وائل دحدوح لماذا تكتب الرواية وأنت الرواية؟

حجم الخط
0

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، والصحافة الفلسطينية تكشف رواية عصرية حقيقية، رواية مصيرية فيها العنوان لا يتسع لوصف مشهد المأساة، الرواية التي تكتب عن أكثر من «23 ألف شهيد، و7 آلاف مفقود، و60 ألف جريح، و11 ألف أسير، و1.9 مليون نازح، ومئات آلاف البيوت، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والمساجد، والكنائس، وسيارات الإسعاف، والمركبات، وآبار المياه، ومحطات الكهرباء، والملاجئ، والمطاحن، والمخابز، والمكتبات، والمراسم، والمحالّ، والدكاكين، والبسطات، والورش، والمقابر، والجثامين المتحلّلة، التي لن تحظى بترف الجنازة»..
كما في صفر المسافة، لا فرق للمساحة في تعرّيف الفداء، «وصل شهداء الصحافة الفلسطينية، أكثر من 120 صحافيا وصحافية»، صحافيون نقلوا ما يجري على الهواء، رغم قطع الكهرباء وتعطيل شبكات الاتصالات والإنترنت في قطاع غزة من جانب الاحتلال، فكيف للحقيقة أن يتم تعريفها وسط كل هذا الاستهداف والإبادة الجماعية، التي تعيشها غزة قلب فلسطين.. غزة الجرح المفتوح. لكل معركة سردية بطل «تراجيدي»، تفتح غزة العصر الفلسطيني بمعجم أبطاله وقاموس الضحايا الشهداء، كلمة وائل الدحدوح وصحافته بين الرصاص ومخيمات اللجوء، والفقد المستمر والتغطية التي تجبر صاحبها على أن ينهض من سرير الوجع، ليستمر الهواء ينطق في ما بعد النظريات التي صارت تحت الأنقاض، وفي الحرب يكون الرثاء سريعاً ويختفي، ويكون الدم فورياً مطارداً «الدم الحرام» إذ يصبح الموت غير عادي..

ما يفعله وائل الدحدوح وزملاؤه الصحافيين نقل الواقع كما يعيشه أهل الأرض الذين تلاحقهم خيم المنافى داخل الوطن، إذ صار الوطن في غزة منفى يلاحق منفى

