دخلت الحرب الروسية الأوكرانية السنة الثالثة، وبدأ الغرب يتبنى خطابا تبريريا للهزيمة، وهو الذي كان يعلم مسبقا أنه لا يمكن لكييف الانتصار في هذه الحرب على موسكو. وعليه، لماذا دفع الغرب بأوكرانيا إلى حرب يدرك مسبقا أنها لن تنتصر فيها، بل قد تهدد وحدتها الترابية؟
وأصبحت الحرب الروسية – الأوكرانية هي ثالث أطول حرب تعرفها القارة الأوروبية منذ بداية القرن العشرين، بعد كل من الحرب العالمية الأولى والثانية، وكان الاعتقاد السائد أنه بعد هاتين الحربين، لن تشهد أوروبا حربا طاحنة، لكن حدث العكس، اندلعت حروب مثلما حدث بعد تفكك يوغوسلافيا، لكن الحرب الحالية هي الأخطر لأنها قد تتطور الى حرب بين الحلف الأطلسي وروسيا بدعم من الصين.
الغرب يتحدث عن جرائم حرب وضرورة محاكمات في حالة الحرب الروسية – الأوكرانية، ويلتزم الصمت والتبرير بشأن جرائم حرب مع حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني
وجاء في الكثير من الصحف الغربية عناوين من قبل «أوكرانيا: محاولة البقاء على قيد الحياة»، كما ذهبت إلى ذلك جيدة «الباييس» يوم الاثنين من الأسبوع الجاري، في تلخيص للوضع الصعب الذي تمر فيه أوكرانيا بعد سنتين من الحرب. والواقع أنه مع السنة الثالثة من الحرب، تمر أوكرانيا بأسوأ مراحلها التاريخية، ويتجلى ذلك في فقدان قرابة 15% من ساكنتها، ولاسيما الشباب الذي غادر البلاد ورفض الانخراط في حرب يدرك أنها مدمرة، ولا يمكنه الانتصار فيها. فقدت البلاد أكثر من النصف من ناتجها القومي الخام، كما فقدت 20% من أجود أراضيها، بعدما ضمت روسيا منطقة الدونباس إلى وحدتها الترابية. وتجد أوكرانيا نفسها اليوم في وضع عسكري صعب، تبخر حلم استعادة الأراضي التي فقدتها، بل تتخوف من أن تخسر أراضي جديدة، إذا قرر الجيش الروسي التقدم. ومع بداية السنة الثالثة للحرب، تراجع الاهتمام الغربي بأوكرانيا، ولم يعد زعماء الغرب يعلنون عن مساعدات عسكرية واقتصادية كبرى، بل بدأوا يحسون بأن أوكرانيا تحولت إلى عبء كبير وخطير عليهم، والمثير في الأمر، يتمنون حدوث تغيير سياسي في أوكرانيا بوصول قوى سياسية موالية لروسيا، أو متعاطفة معها لتمد معها جسور الحوار لإنهاء الحرب. ولم يجاز الغرب أوكرانيا بضمها على الأقل للاتحاد الأوروبي، وليس بالضرورة إلى منظمة شمال الحلف الأطلسي. والمفارقة الكبرى هو اعتبار الغرب الكثير من المساعدات بأنها قروض طويلة المدى، وبدأت الشركات الغربية تستعمل آلات الحساب لمعرفة كم ستربح عند انطلاق إعادة إعمار أوكرانيا. كان الغرب يدرك جيدا استحالة انتصار أوكرانيا على روسيا، غير أنه فضل دفع هذا البلد إلى الحرب، والأخطر هو عرقلته مفاوضات السلام والتوقيع على هدنة وقف الحرب، وعلاقة بالنقطة الأخيرة، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحوار الشهير الذي أجراه معه الصحافي تاكر كارلسون منذ ثلاثة أسابيع، أن القوات الروسية انسحبت من حصار العاصمة كييف خلال الشهور الأولى من اندلاع الحرب كبادرة حسن نية بعدما توصل المفاوضون الروس والأوكران في تركيا إلى هدنة وقف إطلاق النار. ويضيف أن ما حدث هو تعرض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الضغط من طرف الغرب، وبالتحديد بريطانيا والولايات المتحدة، وفق قوله، لكي يتراجع ولا يوقع على الاتفاقية.
