في عام 1918، وخلال الصيف الأخير من الحرب العالمية الأولى، كان الروائي البريطاني – الأيرلندي جيمس جويس يتجوّل في المناطق الفرنسية من سويسرا، مع فرقة تؤدي مسرحية «أهمية أن تكون جادّا» لكاتب أيرلندي آخر هو أوسكار وايلد.
بعد رسالة قصيرة من جويس إلى الممثلية البريطانية في بيرن، يطلب منها المساعدة، أرسل أحد الموظفين برقيّة إلى وزارة الخارجية، يستفسر فيها عن حادث حصل في زيوريخ بين جويس ودبلوماسي بريطاني آخر، حيث ورد أن «جويس وشركته هم من الأشخاص المرفوضين بشدة، وعرضهم عادي جدا ولا يثير اهتمام البروباغندا البريطانية، اجتماعيا، أو مهنيا»، وأن: «السيد جويس هو أيرلندي في سن الخدمة العسكرية، وقد أعاد للقنصلية طلب تجنيده قائلا، إنه من الواضح أن الطلب أرسل إليه بالخطأ. على ضوء ذلك أخبرت السيد جويس أننا لا نستطيع مساعدة عرضه المسرحي».
يروي جويس الحادثة بطريقة مختلفة، فقد اختلف مع أحد شباب البعثة الدبلوماسية، الذي شارك في العمل بدور مونكريف في العرض الإنكليزي لمسرحية وايلد، حين حاول استعادة مال قبضه من بيع تذاكر للفرقة، لكن الدبلوماسيّ الشاب طالب جويس بمال إضافي، لأنه رأى أن دوره يستحق أجرا أكبر، بل إنه وصف جويس بالمحتال، وهدد برميه عن درج مبنى البعثة.
وفيما يخص الخدمة العسكرية فقد أخبر جويس البعثة، حين سئل، أنه وعد النمساويين حيث يقيم في تريستي (مدينة آل حكمها إلى إيطاليا بعد الحرب العالمية ولكنّ سكانها من جذور أوروبية مختلفة) أنه سيبقى على حياد خلال الحرب.
الضغينة والإباحية
تعاضدت الضغينة الشخصية لموظّف بريطاني (الذي تبيّن أنه اختلف مع جويس على أجره عن أداء دور في المسرحية) مع موقف عداء سيتصاعد من قبل وزارتي الخارجية والداخلية البريطانيتين، يؤدي إلى منع الرواية في بريطانيا ومستعمراتها، وقد أثمر هذا الموقف السلبيّ، الذي يختلط فيه الشخصي والسياسي والثقافي، لحكومة الإمبراطورية البريطانية نحو روائي كبير، إلى درجة أنه سمي في تاريخ الأدب بـ»حروب جويس».
اعتبر ت. إس. إليوت، الشاعر الأمريكي ـ الإنكليزي الشهير، أن رواية «عوليس» لجويس، «أهم تعبير أوجده العصر الحالي، وهو كتاب ندين له جميعا»، فيما وصفها الروائي الأمريكي فلاديمير نابوكوف بـ»عمل فني إلهي»، ويحتفل المعجبون بها كل عام بما يسمونه «بلومزداي» (على اسم بطل الرواية).
كانت المعلومات السائدة حول تاريخ جويس، أن سبب الحظر اتهام الرواية بالإباحية، وسياق هذا الاتهام مفيد لباحثي الأدب، لاشتباكه بظواهر تفيض عن الأدب، إلى قضايا يتداخل فيها الثقافي بالسياسي والديني والاجتماعي، غير أن معلومات كُشفت مؤخرا تضيء أكثر على تفاصيل الخلاف، وتقوم بإغنائه، وفهم تعقيداته. يتابع الكاتب البريطاني، ألان ترافيس، في كتابه «محاصر وممنوع من الكلام: تاريخ سرّي للفحش في بريطانيا»، مخفيّات حكاية العداء المتصاعد بين الإمبراطورية البريطانية والكاتب الأيرلندي الشهير، عبر تحليله للأرشيف السري لوزارة الداخلية البريطانية، وكذلك بمقاطعة المصادر التاريخية والأدبية المتعلقة بالموضوع. تشير محاضر لوزارة الداخلية البريطانية، كان يجب أن تبقى سرّية حتى عام 2037، إلى تسلّط رقابي وعنت فظيعين تجاه رواية جويس الأشهر، «عوليس»، وتكشف أن مدير النيابة العامة البريطاني الذي قرأها، أصدر قرار منعها الذي أبعدها عن القراء بعد أن قرأ 42 صفحة من أصل الـ732 التي يحتويها هذا الكتاب. لا يتعلّق أمر الحظر فقط برقباء داخل جهاز الدولة ورجال قضاء وسلطة فقد اعتمدت أجهزة السلطة، بداية، على عرض لناقد يدعى شاين ليزلي ٍShane Leslie للرواية قال فيه، إنه يجب عدم السماح لنسخ الكتاب بالطباعة في بريطانيا، وشبّهه بتفجيرات كليركينويل (تفجيرات قام بها أيرلندي من تنظيم سرّي ضد سجن في لندن) للموقع التقليدي للآداب الكلاسيكية الإنكليزية، المبنيّة والمحروسة بقوة.