«مات الولد» الجملة الشهيدة تحت القصف والإبادة الصهيونية في غزة منذ محمد الدرة إلى شهداء العدوان الإسرائيلي في غزة «صارت الكتابة جزءا من حياة الفلسطيني ومعاشه اليومي.. يعرّف الشهداء بالكتابة على الجثث.. في المقبرة الفلسطينية الحيّة المفتوحة للشهداء والحرية والآلام، وبطل الصحافة في غزة الصحافي الجريح وائل الدحدوح، عاش في بداية الحرب فقدان الجزء الأكبر من عائلته، حيث استشهدت زوجته وابنته وابنه وحفيده، واكتفى ودموعه تنطق «معلش» واستمر على الهواء جريح القلب والوجدان، ويوم السابع من يناير/كانون الثاني مطلع العام الحالي، طاردت الطائرات الإسرائيلية مجموعة من الفلسطينيين في سيارة داخل مدينة رفح جنوب قطاع غزة.. استشهد الصحافي حمزة الدحدوح النجل الأكبر لوائل، وزميله الصحافي مصطفى ثريا.. «فلماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟». في السفر الفلسطيني المنفي داخل وطنه، أرثو وائل الأوجاع والرثاء، بينما لا تفيد البلاغة في مساحة الكتابة، والحقيقة تكتب فصولها السريعة كما الحرب، إذ يعود القول لشاعر الرفض «الموت في لوحات»، من يقرأ الموت يقرأ ماذا يفعّل الصهاينة في فلسطين؟ ووائل حقيقة حيّة ينبغي أن تُقال هذه الأسطورة التي جسدت نشيد الفلسطيني والجرح في غياب عائلته وعناق ابنته لحظة الوداع الأخير لحمزة. ما يمكن أن تفعل الصحافة ومؤسسات الكلمة والبشر وغزة تعيش فصلاً طويلاً من العدوان؟ وماذا يعرّف وائل الفقد إذ ذاع صوته في الكون من أجل أن لا تغيب حقيقة ما يحدث في فلسطين من جرائم وانتهاكات في حق الفلسطينيين، والعالم ليس صامتاً، بل قد يكون مشاهدا وشاهدا، من دون الفعل ويلجأ لفعل الكلام. الإبادة تشنها إسرائيل وحلفاؤها من الأنظمة الغربية لتنفيذ مشروع الصهيونية للتطهير العرقي داخل غزة، ما تعيشه فلسطين والصحافة داخلها يؤكد بحق قول جان جينيه «لماذا تكتب الرواية وأنت الرواية؟»، بهذه الصياغة للرواية المكتوبة أصلاً بين سطر المسافة للفدائي المراسل صاحب الكلمة وتاج معركتها، ومن يحاول انتزاع حتى الكلام وملاحقته مع الصورة، هذا ما تفعله الصهيونية، وهذا ما يفعله وائل الدحدوح وزملاؤه الصحافيين في فلسطين من أجل العدالة ونقل الواقع كما يعيشه أهل الأرض الذين تلاحقهم خيّم المنافى داخل الوطن، إذ صار الوطن في غزة منفى يلاحق منفى، ومنفى يبحث عنه سكان غزة حاملين أجسادهم في البرد والموت والعدوان.. هنا وهناك وبين عالمين يقف وائل بين الشاشة، والفلسطيني في أرضه المسلوب حتى النخاع، إلا من صموده وكرامته في عصر الصمت والإبادة، حتى تنتصر «فلسطين الطيبة الجريحة» على الاستعمار الذي جاء من الأرث الاستعماري البريطاني، يستمر وائل الجبل الفلسطيني للصحافة، والكلمة الفورية لأ تؤجل مع الحدث الفاشي، حيث لا يؤجل العدو حصد الأرواح ولا السكوت عن المقبرة الفلسطينية، حتى نبش القبور بالطائرات، كتب وائل نصوصه الكثيرة في كتابة فلسطينية عالمية، تعرفها كل لغات الدنيا، إذ الترجمة تلتقط من الصورة حزن الكلام وحقيقته، وإذا الصوت نصّ مكتوب في مواجهة الكاميرا والعدو، وبين الناس يسير وائل واحدا منهم، والناس هناك في قلبه الجريح حيث جراحه لم تنم للحظة منذ العدوان.. والسؤال قد يكون واقعا ساخرا إذ تم توجيهه إلى المؤسسات التي تدعي حرية التعبير وحماية الصحافة، وهي التي تنظر إلى الشرق في وضع المستثنى من الحاضر.. عيون عمياء إلا من رؤية من يتسع لهم تسليط الضوء عليه تماشياً مع المركزية الغربية واللامركزية الإمبريالية.. ووائل الذي لا يحتاج إلى تعريف نظري، حيث المرء يعرّف نفسه ووطنه على مرأى الكون «يُركبَ مفردة واحدة، هي الوطن».. إن الحديث وأخلاقيات العمل الصحافي قد يستدعيان نظريات ونصوصا لا نهاية لها! ولكن ما الفائدة من كتابة النظرية، ومن درسها ونفذها وكتب ترجمتها التطبيقية في ميدان الحرب بلا حماية، غير لجوئه إلى الأرض باحثاً عن الحدث الدموي وتصديره المباشر إلى العالم، فقد دخل وائل متنقلاً، دون علمه، من النظرية الإعلامية إلى أوراق غزة، التي تنزف حتى السماء، حتى فقدانه لأبنائه وزوجته وحفيده من أجل أن تبقى الكلمة حاضرة حيّة.
محمود درويش كتب عام 1971 نصّا إلى غزة، يستحق الاستدعاء والوقوف عنده «فالغزاة لا يعرفون طبيعة العرب الحقيقية حين يودعون شهداءهم فاجأتهم غزة، وهي ينبوع المفاجآت، بأنها سرعان ما ودّعت بطلها الشاب، وعادت إلى ممارسة إعلان جدارتها بالحياة والشرف والكرامة، لأنها تعرف أن هذه القيم تتحول إلى كلمات يابسة في ظل الخضوع للاحتلال، ومقاومة الاحتلال هي الضمانة الوحيدة لصيانة هذه القيم». وعلى الرغم من الواقع الكابوسي الذي يُسجل في «لحم الفلسطيني حقل التجارب الصناعية»، يوميات العائد قبل بلوغها يد الشاعر العام الراحل، أن الكاميرا والأطفال في غزة جدران فلسطينية، لا يهرب الفلسطينيون ولا يتركون المكان إلا داخل المكان، حيث صار الخروج من مخططات العدو الذي يريد طرد الفلسطيني من الهواء والبحر والتراب، لو استيقظ الشعراء وعادوا وهم لا يرحلون.. لكتبوا في غزة لافتات لكل طفل وامرأة لكل بيت وحارة، لكتبوا لوائل في رثاء حمزة ما لا يشبه الرثاء، ويقترب من المأساة الفلسطينية التي تتناص من حيث السيرة مع الإغريقيّة في تجذر التاريخ وأسطورته.. والأسطورة ورق جدران في البداية وفي فلسطين الحقيقة دماء نازفة مع كل لحظة في مدارات الوقت، البحث عن الحقيقة لعالم اكتفى بالرؤية من الكتابة، والصوت جاء بين المنطوق وما لا ينطق، فكان صوت وائل المسكوت في غزة، وعيون الهواء لحظة بلحظة حتى لا تغيب الحقيقة فلا وقت للهوامش هناك ولا وقت لكتابة الوقت، إلا صوت الحقيقة المباشر.
صحافي فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية