصحاب المال السعوديين، يعد هذا تغييراً فكرياً هائلاً وصعباً على الوصف. فتسعير السهم وحراكه أمر معروف لمستثمري السوق المالية، ولكن العائلة المالكة السعودية غير معتادة على التفكير بثرائها بتعابير متغيرة مرة كل بضع ثوان. وهذا التغيير الفكري يشبه المستثمر العقاري الذي اعتاد التفكير بثرائه بتعابير الدولارات للمتر المربع غير القابلة للتغيير إلا في أثناء شراء أو بيع العقار، وفجأة ينقل ممتلكاته لنزوات السوق المالية التي تغير رأيها –وتسعيرة الممتلكات التي يتم التداول بها فيها– عشر مرات قبل وجبة الصباح.
التعلق بالذهب الأسود تعاظم
لقد كان الهدف المعلن لاكتتاب أرامكو هو تحقيق رؤيا بن سلمان وتقليص تعلق المملكة بالذهب الأسود المدفون تحت تراب السعودية. وللمفارقة، فإن الصيغة التي تم اختيارها لاكتتاب الشركة جعلت السعوديين أكثر حساسية لأسعار النفط. وذلك لأن الثمن الذي تحقق للشركة جاء أساساً من خلال بيع الأسهم للمواطنين السعوديين (10 في المئة من الأسهم فقط بيعت لغير السعوديين، بما في ذلك صناديق الثراء للكويت وأبو ظبي)، الذين أصبحوا دفعة واحدة أكثر حساسية للتغيرات في سوق النفط العالمي، كون جزء مهم من مالهم هو استثمار قيمته جلية لعين الجميع وتتغير من يوم إلى يوم. سيكون أمراً واحداً أن يفقد مستثمر مؤسساتي ما عشر استثماره في أرامكو بسبب تغريدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو خطاب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسيكون أمراً مختلفاً تماماً إذا كان مثل هذا سيحصل لملايين المواطنين السعوديين الذين اقترض بعضهم المال من البنوك المحلية كي يشتروا أسهماً في الاكتتاب.
النتيجة هي أن السعوديين الذين عملوا تاريخياً كي يهدئوا الخواطر في سوق النفط، يجدون أنفسهم في وضع هم فيه ملزمون بأن يعملوا كي يضمنوا أسعار نفط عالية. ولا يمكنهم أن يسمحوا لأنفسهم “باتخاذ خطوات لضمان صحة السوق للمدى البعيد. في الحالة المتطرفة، فإن سقوطاً كبيراً في سعر النفط يجر انخفاضاً حاداً في سعر سهم أرامكو من شأنه أن يهز استقرار النظام كنتيجة لاضطراب المواطنين السعوديين في الشوارع. ومن شأن اكتتاب أرامكوا أن يكون بالنسبة للسعودية خطوة أخرى نحو التعلق بالمقدر النفطي بدلاً من أن يكون خطوة في الاتجاه المعاكس.
بقلم: يغئال نويمن
هآرتس/ذي ماركر 16/12/2019