الكتب القذرة يجب حظرها
توصيف ليزلي مهم لأنه يرى أن عمل جويس قدم «كل ما لا يمكن ذكره في سياق الأعراف الحضارية تم كشفه لضوء النهار من دون أي حجاب من اللياقة»، لكنّ توصيفات الرقيب لا تقلّ كشفاً عن منظومة تفكير السلطات، الأدبية منها والحكومية، حول فهم الأدب، والرابط بين القمع السياسي والجنسي والديني.
بعد قراءة عدة صفحات ذات طبيعة جنسية يقرر النائب العام البريطاني أرشيبالد بودكين، التالي معلقا على الصفحات 690 إلى 732: «مكتوبة من امرأة فظّة أمّية»، وأن «هناك أكثر من الفظاظة والخشونة. هناك قدر عظيم لم يتم تلطيفه من القذارة والبذاءة»، مؤكدا أن الكتاب «بذيء وغير محتشم»، ورغم إدراك النائب العام أن الكاتب مشهور، وأن قراره سيتعرض لانتقادات، فإن الجواب برأيه هو أن «الكتب القذرة لا يمكن السماح بطبعها». بعد 14 سنة من «حروب جويس» مع الحكومة البريطانية والمناوشات بين السلطات البريطانية ومثقفين وأكاديميين مهمين أصدرت السلطات، تعميما سريا يوقف تفتيش أي طرد يشكّ في احتوائه «عوليس»، وعلّق جويس نفسه أن حربه لعشرين عاما مع إنكلترا انتهت، وكان الكتاب قد باع خلال تلك الفترة قرابة ثلاثين ألف نسخة، وبعد 30 عاما، ومع طبعة شعبية للرواية تحوّلت إلى «بيست سيلر» وطبع منها 250 ألف نسخة في السنة الأولى، ثم 70 ألف، في السنة الثانية، و100 ألف في السنتين التاليتين، وباعت «بينغوين» قرابة 420 ألف نسخة من تلك الطبعة، ويبدو أن المنع قد ساهم في ذلك.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
من وجهة نظري (يا حسام الدين محمد) ليس فقط الروائي، بل كل مُنتِج، في أي مجال لساني أو لغوي أو إنساني بشكل عام، والعلماء المُنتجين أولهم، على أرض الواقع،
هو أول تعليق على عنوان (لماذا قمعت الإمبراطورية البريطانية أشهر روائييها؟) والأهم ما هو دليلي على ذلك؟!
تمثيل عقلية مخابرات، في دولة الحداثة الأوربية، وأسلوب عملي، لكيف يتم تطبيق مفهوم (الهندسة العكسية)، في اختراع آلة، لفك التشفير/الترميز (اللغوي)، قامت هوليوود بإنتاج فيلم رائع تحت اسم (لعبة التقليد The Imitation Game)
وفي نهاية الفيلم، ستجد متى كان تاريخ اعتذار الملكة له،
والفيلم لتبيين كيف تم تسخير الآلة لخدمة الإنسان، وكيف، عقلية الشك والتشكيك، أدت إلى تعذيب وقتل خيرة عقولنا، على أرض الواقع، حتى في بريطانيا، وليس فقط دولنا،
لقد كان جيمس جويس اكثر حظا من ابن بلده اوسكار وايلد الذي اودع السجن لسنتين وبعدها تم نفيه الى فرنسا لتهم اخلاقية.
شكرا عزيزي حسام لكشف هذا الجانب عن الكاتبين الكبيرين. مع تقديري الكبير لانتقائك مواضيع متفرقة وغنية
>>> في عام 1918…. كان الروائي البريطاني – الأيرلندي جيمس جويس يتجوّل في المناطق الفرنسية من سويسرا، مع فرقة تؤدي مسرحية «أهمية أن تكون جادّا» لكاتب أيرلندي آخر هو أوسكار وايلد <<<
في الحقيقة ، لا جيمس جويس كان يرغب في توصيفه بـ"البريطاني" نظرا لثورته الفريدة على كل شيء يتعلق بـ"الإمبراطورية البريطانية" ، ولا أوسكار وايلد كان يحبِّذ أن يُعبَّر عن عنوان مسرحيته كتوجيه أو وعض بصيغة المخاطَب المذكَّر نظرا لما فيه ، جراء ثورته "الجنسوية" ، من تورية بين اسم العلم Ernest وبين اسم النعت Earnest – وهو الذي يعني ، في السياق ، "الرزين" أو "الرصين" أكثر مما يعني "الجاد" !!!؟
أخيرا ، من يظن أن جيمس جويس كان أوفر حظا من أوسكار وايلد لا يعرف شيئا عن أي من الأديبين الإيرلنديين الكبيرين في واقع الأمر !!!؟