نعم، الحرب الحالية هي نتاج تدخل روسيا العسكري ضد أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط سنة 2022، وهي الدولة المعتدية، لكن هذا لا يعني تهميش الجذور الحقيقية للنزاع، ومنها عدم التزام الحلف الأطلسي بتعهداته بعدم التوسع نحو أوروبا الشرقية، وأساسا بضم أوكرانيا. ويدرك الغرب فوبيا روسيا من حدودها الغربية، فهي كانت دائما مصدر الأخطار التي هددتها، خاصة عندما حاول الإمبراطور الفرنسي نابليون غزوها ثم مع أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية. يجري التساؤل: لماذا تملصت برلين وباريس من اتفاقيات مينسك التي تمنح لساكنة إقليم الدونباس الحكم الذاتي؟ والتي لو كان قد جرى تطبيقها واحترامها، لما وقعت هذه الحرب. كان الغرب يدرك صعوبة الانتصار على دولة كبيرة، أولا نووية، ثانيا، لديها أحدث الأسلحة، ثالثا تمتلك الاكتفاء الذاتي تقريبا في كل شيء من غذاء ودواء وصناعة مدنية وعسكرية. وكانت الاستخبارات العسكرية في بعض الدول مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا تدرك هذه الأمور، وهو ما جعل عواصم هذه الدول تتردد كثيرا في دعم أوكرانيا إلى مستوى تعرضها لاتهامات بأنها رهينة المصالح مع موسكو ومنها الغاز. وعلى الرغم من هذه العوامل الاستراتيجية التي تمنع هزيمة روسيا، دفع الغرب الأنجلوسكسوني بأوكرانيا الى مواجهة روسيا بدل منح الدونباس الحكم الذاتي لتفادي الأسوأ. لقد كانت خطط الغرب غير دقيقة، اعتقد بإمكانية تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية وهي: أولا، استنزاف روسيا عسكريا واقتصاديا، ثانيا، إيقاظ مختلف الإثنيات لانهيار روسيا على شاكلة انهيار الاتحاد السوفييتي بداية التسعينيات، وأخيرا إضعاف الصين من خلال إضعاف روسيا حتى لا يتبلور الثنائي الصيني – الروسي ويساهم في ظهور خريطة جيوسياسية جديدة للعالم.
لم يعد مصير أوكرانيا يقلق كثيرا الغرب، بل القلق حاليا هو كيف يمكن احتواء الحرب الحالية حتى لا تمتد إلى أوروبا. والمفارقة الكبيرة هو أنه عندما يجري الترويج لضعف روسيا، تفيد التقارير العسكرية في مختلف الدول الغربية بتخوف حقيقي من توسع الحرب، والصعوبة في مواجهة الآلة العسكرية الروسية، لهذا يتم تسريع إجراءات عسكرية مثل الاتفاق الثلاثي بين هولندا وألمانيا وبولندا بتحرك الجيوش، من دون بيروقراطية. ويجري الحلف الأطلسي منذ يناير/كانون الثاني الماضي وحتى مايو/أيار المقبل مناورات متسلسلة باسم Steadfast Defender ، بمشاركة 90 ألف جندي، هي الأكبر منذ الحرب الباردة لمواجهة أي طارئ مع روسيا. وعن هذه المناوات، قال الأدميرال الهولندي روب باور، رئيس اللجنة العسكرية للحلف الأطلسي بأن «التدريبات تعد بمثابة إعداد لصراع محتمل مع روسيا». وتأتي هذه الحرب، لتكشف السقوط الأخلاقي للغرب من خلال ازدواجية المعايير التي يتعامل بها، فهو يتحدث عن جرائم حرب وضرورة محاكمات في حالة الحرب الروسية – الأوكرانية، ويلتزم الصمت والتبرير بشأن جرائم حرب مع حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. لا يمكن تفضيل ضحايا على آخرين، لكن ما يزعج قادة الغرب هو عندما تقول لهم: كم من المدنيين، خاصة الأطفال سقطوا في الحرب الأوكرانية – الروسية، وكم سقطوا في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين؟ هنا يصاب صانع القرار الغربي بالصم والبكم.
كاتب مغربي